أثر الصلاة في النفس المؤمنة2
4 - (وجعلت قرة عيني في الصلاة)
في هذا العصر الذي تعقدت فيه الحياة، وزادت فيه الضغوط على النفس البشرية وفقد فيه الإنسان الكثير من الطمأنينة التي كانت توفرها له بساطة الحياة قديماً، وقلة متطلباتها، وقناعته التي كانت كنزه الذي لا يفنى، في هذا العصر الذي قلّ فيه العمل اليدوي الذي يتطلب انهماك الفكر واليد والتركيز فيما يصنع الإنسان، وحلّت الآلة محله إلى حد كبير، وصار يمكن للإنسان أن يدير آلة بقليل من التركيز، وكثير من الملل والسأم. في هذا العصر الذي تكدست فيه الملايين في مدن مليئة بالضجيج والحركة، وحرم فيه هؤلاء من هدوء الحقل والجبل والشُطآن.
في هذا العصر الذي ضعفت فيه الروابط الأسرية والاجتماعية، وشحن الإنسان فيه بالعداء للكون كي يتحمس لقهره، والسيطرة عليه، فازداد الإنسان عزلة حتى وهو يعيش بين الملايين، وازدادت عزلته وغربته بعد أن صار يتصور الكون والطبيعة عدوين يجب أن يقهرهما.
في هذا العصر ازداد العبء على عقل الإنسان وركبته الهموم، فصار يعيش في همومه أكثر مما يعيش في واقعه الآني. صار شارداً في حديث نفسٍ لا يكاد ينتهي، فهو دائماً يخطط للمستقبل، ذلك الذي صار كابوساً مخيفاً وصارت توقعات المصاعب فيه أكثر من توقعات النّعم والمسّرات.
في هذا العصر صارت لحظات الانتباه التام إلى اللحظة الراهنة والمكان القائم، الذي يكون فيه هذا الإنسان بلا انشغال للفكر بشيء آخر، صارت هذه اللحظات من الانتباه رفاهية وكمالية لا تتاح للكثيرين.
لقد نسي إنسان الحضارة الحديثة كيف يوقف حديث نفسه الدائم، ليفتح عينيه على ما حوله ومن حوله، وليصغي بأذنيه وقلبه لمن حوله وما حوله، وصار تعليم هذا الإنسان كيف يعود إلى انتباهه، وكيف يحضر قلبه إلى حيث هو، صار ذلك اختصاصا وتجارة.. فمن دروس في اليوغا، إلى دروس في التأمل التجاوزي، إلى دروس في الاسترخاء العضلي، إلى دروس في التنويم المغناطيسي الذاتي، إلى دروس في الإخبار الحيويّ الراجع Biofeedback من أجل التحكم بسرعة ضربات القلب، ومقدار توتر العضلات، بل والتحكم بموجات الدماغ الكهربية. كل ذلك من أجل دقائق قليلة أو كثيرة من السّكينة النفسية، والتوقف عن حديث النفس وما يحويه من هموم أو ذكريات.
لكن المؤمن الذي يصلي لله تعالى كل يوم خمس مرات منذ أن يبلغ السابعة من عمره، هذا المؤمن يقوم إلى صلاته ليصليها بإتقان وإحسان، وكأنه يرى الله أمامه ينظر إليه وهو يؤديها.
"... قال فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنما تراه، فإن لم تكن تره فإنّه يراك" (صحيح مسلم). إنه يصلي وهو يستشعر حضور الله. قال صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنّه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة" (البخاري حديث رقم 397).
إنه دائما يُصلي وهو يحاول أن يكون حاضر القلب يعلم ما يفعل وما يقول، أي: منتبهاً وليس ساهياً شارداً في حديث النفس، فهو يعلم أن انتباهه وحضور قلبه لا بد منهما حتى يتحقق في صلاته الإتقان والإحسان، حتى أن عمار بن ياسر رضي الله عنه كان يقول: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه.
وقد حثّ الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين على التركيز في صلاتهم والانتباه لما يقولون ويفعلون فيها، وعلى عدم السهو والاستغراق في حديث النفس أثناءها، فجعل لمن ينجح في أداء ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه جائزة عظيمة جداً، وهي أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه.
روى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ذات مرة ثم قال: "من توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قام فصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه بشيء غفر الله له ما تقدم من ذنبه" (رواه النسائي في سننه في كتاب الطهارة).
إن حضور القلب في الصلاة، وإيقاف الفكر خلالها عن انشغاله المزعج بحديث النفس والتفكير بما مضى أو ما قد يأتي.. إنّ هذا الحضور للقلب، والسكينة التي يجلبها للنفس من أهم الأسباب التي جعلت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم وراحته: (أرحنا بها يا بلال..) وقرّة عين وراحة لكل المؤمنين من بعده.
