وُصِفَ فرويد ذات مرة بأنه مؤسس مدرسة التحليل النفسي، فأجابَ بأن المؤسس الحقيقي لها هم الشعراء!!
ويبدو من قراءة الشعر، أن معظم الشعراء لديهم قدرات التعبير عن خلجات النفس البشرية، ويخبرون قوانين تفاعلات البشر مع بعضهم، ويصفون بأشعارهم معايير السلوك ونظرياته.
وفي الشعر العربي ابتداءً من المعلقات وما قبلها، نجد إبحارا ذكيا في أعماق النفس البشرية، فالمعلقات قدمت تحليلا أصيلا للنفس وعلاقتها بمحيطها، وأوضحت سماتها وآليات تفاعلاتها الراسخة المؤثرة في المجتمع.
وكل معلقة تعد بحثا نفسيا وتحليلا موسوعيا للأعماق العربية، وأغلب الشعر الشائع يتعلق بالسلوك، وما يجيش في النفس من نوازع ودوافع ورغبات، ومن المعروف أن من أسباب خلود شعر المتنبي وشيوعه، قدرته على قول ما في النفس البشرية.
فأشعاره غنية بالأبيات التي يكثف فيها آليات الأعماق ويرسمها بحذاقة ومهارة فائقة، ولا تخلو قصيدة من قصائده من بيت مشحون بوصف تشريحي لآلية نفسية مهيمنة على السلوك.
وعندما نقرأ ديوانه، كأننا نقرأ كلمات لمحلل نفسي، تعلم كيفيات الغوص في لجج الأعماق البشرية.
وقد سألني أحد الأخوة الأكادميين المعروفين عن الشعر وتأثيراته النفسية، فقلت له بأنني أستخدمه في العلاج، فاندهش لما قلته، وأكدت له بأنني أستخدمه في العلاج، حيث أجتمع بالمرضى، وكل منهم قد كتب شعرا فيقرأه على مسامع المجموعة، ونبدأ بمناقشته وسبر أغوار ما فيه من خلال ما كتبه، وأعطيه الوصفة الشعرية اللازمة لشفائه وتدبير تفكيره، ومداواة جروحه ودمامله النفسية واضطراباته السلوكية.
وقد وجدت أن للشعر دور في التأثير على الحالة النفسية والسلوكية.
فالشعر دواء كأي دواء آخر.
فقال الأستاذ، بأنه يريد أن يحضر جلساتي الشعرية العلاجية مع المرضى ليكتب عنها، فأجبته بأسلوب لطيف، بأن ذلك من المحذورات في عالمنا البعيد.
وبخصوص الشعر العربي فيمكنه أن يكون أحد العلاجات النفسية الناجحة للمرضى، خصوصا إذا ترافق مع الموسيقى والغناء، أي أن يُغنى الشعر على أنغام الموسيقى، وبألحان ذات تأثيرات وإيقاعات نافعة وشافية لجراح الروح والنفس.
وقد يسألني البعض ، بأن ما أتحدث عنه أشبه بالخيال، وأقول بأني تعلمت كتابة الشعر من مرضاي، وأخذت أتأمل ما يكتبونه وأضع لهم العلاجات الشعرية، وفقا لما أراه مناسبا للحالة المبثوثة في شعرهم، ومع الأيام تعلمت الشعر، وصار عادتي اليومية وطريقتي في معالجة العلل النفسية، وأكثر ما أكتبه هو تعبيرات عن علاجات ذهنية تعلمتها من مؤسس هذه المدرسة العلاجية الفعّالة في صناعة السلوك الأرشد.
قلت تعلمت الشعر بالعربية عندما كنت أمارس الطب النفسي في بلادي الأم، وتعلمت كتابته بالإنكليزية في بلاد المهجر، وأيضا من مرضاي، فما شدّ انتباهي أن المريض النفسي في الحالتين يكون ميالا لكتابة الشعر، ولا زلت حتى اليوم أعتبره أحد الوسائل النافعة المساهمة في تحقيق التعافي والهدوء عند المريض.
وكم كنت أتمنى أن أكون مع مرضى يتكلمون العربية، لكي أتمكن من صياغة آلية علاجية شعرية نافعة، فالشعر العربي الموزون الذي يلتزم العروض الشعرية، له تأثيرات علاجية فعّالة، لأنه ينظم الأفكار ويضعها في إيقاعات متناسقة دقيقة ومنضبطة، مما يساهم في إعادة ترتيب الأفكار في دماغ المريص، ويعيد إليه قدرات التفكير الأصلح أو الأسلم.
فالشعر بوح فكري وروحي ونفسي بصيغة الكلام، وعندما يتكلم المريض شعرا يجد العارف بالموازين الشعرية، أن هناك اضطراب في الإيقاعات وخلل في التواصلات ما بين الكلمات والعبارات، وفي بعضها اقتراب كبير من البحور الشعرية، وخصوصا البحر السريع.
وما يساعد في علاج المريض هو إعادة كتابة ما أباح به بطريقة أخرى، وتقديمه له كوصفة عليه أن يعيد قراءتها أو يحفظها، وبهذا التكرار المنظم يستطيع أن يقرن أفكاره بنظام وإيقاع، ويدرك الاقتراب الأسلم لما فيه وحوله.
وما أصاب الشعر العربي من نزعات اضطرابية، وهجمات على الكتابة العروضية، ربما أسهم في تحقيق اضطراب التفكير في المجتمع العربي، مما أدّى إلى تداعي السلوك والفهم والتفكير المنظم الموزون.
وبضعف الشعر العربي العمودي، وفقدانه لدوره في الحياة العربية، أضحى السلوك في غياهب التيهان والعشوائية المدمرة!!
واقرأ أيضاً:
الأمر الواقع ليس بواقع!! / البقرة والاقتصاد!!