منذ سقوط بغداد والأندلس والعرب يعانون من محق البطولة وتعزيز مشاعر الإذلال والهوان والدونية وفقدان القيمة والدور، وفي القرن العشرين وما بعده، تم إذاقة البطل العربي أسوأ المصير.
وقد تكررت صورة البطل العربي البراقة والمؤثرة والفاعلة والصاعدة إلى ذروتها والتطويح بها وسحقها بالأقدام، ولازالت مشاهد قتل البطل العربي وإذلاله سارية في مجتمعاتنا، فلا يجوز للبطولة أن تكون قيمة اجتماعية ووطنية، لأنها تتعارض مع المصالح والمخططات وتؤدي إلى النهوض العربي الممنوع.
والأبطال كما هو معروف من إنتاج مجتمعاتهم وإنجازاتهم لا يمكن تحقيقها بدون الطاقة الاجتماعية التي عاصروها، فهم رموز ذلك العصر ودلالاته وعناوينه وراياته، والمجتمعات الحية تلد أبطالها المتوافقين مع قدراتها الفاعلة في الحياة.
والأبطال يحددون معالم الطريق الحضاري للأجيال بتأثير مواصفاتهم وإنجازاتهم وروحيتهم الفياضة، وكأن التأريخ عبارة عن جدارية مرسومة بريشة إرادتهم ومداد قراراتهم ورؤاهم.
فالمجتمعات الحية تصنع أبطالها.
والمجتمعات الميتة تقتل أبطالها.
والمجتمعات الحضارية لا تستغني عن أبطالها لأنها تتحقق فيهم.
ولو افترضنا أن الوطن وعاء إنساني يحوي مجتمعا بشريا قادرا على التفاعل الإيجابي الحضاري، فأنه يلد أبطالا ويمضي في صيرورات ذات قيمة كبيرة في الحياة.
والمجتمع البشري من طبيعته أن يعز أبطاله، ويفخر بهم، لأنهم أنواره المتوهجة التي بها يُرى وتتحدد ملامحه ومسيرته، وما عنده وما فيه من المدخرات الثقافية والروحية والفكرية والعلمية، وغيرها من معايير الإضافات الحية لنهر الحياة الدافق.
وعندما يسعى أي مجتمع إلى إهانة أبطاله، فأنه يعطي الدليل القاطع على أنه مُصادر الإرادة ومقبوض المصير، وأن سيادته لا وجود لها وقيمته ملغاة، وبمعنى آخر أنه مجتمع مملوك من قبل قِوى أخرى تريد تحطيم عظام وجوده وقصم عموده الفقري وتركه بلا حركة وفعل.
وقتل المجتمع لأبطاله سلوك غريب لا يتفق وآليات القوة والقدرة والعزة والكرامة، وانحراف سلوكي جماعي لا يمكن تفسيره إلا بأن المجتمع يعاني من أضرار باثولوجية خطيرة فاعلة فيه، ومدمرة لكيانه ومميزاته ومعالم صيرورته وتواصله.
فعندما يقتل المجتمع أبطاله، فأنه يمحق طاقة وجوده، ويسفك دمه، فتخوي عروقه، ويعجز قلبه ويصاب بغيبوبة حضارية مروعة، لا يتعافى منها إلا في غرف الإنعاش الحضاري التي تكلفه أجيالا وأجيال.
وبعض المجتمعات صار قنل أبطالها نمط سلوكي يتكرر مع تغيير النظام السياسي فيها، ومن أخطر
ما يقوم به النظام السياسي هو قتله للأبطال، لأنه في ذلك يقتل نفسه ويقترب من نهايته، فقتل البطل الاجتماعي يؤدي إلى إنطلاق قوة خفية للثأر من قتلة ذلك البطل، لأنه لم يكن صناعة ذاتية وإنما جماعية تختزن طاقة المجتمع وإرادته المتدفقة.
ولهذا فأن المجتمعات الحية تحمي أبطالها ورموزها ولا تسمح بمسهم بضرر، فمهما كان نوع البطل فأنه يكون في قلب المجتمع ونظامه القائم.
ومن سوء حظ بعض المجتمعات أنها لا تقدّر معاني البطولة وتجهل دور البطل الحضاري، وتحسب أن الأبطال أعداؤها، فتقتلهم، وبقتلهم تقرأ الفاتحة على وجودها، وهذا السلوك من الأسباب الخفية القوية الفاعلة في دائرة الويلات والتداعيات المغلقة فيها.
فهل نحافظ على أبطالنا ونعزّهم لكي نشعر بقيمتنا ودورنا وقدرتنا على صناعة الحياة؟!!
واقرأ أيضًا:
الكلمة والسلوك!! / هل دول المنطقة غنية؟!!