تأملات نفسية في الزكاة1
وتزكّيهم :
الصدقات-وعلى رأسها الزكاة- تطهر نفوس المؤمنين، وهي في الوقت نفسه فيها النماء، والزيادة، والبركة، وهذه مكاسب اقتصادية تعمّ المجتمع المسلم أغنياءه وفقراءه. ولدور الزكاة وباقي الصدقات في النمو الاقتصادي في المجتمع جوانب اقتصادية بحتة، والجوانب الاقتصادية البحتة أترك بحثها لأصحاب الاختصاص في الاقتصاد، وان كنت أُشير هنا إشارة عابرة إلى أن الصدقات والزكاة بالذات تزيد من القوة الشرائية في المجتمع، إذ الزكاة توزّع حيث المال (إلا في أحوال خاصة) وعندما توزع على فقراء المجتمع، الذي أنفقها أغنياؤه، فإن الازدهار والرواج في أسواق المجتمع الناتجة عن هذه الأموال من زكاة وصدقات أخرى يعود نفعها على الأغنياء أنفسهم، لأنهم هم أصحاب التجارات والصناعات وغير ذلك.
والزكاة مع تحريم الربا تُوجد في المجتمع تفاعلات اقتصادية مختلفة كثيراً عما هو الحال في المجتمعات الغربية ذات الاقتصاد الحر، مع أن الاقتصاد في الإسلام حرّ إلى حدّ كبير، والذي يتابع الإجراءات التي تتخذها الدول الغنية هذه الأيام لعلاج الأزمة الاقتصادية التي ضربتهم يجد أنهم يقتربون بالتدريج من الاقتصاد الإسلامي حيث خفضوا سعر الفائدة على القروض من البنوك إلى نصف بالمائة في بريطانيا وإلى واحد وربع بالمائة في باقي دول الاتحاد الأوربي، وهم يقتربون من إلغائها نهائياً ليشجعوا على قيام مشاريع جديدة تشغل العاطلين،كما ضخت الحكومات مليارات الدولارات في المجتمع لتحسين قدرة الناس على الشراء لتنتعش أسواقهم من جديد، وهذا يذكرنا بالزكاة ودورها في تحسين قدرة المجتمع على الشراء مما ينشط التجارات والصناعات ويقي من الكساد.
وأعود إلى الجانب النفسي المؤثر في الاقتصاد الذي من خلاله تكون الصدقات عموماً، والزكاة خاصة، نماءً وزيادة وبركة للمجتمع. ولفهم هذا الجانب نعود لنتذكر الحكمة التي من أجلها فاوت الخالق سبحانه وتعالى في عطائه بين الناس، فكان منهم الفقير ومنهم الغني.وهذه الحكمة الهامة هي في إيجاد الدافع لدى أفراد المجتمع ليقبلوا العمل في المهن المختلفة الشاقة أو اليسيرة، كل بحسب احتياجه، وبحسب الفرصة المتاحة له، وهذه الفرص هي من فضل الله الذي يتفاوت من فرد إلى آخر.
وعندما توجد الحاجة المالية يوجد الدافع إلى العمل، فالنفس البشرية فيها شهوة الراحة، والكسل، والتفرغ للهو والتمتع، ولولا الحاجة فلربما لم يعمل من الناس إلا القلائل الذين سيكون عملهم مدفوعاً بدوافع نفسية أخرى. وكلما استغنى الإنسان مال إلى رفض العمل الشاق، أو رفض العمل العمل ذي الأجر الرخيص، وسعى إلى عمل أقل مشقة، وأعلى أجراً. وقد بيّن المولى هذه الحكمة من تفاوت الناس في عطاء الله عندما قال: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(32)) "الزخرف:32".
ومن خلال الزكاة والصدقات الأخرى يتحقق التكافل الاجتماعي في المجتمع، حيث تتأمن حاجة الفقير؛ الذي عجز عن العمل، أو الذي عمل لكن دخله لا يكفيه.
