مصادر سكينة الإيمان5
11. أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك
إن القلق النفسي متعلق دائماً بالمستقبل، فالإنسان لا يقلق على ما فات، بل قد يحزن ويكتئب.... إنما قلقه يكون دائماً على ما سيأتي.
وكثيراً ما يعتزم الإنسان فعل أمر هام، ويكون أمامه الخيار أن يفعله أو أن لا يفعله، أو يكون أمامه الخيار أن يفعل أحد أمرين، أو واحداً من أمور كثيرة، في كل أمر منها إيجابيات وسلبيات، فإن فعل أحدها فاته ما في الآخر من خير، أو إن فعل أمرأً معيناً تحققت له المنفعة، وبالمقابل تعرض لخسارة شيء يحبه، عندها يحتار أي الأمرين يختار، فهو يخاف أن يختار لنفسه الشيء الذي لا خير فيه، وأن يفوت باختياره هذا على نفسه خيراً كثيراً، فيقع في صراع نفسي وحيرة، يسميه علماء النفس: صراع الإقدام والإحجام، أي: الإقدام على فعل معين أو الإحجام عنه، وهذا الصراع النفسي يولد في نفس الإنسان قلقاً نفسياً، يشتد كلما اشتد الصراع، وتعاظمت الحيرة.
وهذا القلق من النوع المزعج للنفس، يجعل الإنسان في هم دائم وفكر مستمر، ويحرمه النوم والاستقرار.
وحتى لا نقع في مثل هذا القلق النفسي، أو حتى نعالجه إن وقعنا فيه، علمنا رسولنا محمد ﷺ أن نستخير الله في أمورنا، أي: أن نسأله الخير فيها، وأن يختار لنا ما فيه خيرنا دنيا وآخرة، وتتم استخارة رب العالمين بأن نصلي ركعتين لله تعالى، وبعد الانتهاء منهما والتسليم ندعو بدعاء الاستخارة.
وليس جواب الاستخارة رؤيا أو مناماً، إنما هو هذا الإحساس القلبي الذي يأتي بعدها.
أما دعاء الاستخارة فهو: "اللَّهمَّ إنِّي أستخيرُك بعلمِك، وأستقدرُك بقدرتِك، وأسألُك من فضلِك العظيمِ، فإنَّك تقدرُ ولا أقدرُ، وتعلمُ ولا أعلمُ، وأنت علَّامُ الغيوبِ. اللَّهمَّ إن كنتَ تعلمُ هذا الأمرَ (وتُسمّيه باسمِه) خيرًا لي في ديني، ومعاشي، وعاقبةِ أمري، فاقْدِرْهُ ويسِّرْه لي، ثمَّ بارِكْ لي فيه، اللَّهمَّ وإن كنتَ تعلمُه شرًّا لي في ديني، ومعاشي، وعاقبةِ أمري، فاصرِفْني عنه، واصرِفْهُ عنّي، واقدِرْ لي الخيرَ حيث كان، ثمَّ رضِّني به" (رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي).
وقد شجعنا النبي محمد ﷺ على أن نكرر هذه الاستخارة سبع مرات، وقد لا يستغرق ذلك أكثر من نصف ساعة من الصلاة والدعاء، ثم ننظر إلى إحساسنا القلبي بخصوص ما كنا نهم أن نفعله، فإما أن نرتاح إلى همنا هذا، وينشرح صدرنا لفعله، فنعزم عليه، ونتوكل على الله، أو أن نفقد حماستنا له، وتقل رغبتنا فيه، أو حتى نشعر بالنفور من فعله.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال النبي محمد ﷺ: "يا أنسُ إذا هممتَ بأمرٍ فاستخِرْ رَبَّكَ فيهِ سبعَ مراتٍ ثم انظرْ إلى الذي يسبقُ إلى قلبِكَ فإنَّ الخيرَ فيهِ" (رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة الجزء الأول الصفحة 551) ورغم ما قيل عن ضعف سند هذا الحديث فإن التجربة الشخصية لتكرار الاستخارة سبع مرات متتاليات أثبتت مقدار الراحة النفسية من القلق والحيرة بخصوص ما استخير الله له، ولم استخر الله لأمر سبع مرات وندمت على ما ألهمني الله فعله بعد الاستخارة، لذا أرى في الاستخارة سبع مرات علاجاً نفسياً للقلق الناتج عن الحيرة بخصوص أمر هام لا يماثله علاج.