5 - تنهى عن الفحشاء والمنكر - أ
إن الصلاة وتلاوة القرآن تولدان في النفس ناهياً عن الفحشاء والمنكر، ولكن كيف يتم ذلك؟ الآلية الأولى التي يمكن أن يتولّد بها هذا الناهي في النفس من الصلاة وتلاوة القرآن هو الحالة التي يسميها علماء النفس (التنافر المعرفي) cognitive dissonance. إذ يرى المؤمن الذي يصلي لله خاشعاً والذي خشع قلبه لذكر الله فيتلوه ويلين له، هذا المؤمن يكون مفهومه لذاته، وتصوره لنفسه أنه (إنسان مؤمن طائع لله). وهذه الفكرة الصحيحة عن نفسه تتعارض مع الفكرة والتصوّر الذي ينتج عن وقوعه في الفحشاء والمنكر، وهو أنه: (إنسان عاص لله متّبع لهواه).
وقد وجد علماء النفس أن اجتماع تصوُّرين ومفهومين متنافرين متعارضين لدى الإنسان عن ذاته يسبّب له انزعاجاً وضيقاً ويدفعه إلى التخلص من هذا التنافر بين ما يعرفه عن نفسه، وذلك إما بالامتناع عن سبب هذا التنافر وهو هنا الوقوع في الفحشاء والمنكر، وهذا ما ذكره الله عن المتّقين الذين إذا فعلوا فاحشة ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ولم يصرُوا على ما فعلوا وهم يعلمون، وإما أن يحلّ الإنسان التنافر بتغيير ما يؤمن به بخصوص السلوك المسبب للتنافر المعرفي لديه، وهذا مستحيل هنا إذ لا يمكن للمؤمن أن يرى في الفحشاء والمنكر إلا عصيانا لله وإتباعا للهوى.
أما إن استمر في الجمع بين الحالين المتنافرين فإنّه سيبقى يعاني من التوتر والانزعاج الذي يدفعه ويحثه على إزالة هذا التنافر، وبذلك يكون لديه في نفسه من الدوافع ما ينهاه عن الفحشاء والمنكر. أما الآلية النفسية الثانية التي يمكن للصلاة وتلاوة القرآن أن تشكلا بوساطتها ناهياً نفسياً للمؤمن عن الفحشاء والمنكر فهي آلية "الذكر واليقظة" حيث لا يمكن للمؤمن أن يقع في الفحشاء والمنكر دون إكراه إلا وهو في حالة من "الغفلة" أو ما يسميه علماء النفس "الإنكار denial" حيث يتصرف الإنسان وكأن الأمر الذي يعلم بوجوده لا وجود له، فالمؤمن يقع في الفحشاء والمنكر حين يمارس هذا الإنكار النفسي، والتغافل عما توعّد الله به من العقوبة على هذه الفحشاء أو ذلك المنكر، وهذا والله أعلم معنى ما جاء في الحديث الشريف من أنّ المؤمن لا يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن... إلخ.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". فهذا لا يعني أنّه ساعة ارتكابه للزنى أو السرقة كان كافراً مرتداً، إنّما كان لا يعيش حالة الإيمان المُتَيَقِّظ الواعي الذاكر، إنّه أبداً لم يغيّر عقيدته لحظة الزنى أو السرقة، إنما تغافل عنها، وأبعدها عن شعوره، تماما كما يفعل المصاب بالجلطة القلبية وهو يصر على الاستمرار في بذل الجهد الذي ينهاه عنه الأطباء لما فيه من خطورة على حياته.
إنه لا يريد أن يعيش بمشاعره ما يعرفه بعقله، من أنّ قلبه مريض، وأنه لم يبق ذلك القوي المعافى، وهكذا المؤمن عندما يستجيب لشهواته، يبقى عقله مدركاً لحقائق الإيمان كلها، ولخطورة ما يرتكبه، لكنه يزيح هذا الإدراك عن شعوره ووعيه، ينكره نفسياً، أو بالمصطلح الإسلامي: يتغافل عنه.
وهنا تأتي الصلاة خمس مرات كل يوم بوضوئها وقيامها وركوعها وسجودها، وتأتي تلاوة القرآن في الصلاة وخارجها لتجعل من الصعب على المؤمن أن يتغافل، أو ينكر نفسياً ما يعلمه من أنّ الفحشاء والمنكر يضعانه في خطر الوقوع في عذاب الله، وبذلك تكون الصلاة والقرآن مصدري نهي نفسيّ عن الفحشاء والمنكر. أمّا إن وقع هذا المؤمن التقيّ في المحظور فإنه سرعان ما يعود، فيذكر الله، ويستغفر لذنبه، قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)" (آل عمران:135-136).
من كتاب سكينة الإيمان ط2
تأليف الدكتور محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي في مركز
كيور كير في جدة في السعودية
ويتبع: أثر الصلاة في النفس المؤمنة4
واقرأ أيضا:
الهُوال_2 PTSD: / أثر الصوم في نفس المؤمن5