الصيام.. أوله في النفس وآخره عند الله1
رمضان ومستويات اللغة
لكم ضاعت منا ساعات وليالٍ طوال نحاجج أنفسنا ونحاجج بعضنا البعض بعقولنا التي أنهكتنا وأتعبتنا ويحرص كل منا على إثبات جدارته وفصاحته وقدرته على إفحام أقرانه، ونظن أننا انتصرنا حين فعلنا ذلك وأننا ألزمنا الآخرين الحجة وألزمناهم مسئولية العمل بما نرى، ولكننا نكتشف أننا أورثنا نفوسهم العداوة والبغضاء ضدنا وضد ما ننادي به من أفكار.
والآن نشعر بالجوع والعطش والتعب ونحن صائمون فتسكت ألسنتنا وتخمد عقولنا وننظر إلى بعضنا البعض محاولين استخدام لغة أخرى هي لغة القلب، وهي لغة أكثر طيبة وأكثر بساطة وسماحة، لا تحتاج نحوا أو صرفا، ولا تفرق بين غني أو فقير، وتتجاوز حدود الثقافات والأقطار، ولا تحتاج لترجمات أو ضبط مصطلحات، لغة يعرفها الجميع وفي نفس الوقت لا يستطيع أحد أن يصفها، هي كما قال أحدهم في وصفها "سر عام".
ثم نكتشف ونحن نقوم الليل في ركن من أركان البيت، وقد أطفأنا المصابيح وأغلقنا المذياع والتلفاز والحاسوب والتليفون المحمول، نكتشف أننا انشغلنا بالناس أكثر من اللازم، وأعطيناهم أكثر مما يستحقون، بل إننا انشغلنا بهم عن الله، هنا تشق الروح عتمة الجسد لتمضي صعدا إلى عالم الخلود والطمأنينة والرضا في رحاب الله القدسية متجاوزين البشر والحياة واللغات والصراعات والعلاقات والتعلقات.
صيانة دورية للضمير
لا يعرف أحد أين يوجد الضمير في الإنسان، أهو في دماغه أم عقله أم قلبه أم روحه؟، بل لا يعرف أحد تعريفا دقيقا له غير أنه: ما تضمره في نفسك ويصعب الوقوف عليه، فهو شيء خفي أشبه برادار يلتقط الإشارات ويصنفها أهي من جانب الخير أم من جانب الشر، أي أنه استعداد نفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار والتفرقة بينها، واستحسان الحسن واستقباح القبيح. وعلى الرغم من خفاء الضمير واختفائه، إلا أنه قوة إدراكية عظمى في النفس البشرية، تتفحص الأقوال والأفكار والأعمال وتصل إلى جوهرها بعد تجاوز الألوان البراقة والأشكال الخادعة، وقد يحاول الإنسان في ظروف ما أن يخدع ضميره بمبررات أو إيهامات أو إيحاءات كاذبة، وقد ينجح هذا لبعض الوقت، ولكن الضمير ينهض من سقطته ويخرج من كهف عميق في النفس ليعلن الحقيقة ويمارس الوخز المستمر لصاحبه ليوقظه من غفلته ويخرجه من خداعه لنفسه أو لغيره، وهنا قد يضيق الإنسان ذرعا بالضمير، فيحاول قتله نهائيا بالتمادي في الخداع والتقلب في الملذات والولوغ في الموبقات، وقد يموت الضمير فعلا، ولكن يموت معه القلب وتضيع معه بوصلة الاهتداء فيجري الإنسان بلا وعي أو هدى خلف كل ناعق. وربما يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قصد الإشارة إلى تلك القدرة الفطرية في داخل النفس والتي تستطيع بشكل غامض التفرقة بين الخير والشر حين تتضارب الفتاوى والأقوال، فقال صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك"، ذلك الميزان الخفي العفي القابع في أعماق النفس يوقظها ويوخزها ويهديها وسط الخطوط المتقاطعة والمتشابكة.
ولكن هذا الضمير قد تتداعى عليه الأدران وتتكالب عليه المبررات فتشوش عليه أو تحاول طمسه، ولك يحتفظ بتوهجه وقدرته على العمل فلا بد له من صيانة دورية، والصلاة صيانة يومية للضمير (أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه خمس مرات في اليوم والليلة، أيبقى من درنه شيء؟ قالوا لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلكم الصلوات الخمس)، والصيام صيانة سنوية (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، والحج صيانة عمرية (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). ولكل دورة صيانة مزاياها، فالصلاة صيانة متكررة وسريعة، والصيام دورة طويلة ومكثفة، والحج دورة شديدة العمق والتأثير والتغيير. ونطق الشهادتين نؤديه أمام الناس، والصلاة والحج نؤديهما مع الناس، والزكاة نؤديها للناس، والدعوة إلى الله نؤديها في الناس، أما الصيام فإنه العبادة المتفردة التي نؤديها أمام الله ومع الله ولله وفي الله، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به".
وطهارة الضمير هدف أساسي للصيام كما يتضح من قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، فالتقوى هنا هي عودة البوصلة الداخلية إلى طريق الحق وتخلصها من وسائل التشويش والتشويه والتضليل، وإذا لم يتحقق هذا الأمر فإن الصائم لا يجني من صيامه إلا إجهاد الجوع وعذابات العطش كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".