وفي القرن العشرين وجدت صيغ أخرى للتكافل الاجتماعي في المجتمعات الصناعية وبخاصة الغربية، لكنها لا تقوم على الصدقات بل على الضرائب المفروضة على الجميع، وفرض على أصحاب العمل أن يدفعوا إلى الهيئات المسؤولة عن الضمان الاجتماعي مبلغاً يكاد يعادل المرتب المدفوع للعامل أو الموظف لديهم، وذلك عن كل عامل أو موظف لديهم، وهذا يعني أن العامل الذي يتقاضى سبعة آلاف شهرياً يكلف صاحب العمل حوالي الأربعة عشر ألفاً، ومن هذا المال الإضافي الذي يدفعه صاحب العمل تقوم الحكومة بصرف رواتب لمن خسر عمله ريثما يحصل على عمل جديد. وهذا يؤدي إلى شعور العامل بقدر من الأمان، إذ لصاحب العمل الحرية في فصله من عمله متى شاء، وفيه قدر من الأمان للمجتمع حيث يستغني العاطل عن العمل عن الجريمة لتأمين احتياجاته الأساسية، لكن هذا النوع من الضمان الاجتماعي، وهذا الشكل من التكافل لا يخلو من مساوئ وأهم هذه المساوئ أن العاطل عن العمل يزهد فيما يعرض عليه من أعمال، ما لم يكن المرتب المعروض أكبر بكثير مما يحصل عليه شهرياً من الضمان الاجتماعي، فإن كان يتقاضى من الضمان الاجتماعي خمسة آلاف مثلاً وأتته فرصة عمل مرتبها سبعة آلاف، فإنه سيرى أنه سيعمل من أجل ألفين، ولا يرى الألفين كافيين مقابل جهده وعمله، فيرفض هذا العمل، وينتظر عملاً بأجر أعلى، والبعض قد يُؤثر الحياة البسيطة بمرتب الضمان الاجتماعي، ويزهد في العمل كله.
وكل هذا يؤدي إلى ارتفاع الأجور في المجتمع وغلاء السلع المنتجة فيها وغلاء الخدمات.. وهذا ناتج إلى حد كبير عن عدم تحرج العاطل عن العمل من البقاء معتمداً على المعونة الاجتماعية، لأنها تأتيه من الحكومة، والحكومة بالنسبة للمواطنين كالأب بالنسبة لأولاده لا يخجلون من الانتفاع من عطاياها، أما الزكاة وباقي الصدقات، فإنها تشكل مصدر أمان للفقير؛ الذي يمكن أن يفقد عمله أو صحته، وأمان للمجتمع من أية جريمة ناتجة عن الاحتياج أو عن الحقد والحسد. لكن الزكاة وباقي الصدقات وإن كان الأصل أن تجمعها الحكومات وتوزعها على مستحقيها، فإن المؤمن يتحرّج من الاعتماد عليها، ومن التكاسل عن العمل طالما أنه يأتيه من الزكاة ما يكفيه، فالمؤمن الذي يحتاج خمسة آلاف في الشهر لنفقته ونفقة عياله، سيعمل ولو بثلاثة آلاف، كي يقلل من اعتماده على الصدقة ما أمكن، فكيف لو أتته فرصة عمل تؤمن له الخمسة آلاف كلها؟ أتراه يتردد أو يترفّع عنها؟ إنه يعلم أن الصدقة بما فيها الزكاة لا تحلّ لقويً، ولا لذي مِرَّة سويً إلا ريثما يعمل، وإلا للضرورة الحقيقية.
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّةٍ سوي) قال أبو محمد: يعني قويّ (رواه الدارمي في سننه). وقد كَرَّه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين من السؤال، فقال: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم) (رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثُراً فإنما يسألُ جمراً، فليستقل أو ليستكثر) (رواه سلم). وهذا الحديث يبيّن حرمة أكل الصدقة لمن ليس في حاجة إليها. كما حثّ الني صلى الله عليه وسلم على العمل مهما كان شاقا، وقليل الأجر، ليستغني المؤمن عن الصدقات بأنواعها بما فيها الزكاة. قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس، خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه ذلك، فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول.) (رواه مسلم).
وقد تحمّل أحد الصحابة حِمالةً، أي: مبلغاً من المال تكفل بدفعه ليفضّ خصومة بين متنازعين وذلك بهدف الإصلاح فيما بينهم، فلجأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالباً المعونة في هذه الحمالة التي تحملها، يقول قبيصة بن مخارق الهلالي: تحمّلت حمالةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) قال: ثم قال: (يا قبيصة! إن المسألة لا تحلُ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش (أو قال: سداداً من عيش)، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش (أو قال: سداداً من عيش) فما سواهن من المسألة يا قبيصة سُحت يأكلها صاحبها سحتاً) (رواه مسلم).
وعن أبي سعيد الخدري أنّ ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: (ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يُعفّه الله، ومن يستغني يُغنه الله، ومن يصبر يُصَبِّرْه الله، وما أُعطي أحد من عطاء خيراً وأوسع من الصبر) (رواه مسلم).
إنها دعوة إلى العفة وغنى النفس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) (رواه مسلم).
وعن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، قال: (ألا تبايعون رسول الله؟) فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعُك؟ قال: (على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به أحداً، والصلوات الخمس، وتطيعوا (وأسرً كلمةً خفيفة) ولا تسألوا الناس شيئاً) فلقد رأيت بعض أولئك النَفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه. (رواه مسلم).
ولحكمة عظيمة حرّم الله على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله أن يأكلوا الصدقة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: أخذ الحسن بن علي تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة؟!) (رواه مسلم).
ويتبع: تأملات نفسية في الزكاة 3
واقرأ أيضا:
أثر الصلاة في النفس المؤمنة4 / سيكلوجية الإيمان والكفر9