تأملات نفسية في الزكاة 2
وذات مرة قصد شابان من آل محمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان منه أن يوظفهما على الصدقات، كي يستعينا بما يناله العاملون على الصدقات منها، وذلك ليتزوجا، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخُ الناس) (رواه مسلم).
وفي رواية ثانية لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: (إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحلُ لمحمد ولا لآل محمد). والذي يتأمل هذه النصوص يستطيع أن يتصور كيف تقوم الزكاة وغيرها من الصدقات بكفاية المحتاجين في المجتمع، دون أن تُضعف الدافع لديهم للعمل، ودون أن ترفع الأجور في المجتمع، ودون أن ترتفع من جراء ذلك الأسعار، وتضعف قدرة الصناعة في ذلك المجتمع على منافسة صناعات تنتجها مجتمعات فيها يد عاملة رخيصة. وهذا لا يعني أن الإسلام يحرص على بقاء فئة معدمة شديدة الفقر في المجتمع، إذ كلما ارتفع مستوى الحياة في المجتمع، كلما ارتفع الحد الأدنى للدخل الذي يحل للمسلم أن يأخذ من الزكاة والصدقات الأخرى إن قلّ دخله عنه، فليست القضية مجرد لقمة طعام تمنع من الموت جوعاً، أو قطعة ثياب تستر العورة.
لكن التفاوت في المجتمع مفيد للمجتمع، ولا تستقيم الحياة إلا به، فلو انعدم الفقراء من مجتمع استورد الفقراء من المجتمعات الأخرى، وهذا ما نراه في المجتمعات الغنية التي تستورد اليد العاملة؛ التي ترضى بالعمل فيما يترفع عنه أهل ذلك البلد الأغنياء، أو لا يقومون به إلا بأجر مرتفع جداً. إن الزكاة وباقي الصدقات تحل مشكلة الفقر دون أن تضعف الدافعية للعمل ودون أن تتسّبب في الغلاء كما ذكرنا. وإن الإسلام شجع المسلم على العمل والكسب الحلال ليكون للزكاة فاعلاً لا آخذاً، ولم يرض النبي صلى الله عليه وسلم من المسلم أن يتصدق بكل ماله لينضم بعدها إلى الفقراء المحتاجين.
روى أبو داود في سننه (الحديث رقم 1673) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله، أصبتُ هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) (رواه الدارمي أيضا).
كما قال الدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير الصدقة عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول). وروى الدارمي أيضا عن أبي لبابة أنه لما رضي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أهجر دار قومي، وأساكنك وأنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجزي عنك الثلث). فالثلث بمثابة حدّ أعلى.
وقد روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله إني بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: (لا) قلت: فالشطرُ يا رسول الله؟ فقل: (لا)، قلت: فالثلث يا رسول الله؟ قال: (الثلثُ والثلثُ كثير أو كبير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعل في فِيِّ امرأتك).
وقد روى أبو داود والدارمي حادثة قد تتناقض مع ما سبق، إذ رويا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أن نتصدّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوماً. فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟) قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟) قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً.
لكن هذه الحادثة التي تفيد الرخصة في أن ينفق المؤمن نصف ماله، أو كلّ ماله، إنما كانت في ظروف طوارئ وجهاد، إذ بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه في بلاده، وكان ذلك في زمن عسرة الناس وجدب البلاد وشدة الحر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحثّ المسلمين الموسرين على تجهيز المعسرين الذين ليس لديهم مؤونة وسلاح وراحلة؛ ليتمكنوا من الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للقاء الروم في تبوك، وقد سمي الجيش الذي تكون في تلك الغزوة: جيش العسرة. ولتجهيز جيش العسرة أتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، وأتى عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وأتى عثمان رضي الله عنه بعشرة آلاف دينار وثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، وخمسين فرساً، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارض عن عثمان فإني راضٍ عنه). هذه هي الظروف التي قبل بها النبي صلى الله عليه وسلم نصف مال عمر، وكل مال أبي بكر، وهذه ظروف استثنائية، المجتمع كله فيها مهدد.. إنها ظروف حياة أو موت لدولة الإسلام الناشئة، والاستثناء لا يلغي القاعدة، بل يؤكدها، والقاعدة أن الصدقة تكون عن ظهر غنى.
ولنتأمل هذه الآيات الكريمة التي يخاطب فيها رب العالمين رسوله صلى الله عليه وسلم وهو يأمره بالصدقة، أو الكلمة الطيبة والقول الميسور إن لم يكن لديه ما يعطي السائلين، وذلك ريثما تأتيه رحمة من ربه، أي: خير من ربه يُمَكِّنُه من إعطاء أولئك السائلين. إنه في هذا السياق بالذات ينهى رب العالمين رسوله صلى الله عليه وسلم وينهى معه كل مؤمن عن أن يبسط يده كل البسط، فيقعد ملوماً محسوراً، إنما هي الصدقة التي تترك المؤمن غنياً، لا التي تأكل ماله وتتركه في زمرة الفقراء المحتاجين، يقول تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً(26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً(27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً(28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً(29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً(30)) (الإسراء: 26-30).
إن المؤمن قد يحسُ بالتقصير والذنب إن أمسك خيراً لديه، ولم يعطه للسائلين والفقراء، لكن الله يطمئن المؤمن أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدره، أي: يضيّقه على من يشاء لحكمة يراها، إنما على المؤمن الاعتدال بحيث تكون صدقته عن ظهر غنىً، وبحيث يبقى من المؤمنين الذي قال عنهم المولى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)) "المؤمنون:1-4".
وإنني لا أدعو المؤمنين إلى الإقلال من صدقاتهم، إنما أدعوهم لئلا يشعروا بالذنب عندما يقرؤون عن بعض الزهاد الصالحين أنهم كانوا ينفقون كل ما يأتيهم، فلو أن كل مسلم أخرج زكاة ماله فلربما لا يحتاج الأمر فوق الزكاة شيئاً، أو ربما لزم بعض الصدقات مع الزكاة.
والمؤمن الذي يقتصر في إنفاقه على جزء من ماله، ويبقي لنفسه أغلب ماله ليس مذنباً، ولا مقصراً، فبقاؤه غنياً يعني أنه سيتصدق مرات ومرات، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع. قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)) "البقرة: 219". قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية الكريمة: (والعفو: ما سهُل، وتيسَر، وفضلَ، ولم يشق على القلب إخراجه.. فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة).
واقرأ أيضا:
أثر الصلاة في النفس المؤمنة4 / سيكلوجية الإيمان والكفر9