إن هذا القلق النفسي المتولد عن صراع الإقدام، أو الإحجام عن فعل يبدو للإنسان في فعله فوائد ومضار، وفي تركه فوائد ومضار، ويعجز الإنسان عن ترجيح إحدى الكفتين، لأنه يجهل الغيب، كما هو حال البشر جميعاً. هذا القلق المزعج، كثيراً ما يكون صعب العلاج بالطرق العلاجية المعروفة في الطب النفسي، فحرص الإنسان على الخير، وخوفه من اتخاذ قرار خاطئ، يتسبب في ضرره، أو حرمانه من الخير… هذا الحرص، وهذا الخوف، أمران طبيعيان تماماً، والجهل بالغيب شيء لا يستطيع المعالج النفسي أن يتغلب عليه، لذا كان من الخطأ أن يقوم المعالج بترجيح إحدى الكفتين، وبتوجيه الإنسان القلق إلى قرار معين، قد يتبين خطؤه فيما بعد، فيكون المعالج مستحقاً للّوم.
كما أن قيام المعالج بالاختيار نيابة عن المريض يتنافى مع هدف العلاج النفسي الأكبر، وهو مساعدة المريض على مزيد من النضج والاستقلالية وتحمل المسؤولية. لذا لم يكن هنالك خير من إحالة الإنسان القلق إلى علام الغيوب يستخيره، ويلتمس الهداية والتسديد لديه، فيستنير بنور الإيمان، حتى في أمور دنياه.
12. صريح الإيمان
لا يكتمل الحديث عن القلق النفسي دون الحديث على الوسواس القهري الذي يصيب حوالي اثنين بالمائة من البشر. في الوسواس القهري يسيطر على نفس الإنسان أفكار أو تخيلات أو أفعال هو غير مقتنع بها لكنه لا يستطيع الامتناع عنها إلا بمعاناة توتر مزعج يدفعه إلى القيام بها رغم أنه يراها سخيفة ويخجل أن يطلع الناس عليها.
قد يجد نفسه مثلا مضطراً إذا دخل من باب معين أن يخرج ثم يدخل ويكرر ذلك سبع مرات قبل أن يستطيع الاستمرار في ما كان يريد فعله، هو لا يرى أي معنى لدخوله ثم عودته ثم دخوله ثم عودته ثم دخوله من الباب سبع مرات، لكن يتوتر كثيراً إن لم يفعل ذلك وقد يظن أن مصيبة ستقع إن هو لم يفعل. وقد تسيطر عليه شكوك أن نظافته أو طهارته ناقصة فيضطر أن يغسل يديه عشرات المرات قبل أن يلمس شيئاً يخصه أو يتناول طعامه، وقد يعيد وضوءه ثلاثين مرة قبل أن يطمئن إلى صحة صلاته بهذا الوضوء.
وقد تسيطر على ذهنه تخيلات بشعة تتناقض مع إيمانه وأخلاقه، كالذي يرى نفسه في خياله يمارس الفحشاء مع ابنته، أو يرى في خياله القرآن الكريم مرمياً في مكان قذر أو غير ذلك من صور ذهنية بشعة بالنسبة له لكن لا تفارق خياله.
وقد يحس رغبة قاهرة أن يتلفظ بتطليق زوجته وهو لا يريد ذلك أو أن يشتم الله في ذهنه أو بلسانه وهو رافض لذلك وكاره، لكن الامتناع يولد لديه توتراً نفسياً مزعجاً جداً ولا يرتاح إلا عندما يستجيب لهذه الرغبة القهرية الشاذة فيفعل ما تمليه عليه ثم تسيطر عليه مشاعر الذنب أو الظن أن زوجته قد طلقت.
وقد يشك أنه ارتكب فعلاً شنيعاً ونسي ذلك، كالذي يسأل زوجته كل حين "هل طلقتك؟" أو الذي يشك أنه ربما قتل إنساناً أو التي تشك أنها ربما ارتكبت فاحشة وهي الفتاة العفيفة... أو الذي تسيطر عليه شكوك في الخالق والإيمان تعذبه لأنه لا يريدها ويخشى على إيمانه منها لكنها لا تفارق ذهنه الساعات الطوال كل يوم.
