أمسكت بالسكين ونظرت إلى الخروف المربوط إلى جذع الشجرة الملحقة بحديقة البيت، "يا له من خروف مسكين.. ولكنه قد حُكم عليه بالإعدام! سوف أذبحه بهذه السكين لكي أطبخه لدعوة الغداء اليوم"، هكذا فكرت وهي تتقدم بهدوء باتجاه الخروف. وقفت وراءه تماما وهي تحدق به ورفعت السكين حتى حاذى نصلها مستوى عينيها:
واحد ، اثنان ، ثلاثة.. الآن..
ولكنها تراجعت فجأة وأعادت السكين لتسكن إلى جانبها وأمالت رأسها وهي لا تزال تحدق بالخروف المسكين. إنه كان قد أحنى رأسه إلى إناء الماء وأخذ يشرب، إنه شيء معروف بأن المحكوم عليه بالإعدام يتم سؤاله قبل تنفيذ الحكم عن رغباته فتنفذ ومن ثم ينفذ الحكم، فلتكن هذه رغبة الخروف الأخيرة.. أن يشرب الماء.. "فلأدعه يشرب ومن ثم أذبحه".
جلست على الأرض وهي لا تزال قابضة على السكين في انتظار انتهاء الخروف من الشرب، "ها قد انتهى" .. قامت من مكانها بهدوء وتقدمت من جديد إلى الخروف ورفعت السكين ومدت يدها للإمساك برأسه وأمالته للخلف ومن ثم لتمرر السكين بسرعة على نحره، فلن يشعر بالألم. ولكن لا!! بل سيشعر بالألم.. ولكن لثوان معدودة فقط. تسمرت يدها في مكانها وأخذت تنظر إلى الخروف باستغراب، إنه ينظر إلى نقطة بعيدة نوعا ما.. لا بد أن هنالك شيئا ما قد لفت انتباهه. تتبعت عيناها مسار نظر الخروف، فإذا هو ينظر إلى قرص الشمس الآخذ في الظهور.. إنه ينظر إلى الشروق.. شروق فجر جديد.. إنه ينظر إلى ولادة يوم جديد.. "ياللمسكين! فهو لا يعرف أن شروق هذا الفجر إنما هو نذير شؤم عليه، حيث في الوقت التي تكون فيه هذه الشمس في أوج حرارتها عند الظهيرة سيكون المسكين في البطون". فكرت قليلا: "لماذا أحرمه من جمال منظر الشروق؟! لماذا لا أدعه يشاهد الشروق ويستمتع به لآخر مرة ومن ثم أذبحه؟". نظرت في عينيه السوداوين الصغيرتين المتجهتين إلى قرص الشمس، فإذا بشعاع الشمس قد انعكس فيهما ناعمًا خفيفًا.. "نعم، سأدعه يشاهد الشروق وسأشاهده معه".
عاودت الجلوس على الأرض بجانب الخروف وهي لا تزال قابضةً على السكين، ووجهت نظرها إلى الشروق وسرحت بأفكارها. اليوم ستكون أول دعوة غداء تقوم هي بإعدادها بنفسها وقد أصرت على إثبات نفسها عن طريق تحضير كافة الأطعمة دون مساعدة من أحد. أخذت الشمس تتوهج شيئًا فشيئًا.. تتوهج وتلمع في السماء.. وهي مركزة بصرها عليها حتى شعرت بأن كل شيء حولها قد تحول إلى اللون الأبيض ولم تعد ترى شيئًا آخر.. بل إنها ترى.. الذئاب ترقص.. الكلاب تعوي.. الغربان تنعق.. مجموعة من عيون البوم تنظر إليها.. وجيف الأطفال مسجاة على الرمال.. وأشياء أخرى!
أفاقت من تأملاتها على ضوء يلمع في يدها، أزاحت نظرها كالآلة عن قرص الشمس ونظرت إلى الضوء في يدها الذي ما كان إلا عبارة عن سكين حادة تلمع تحت وهج الشمس. لم تعرف كم من الوقت استغرق تأملها وتساءلت عن سبب وجود السكين في يدها، وأخذت تتأملها باستهجان. وفجأة جذبت انتباهها حركة بجانبها، فنظرت لتجد الخروف يتململ ويتحرك بكسل، فعادت إلى رشدها.. الدعوة.. الخروف.. "لا بد أن أذبحه الآن فليس هنالك وقت.. يجب أن يأخذ الوقت الكافي في الفرن حتى ينضج".
