اضطراب الشخصية الحدية أو ما يُعرف عالمياً هذه الأيام باضطراب الشخصية الغير مستقرة (أو متوازنة) عاطفياً من أكثر الاضطرابات النفسانية المثيرة للجدل في الطب النفساني. هناك من يستنتج بأن هذا الاضطراب امتداد لاضطراب كرب ما بعد الصدمة وهناك من يستنتج بأنه نتاج الثقافة العالمية الراهنة وتطبيب المشاكل السلوكية وغير ذلك. يشكل الاضطراب عبأً كبير على الخدمات الصحية النفسانية، والأدلة الإحصائية على فعالية العقاقير والعلاجات النفسانية ليست مثالية ومقنعة دوماً. لكن رغم ذلك ما يقبل به الجميع الآن بأنه اضطراب نفساني ولا جدال في ذلك.
يجب التركيز أولاً على التمييز بين سمات شخصية حدية، شخصية حدية، واضطراب الشخصية الحدية. التمييز بين هذه المجموعات الثلاث ليس بالأمر السهل مهنياً، ولكن القاعدة العامة هو أن مرحلة الاضطراب هو ما يتم تشخيصه في مراجع يصل إلى مراكز الطب النفساني. اضطراب الشخصية الحدية يمثل نموذجاً للطبيعة المعقدة لتفاعل الجينات والجهاز العصبي والظروف البيئية لتفسير الاضطرابات النفسانية عموماً. أصبحت الأبعاد العصبية البيولوجية أكثر وضوحاً في السنوات الأخيرة والأدلة عموماً تنطوي على الاستجابة للإجهاد الذي يتعرض له الإنسان والاختلافات الهيكلية والوظيفية في المناطق المعنية بالعاطفة والإدراك.
التشخيص السريري يعتمد على تسعة معايير ويكفي وجود خمسة منها للتشخيص استنادا إلى المجلد التشخيصي الإحصائي الخامس Diagnostic and Statistical Manual V DSM V وهي:
١- علاقات شخصية قوية غير مستقرة.
٢- الغضب الشديد.
٣- جهود حميمة لتجنب هجر الآخرين.
٤- عدم الاستقرار (التوازن) العاطفي.
٥- سلوكيات اندفاعية.
٦- إيذاء النفس التكرر والميول الانتحارية.
٧- شكوى مزمنة من الضجر.
٨- ميول زورانية اضطهادية وقت الأزمات.
٩- اضطراب الهوية وأعراض تفارقية Dissociative.
نطاق هذه المعايير يعكس حقيقة واحدة وهي أن تشخيص اضطراب الشخصية الحدية تشخيص غير متجانس، ويُضاف إلى ذلك المعدلات المرتفعة لاضطرابات نفسانية أخرى تصاحب هذا الاضطراب، وبسبب ذلك من المفضل استيعاب اضطراب الشخصية الحدية عبر ثلاثة أبعاد وهي:
١- عدم الاستقرار أو التنظيم العاطفي.
٢- الاندفاع السلوكي.
٣- اختلال اجتماعي وظيفي.
يمكن استحداث نموذج لاضطراب الشخصية يستند على وجود عوامل جينية وضغوط بيئية تؤدي إلى ردود فعل للضغوط وهذه بدورها تعكس اختلال الوظيفة الاجتماعية المعرفية.
هناك مجموعة نظم بيولوجية اجتماعية يستعملها الإنسان في مواجهة التحديات الطارئة تدعى النظام الوظيفي الشخصي للطوارئ Interpersonal Emergency functioning system، ولكل إنسان عتبته الخاصة به، وعتبة الإنسان الذي يعاني من اضطراب الشخصية الحدية عتبة منخفضة ويتميز عند تفعيله كما يلي:
١- تحفيز نظام التعلق Attachment system.
٢- فقدان القدرة على استعمال التفكير العقلي المنطقي لاستيعاب تصرفات وأفكار ومشاعر ورغبات الآخرين والفرد نفسه.
٣- وبعد ذلك يتم اللجوء إلى سلوكيات اندفاعية وتهورية.