تعتعة جمود النفس
في بعض الأمراض المزمنة قد يكتسب الجسد مناعة ضد تأثير العلاج الدوائي، وهنا إما أن نغير الدواء نفسه أو أن نوقفه بعض الوقت ثم نعاود إعطاءه، أو أن نعطيه بشكل زجزاجي (متقطع أو صاعد هابط)، كل هذا في محاولة لإيقاظ وتنشيط مستقبلات الدواء. والنفس البشرية قد تصل إلى هذه الحالة من البلادة بسبب الألفة والنمطية واستمرارية الأشياء، وهنا يحتاج الأمر إلى تعتعة (تعبير التعتعة، وتعبير العلاج الزجزاجي يعود الفضل في استخدامهما إلى أستاذي الفاضل العزيز د.يحيى الرخاوي)، لتحريك جمود النفس وتكلسها ومواتها، وهذا يتم من خلال ذلك التغيير الشامل في نظام الطعام والشراب وتناوبهما مع الجوع، وأيضا في تغيير مواعيد النوم واليقظة، وتغيير طقوس اليوم والليلة، والطقوس الاجتماعية والعبادية.
ولكن يبقى التناوب بين الجوع والشبع وبين العطش والارتواء تناوبا بيولوجيا مؤثرا في كل الوظائف العقلية والقلبية والروحية. فألفة الطعام تميت الإحساس بقيمته وألفة الشراب تميت الإحساس بطعمه وأهميته، وألفة الجنس تذهب بحلاوته، لذلك فإن قطع هذه الألفة بالحرمان يوقظ الحواس مرة أخرى ويبرز قيمة الأشياء.
كما أن حالة الشبع من الطعام والشراب والجنس مع استمرارها وألفتها قد تشكل سحابة تحجب ومضات العقل ونبضات القلب وإشراقات الروح، ولا تصبح هذه الأشياء متاحة على شاشة الوعي إلا بالإخفاء المتناوب لحالات الشبع والتخمة على مستوى الجسد. فشيء من الحرمان الحسي يتبعه عطاء رغيد يمثله الإفطار عند أذان المغرب كنموذج مصغر لعطاء لا نهائي نعجز عن تخيله نناله يوم القيامة (للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه)، وبين هذا وذاك يستشعر الصائم ومضة سماوية في قلبه وروحه تصل إلى قمتها في ليلة القدر حين تتناغم موجته مع موجات السماء فيظهر ذلك دمعة في العين وخشوعًا في القلب ورعشة في الجوارح وانتعاشا في البدن، تلك ولادة جديدة، وصفحة بيضاء ممدودة لتلقي الأعمال في عام جديد.
وكما يقول الحكماء فإن "كل ما يضعف به جسدك تقوى به روحك"، فثمة علاقة عكسية بين تخمة الجسد وصحوة الروح، فتخمة الجسد تستدعي فوران الشهوات وضمور الهمة والروح، ولهذا قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا".
وقد عدد عالم النفس الشهير ماسلو احتياجات الإنسان في صورة هرم قاعدته الاحتياجات البيولوجية (الطعام والشراب والمأوى والجنس) يعلوها الاحتياج للأمن، يعلوه الاحتياج للحب، يعلوه الاحتياج للتقدير الاجتماعي، يعلوه الاحتياج لتحقيق الذات، ولو أنفق الإنسان عمره وأعمارا فوق عمره لم يصل إلى إشباع كل هذه الاحتياجات المتعطشة والملحة والطامعة، وفي ذات الوقت فإن حالة من القناعة والرضا قادرة على ملء جنبات النفس بالسعادة، وهذا هو حال الزهاد في الدنيا الذين سعوا إلى الله فملأ حبه كل جنبات حياتهم فلم يبق فيها احتياجا ملحا أو طمعا مذلا، فكان تطلعهم إلى الله وطموحهم إليه سببا في استعلائهم واستغنائهم وتساميهم عما يقتتل عليه الناس من حطام الدنيا وتوافهها وزوائلها.
والصيام يؤكد أن أي شيء (عدا الله) يمكن الاستغناء عنه، وأن تعلقاننا بالطعام والشراب والجنس ليست تعلقات مصيرية، بل هي مجرد وسائل لغايات أعلى وأعمق. وكثير من الناس يردد: لا أستطيع التوقف عن السجائر، لا أطيق الصبر على الشراب، لا أملك نفسي أمام امرأة جميلة، ويشكل حياته بناء على هذه الحتميات، ويصنفها فيما لا طاقة له به، ويبرر لنفسه الانغماس والتورط بناء على فرضية عدم القدرة أو ضعف الاستطاعة، فيأتي الصيام ليؤكد له تهافت هذه الفرضيات ويؤكد له إمكانات الاستغناء والاستعلاء والسيطرة، فقط بشرط واحد حين تطمح النفس نحو الله فترى كل ما على الأرض وقد تضاءل. وقديما قال الشاعر:
والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا تُردُّ إلى قليل تقنع
ويتبع: الصيام.. أوله في النفس وآخره عند الله3
واقرأ أيضا:
إعادة شحن الكراهية / التحليل النفسي لشخصية نتنياهو -دكتاتور إسرائيل-4