قامت من مكانها وتقدمت بسرعة وباعدت ما بين ساقيها وحنت ركبتيها قليلا وأمسكت بيدها الأخرى برأس الخروف وأمالته للخلف ووضعت السكين على نحره.
بسم الله الرحمن الرحيم.. آه.. لا..
نظرت إلى نصل السكين فوجدته غير مسنون، "يالغبائي!.. لقد فقد النصل حدته.. ويجب أن أعاود تسنينه ثانية.، هكذا كلمت نفسها وقد أطلقت سراح الخروف وهرولت إلى المنزل.. إلى المطبخ.. تبحث عن المسن على العلاقة المثبتة على الحائط.. في الأدراج.. "أين هو؟". بعثرت أدوات المطبخ في عصبية شديدة.. "ليس هناك!". ركضت إلى غرفة النوم.. نعم تذكرت.. إن المسن لا يزال هناك، فقد باتت طوال الليل ساهرةً تسن نصل السكين!
جلست على حافة السرير ومدت يدها ببطء تحت وسادتها وتناولت المسن، أخذت تحك نصل السنين بين حواف المسن بسرعة وهي تسمع صوت الاحتكاك.. "تشك.. تشك". أخذ الصوت "يشكشك" في رأسها ولم تعرف كم من الزمن استغرق ذلك حتى فقدت حركة السكين ذهاباً وإياباً معناها في عينيها ولم تعد ترى سوى.. ذئاب ترقص.. كلاب تعوي.. غربان تنعق.. مجموعة من عيون البوم تنظر إليها.. وجيف الأطفال مسجاة على الرمال.. وأشياء أخرى!!
يالغبائي!..
هكذا صاحت عندما شعرت بشيء ساخن يلامس جلدها، سائل أحمر ينساب من إصبعها.. إنه الدم. رمت بالمسن على السرير وهبت من مكانها، ربطت جرحها بخرقة بالية وجدتها في طريقها وهي خارجة.. ولا تزال قابضةً على السكين.. نظرت إلى السكين وقربتها قليلا من خدها. كانت السكين على بعد سنتيمترات قليلة من وجهها، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تشعر بوهجها الحار يلفح خدها. أنزلت السكين إلى جانبها برضى، الآن لن يشعر الخروف بالألم.
التقت عيناها وهي في طريقها إلى الحديقة بالساعة المعلقة على الحائط، فوجدت أنها قد أمضت ساعتين بالتحديد وهي تسن نصل السكين!! لقد تأخرت كثيرا، ويجب عليها أن تذبحه الآن. هرولت راكضة عبر الباب واتجهت من فورها إلى الضحية.. ولم تكد تخطو خطوتين باتجاهه حتى سمعت رنين الهاتف بصوته المرتفع يشق سكون المكان من الداخل. فكرت مرتين "هل أجيب؟.. الهاتف يرن.. ولكن كائنًا من كان فلن أجيبه حتى أنتهي من عملي".
تجاهلت رنين الهاتف وهي متجهة إلى الخروف.. شهرت سكينها.. ولكن "تبًا لهذا الرنين المزعج! فلن أتمكن من إتمام عملي إلا بعدما أتخلص من هذا الرنين". عادت راكضةً إلى المنزل وقد قررت أن تصب جامّ غضبها على المتحدث كائنًا من كان.
نعم!.. أجل هذه أنا.. لا داعي للقلق فكل شيء على ما يرام.. ماذا؟.. الأرز؟!.. لا ليس بعد.. ولا الحساء أيضًا.. قلت: لا داعي للقلق فعندما يأتي الضيوف سيكون كل شيء على ما يرام على الطاولة.. الخروف!.. آه.. إنه.. لا.. سأفعل الآن.. متى ستأتي؟.. حسنًا.. لا تقلق.. لا داعي لأن تشترى الطعام الجاهز... وداعًا.