الاختلال العصبي الوظيفي
١- محور تحت المهاد-الغدة النخامية – الغدة الكظرية1 Hypothalamic-Pituitary-Adrenal Axis: آثار هذا المحور اهتمام البحوث العلمية منذ فترة طويلة والاستنتاج الحديث هو أن استجابة الجسم لإفراز هرمون كورتيزول تحت التعرض لضغوط وإجهاد في المصابين باضطراب الشخصية الحدية أضعف من غيرهم، ولكن في نفس الوقت مستويات تركيز كورتيزول في المصابين بالاضطراب في أي وقت أعلى من غيرهم ذلك يفسر ضعف استجابة الغدة الكظرية أضعف وقت الإجهاد. ما يعنيه ذلك أن هناك شعور مستمر بالتوتر والإجهاد طوال اليوم.
٢- هرمون أوكسيتوسن2 يساعد في التثقيف الاجتماعي وينطبق ذلك على المواقف السلبية التي تؤدي إلى عدم الشعور بالثقة والمواقف الإيجابية التي تساعد على زرع الثقة بالآخرين. يتم ذلك في الدماغ عن طريق:
أ- دعم شبكة بروز الدماغ Brain Salience Net التي تدفع الإنسان نحو اكتساب سلوكيات اجتماعية تكيفية.
ب- دعم دائرة النظيم الوجداني Affect Regulation Circuit.
ج- المسار الحوفي الانسي Mesolimbic وتحسين تجارب المكافأة الاجتماعية.
يتعلم الإنسان في مسيرته متى يثق بالآخرين ومتى لا يثق فيهم. هذه العملية في المصابين باضطراب الشخصية الحدية غير طبيعية وتفسر صعوبة استيعاب سلوكياتهم عند التواصل مع الآخرين.
٣- حجم اللوزة Amygdala هناك إجماع شامل في الدراسات3 بانخفاض حجم اللوزة في المصابين باضطراب الشخصية الحدية بمقدار 14% مقارنة بالآخرين حتى مع عدم إصابتهم باضطراب نفساني آخر. كذلك تشير بعض الدراسات إلى انخفاض حجم الحصين. لكن بحوث تصوير الدماغ الوظيفية فنتائجها متناقضة نوعاً ما، ولكن ما يمكن استنتاجه أن هناك اختلال في التنفيذ الجبهي الوظيفي Frontal Executive Functions من جراء تفاعل عاطفي متزايد.
٤- العامل الوراثي4: تشير العديد من الدراسات إلى وجود تاريخ صدمة مركبة فيما لا يقل عن 90% من الحالات، ولكن هناك تاريخ عائلي لاضطرابات نفسانية مختلفة فيما يقارب 50%. ما يمكن استنتاجه بأن وجود تاريخ عائلي للاضطرابات النفسانية يرفع من احتمال الإصابة باضطراب الشخصية الحدية.
النموذج العصبي النفساني
اضطراب الشخصية الحدية ومفهوم الشخصية الحدية بحد ذاته يعكس تفاعل البيئة والدماغ في دفع الإنسان نحو عملية إجهاد مستمر. هناك اختلال وظيفي في تنظيم تعلق الإنسان بالآخرين والتواصل معهم بسبب اختلال وظيفي لهرمون التعلق أو ما يعرف أحيانا بهرمون الحب (أوكسيتوسن). يصاحب ذلك اختلال فعالية اللوزة المسؤولة عن تنظيم العواطف ومراجعة الذكريات المخزونة في الخصين Hippocampus. ينتج عن ذلك اختلال وظيفي إداري مصدره الفص الجبهي والجهاز الحوفي. تؤدي هذه العوامل الثلاث إلى تفعيل مستمر لمحور تحت المهاد- الغدة النخامية – الغدة الكظرية. ينتج عن ذلك عدم استقرار عاطفي واندفاع سلوكي واختلال وظيفي اجتماعي.
مصادر:
1- Drews E, Fertuck E, Koenig J et al. Hypothalamic-pituitary-adrenal axis functioning in borderline personality disorder: A meta-analysis. Neurosci Biobehav Rev 2019; 96: 316-334.
2- Herpertz S & Bertsch K. A new perspective on the pathophysiology of borderline personality disorder: a model of the role of oxytocin. Am J Psychiatry 2015; 00: 1-12.
3- Minzenberg M, Fan J, New A et al. Frontolimbic structural changes in borderline personality disorder. J Psychitr Res 2008; 42(9): 727-733.
4- Lis E, Greenfield B, Henry M et al. Neuroimaging and genetic s of borderline personality disorder: A review. Journal of Psychiatry & Neuroscience 2007; 32)3): 162 -173
واقرأ أيضا:
الوصفات الطبية للشخصية الحدية / العلاج النفسي لاضطراب الشخصية الحدية