صور عديدة للوسواس القهري، وما ذكرته ليس إلا أمثلة قليلة من مئات الصور الأخرى التي نراها لدى مرضى الوسواس القهري. ولهذا المرض أساس عضوي قوي والاستعداد له وراثي، وهو يشبه تكون غريزة مكتسبة لدى الإنسان لفعل شيء ليس من طبعه وتكوينه، ولكن يصبح غريزة ملحة لديه تشبه الغريزة الجنسية التي تلح على النفس كي تمارس الفعل الجنسي، ولكن الفارق أن الغريزة الجنسية طبيعية وفطرية والإنسان لا يراها سخيفة، وإن كان يدخل في صراع معها خشية الوقوع في الحرام. والأفعال القهرية التي لا يرتاح المريض إلا أن يفعلها تشبه الإدمان على شيء لا يريد الإنسان تناوله أو فعله لكن الرغبة لديه تكون ملحة ومزعجة إن هو لم يستجب لها. والأفعال القهرية السلوكية كالإدمان يمكن أن تشفى بالامتناع عنها والصبر حتى تمر مدة كافية دون الوقوع فيها وعندها تضعف الرغبة فيها وتنكسر، لكن الأفعال القهرية الذهنية لا يفيد فيها إلا الدواء الخاص بالوسواس القهري الذي يقوي في المخ فعالية مادة السيروتونين. ومن الناحية النفسية يفيد المريض كثيراً أن يعلم أن هذه الوساوس الذهنية مهما كانت بشعة فإنها لن تضره ولا تحتاج منه أن يفعل أي شيء ليبطل أثرها في إيمانه أو صحته أو حياته، لأن محاولة فعل شيء يعاكسها يزيد الحالة سوءاً حيث ينضاف إلى الأعراض أفعال قهرية سلوكية.
وعلى ما يبدو فإن الشيطان يستغل الضعف الذي يصيب دماغ المريض بالوسواس القهري ليوسوس له ما يخيفه على ما هو حريص عليه، فيوسوس للمتدين ما يقلقه حول عقيدته أو صلاته أو غير ذلك، ويوسوس للفتاة العفيفة ما يقلقها على عفتها، وللحريص على صحته ما يقلقه على صحته وهكذا.
وقد اشتكى بعض الصحابة للنبي ﷺ من أمور يجدونها في أنفسهم (أفكار وتخيلات) يتمنى أحدهم لو يرمى من السماء إلى الأرض ولا تأتيه من بشاعتها، وفهم النبي ﷺ أنها متعلقة بالإيمان فطمأنهم وقال لهم: "ذاك صريح الإيمان".
عن أبي هريرة قال: "جاءَ ناسٌ مِن أصْحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إنَّا نَجِدُ في أنْفُسِنا ما يَتَعاظَمُ أحَدُنا أنْ يَتَكَلَّمَ به، قالَ: وقدْ وجَدْتُمُوهُ؟ قالوا: نَعَمْ، قالَ: ذاكَ صَرِيحُ الإيمانِ." (رواه مسلم).
وفي رواية أخرى يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "جاءَ رَجُلٌ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال: إنِّي أُحدِّثُ نَفْسي بالشَّيءِ؛ لَأنْ أَخِرَّ منَ السَّماءِ أحبُّ إليَّ من أنْ أتكلَّمَ به، فقال: ذاك مَحضُ الإيمانِ، أو قال: صريحُ الإيمانِ."
وحديثاً أجريت دراسات على الوساوس الدينية فوجد أنها تكثر في الشعوب المتدينة وتندر في الشعوب قليلة التدين، وفي ممارستنا للطب النفسي لا نرى الوساوس الدينية إلا عند المتدينين ووجودها عند مريض مؤشر على إيمانه وهي لا تضر الإيمان ولن يعاقب المؤمن عليها ولن تؤثر في صحة عقيدته وبخاصة أن الله قد تجاوز لنا عما نحدث به أنفسنا ولا يحاسبنا إلا على الأقوال والأفعال.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: "إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ عن أُمَّتي ما حَدَّثَتْ به أنْفُسَها، ما لَمْ تَعْمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ...." (رواه البخاري).
لذا قال الفقهاء إن الرجل لو طلق زوجته في نفسه دون أن يتلفظ بذلك فإنه لا يقع، وهذا مفيد لمرضى الوسواس القهري لما يحسون به من مشاعر ذنب شديدة بسبب ما يمر في أذهانهم من أفكار وشكوك أو تخيلات تتناقض مع إيمانهم.
الوسواس القهري مرض يؤجر المؤمن على الصبر عليه وعلى الصبر على علاجه كما يؤجر على أي مرض آخر حتى لو كان من أعراضه ما يصل لحد الشتيمة للخالق أو التصورات المشابهة للشرك كالذي كلما وقف للصلاة سيطر عليه تصور أن الشخص أو الشيء الذي أمامه هو إلهه، وهو كاره لهذه التخيلات لكنه غير قادر على إيقافها.
لكن المبشر للمرضى أن الأدوية النفسية الحديثة فعالة جداً وهي أدوية لا تسبب الإدمان وآثارها الجانبية في الغالب لطيفة، لذلك لا مبرر لأي مريض بالوسواس القهري أن يحرم نفسه منها ويستمر في معاناته، بل عليه أن يراجع طبيباً نفسياً دون إبطاء لأننا مأمورون بالتداوي ولأن الوسواس القهري يضيع من وقت الإنسان وجهده الكثير فيما لا فائدة منه.
واقرأ أيضا:
سيكلوجية الإيمان والكفر9 / تأملات نفسية في الزكاة 2