أعادت السماعة إلى مكانها بغضب، إنه لا يثق بها كالمعتاد.
عادت إلى الحديقة حيث تستكين الضحية بانتظار رحمة السماء. توجهت إليه مباشرةً ودونما تردد. تجاهلت نظرة الاستعطاف التي لمحتها في عينيه ودارت حوله وباعدت ما بين ساقيها وقبضت على رأسه ولكنه ركلها بقدميه وأخذ يشط وينط كثور هائج.
ابتعدت بسرعة من مكانها وحمدت ربها أن هذا الخروف مقيد بحبل متين وإلا لكانت الآن.. آه.. استعادت أنفاسها وأخذت تقيم خصمها وقد عقدت حاجبيها "إنه عنيف.. إنه ليس مسكيناً كما تصورت.. يا له من ماكر! هل اعتقد بأنه إن تظاهر بالاستكانة لكان كسب عطفي؟!!".
لقد قالت لنفسها منذ البداية: "إذا قلت بأنك تستطيعين فإنك تستطيعين، وإذا قلت بأنك تريدين فإنك حتمًا قادرة على أخذ أو فعل ما تريدين". فهل سيغير هذا الخروف الماكر من قراراتها في شيء؟؟
شدت قبضتها على مقبض السكين الطويل وتقدمت نحو الخروف غير مبالية بهياجه، ولكن الخروف أخذ يضربها بقدميه في بطنها. شعرت بالآلام المبرحة وكأنها ستسقط جنينها! ارتمت على الأرض.. نعم.. إنها ستفقد جنينها لا محالة، ولكن ما الأهمية الآن؟.. على أية حالة هي ما رغبت يوماً بحمل هذا الطفل، ماذا كانت ستقدم له بأي حال من الأحوال؟؟ الفراغ.. التشرد.. الضياع.. التخاذل.. العار.. أم ماذا؟!!
ازدادت قبضتها قوة وهي تشد على السكين ، تقدمت باتجاه هذا الوحش.. هذا الذئب غير مبالية بآلامها. ركضت نحوه وركلته في بطنه كما فعل بها، هدأت ثورته قليلا.. ربما بسبب ما يعاني من ألم، فانتهزت هذه الفرصة وأمسكت برأسه وشدته بقسوة وبسرعة إلى الوراء، ومرت بالسكين بسرعة البرق على نحره.
تناثرت الدماء كالنافورة لترشق كل ما حولها.. ومن ثم رمت به إلى الأرض.. فوق الرمال.. توجهت بلا وعي منها إلى منطقة منزوية من الحديقة وقامت بحفر حفرة كبيرة بمخالبها حتى وصلت إلى سطح الصخور ورمت بالسكين فيها، سمعتها ترن في قعر الحفرة وأعادت ردم الحفرة بلا ترتيب.
تحاملت على آلامها وقامت من مكانها وأخذت تجر القتيل إلى البيت. حاولت رفعه إلى الطاولة لتسلخه غير مبالية ببحيرة الدماء التي خلفتها وراءها في الحديقة والبيت، ولكنها انهارت تماماً.. إنها لن تنجح أبداً.. لا.. لن تنجح!!
سمعت طرقًا على الباب، ورويدًا رويدًا أخذ الطرق يزداد توترًا وقوة.. أصوات غريبة تناهت إلى آذانها من الخارج، حاولت الوقوف ولكنها لم تفلح فقد بدأت تنزف بغزارة هي الأخرى كالخروف. في لحظة كسر الباب وتدافع من كانوا بالخارج باتجاهها. ولكنهم تسمروا مذعورين.. مشدوهين.. عندما رأوا المشهد الذي ارتسم أمامهم.. الخروف.. هي.. بحيرة الدماء.. والطاولة.
هي لم تستطع أن تفهم ما كان يجري من حولها أو على ماذا كان الجمع يتفاوض ويتناقش! كانت ترى فقط.. ذئاب ترقص.. كلاب تعوي.. غربان تنعق.. مجموعة من عيون البوم تنظر إليها.. وجيف الأطفال مسجاة على الرمال.. وأشياء أخرى.
واقرأ أيضا:
الرجل الأبيض بقلب الصحراء / أقاصيص..