كتاب الدماغ: الدماغ النفساني3
خلايا الدماغ والطب النفساني الخلية العصبية(العصبون)
علاقة الطب النفساني بالدماغ تمر عبر عدة مراحل هذه الأيام. هناك أولاً الجينات وتوارثها وتأثيرات البيئة والصدمات عليها. المستوى الثاني لعلوم الطب النفساني البيولوجية تدرس فسلجة الجزئيات والخلية. المستوى الثالث يتعلق بتشريح الدماغ ويليه المستوى الرابع الذي يعني بالفعالية الوظيفية للدماغ. هذه المراحل الأربعة هي حجر الأساس لدراسة الوظائف المعرفية للدماغ ومن بعد ذلك نستوعب معنى التشخيص الطب-نفساني الذي يحصل عليه المراجع.
الخلية هي الوحدة الأساسية لجميع أنسجة الجسم في الكائنات الحية. الخلايا الحيوانية عبارة عن أكياس مغلقة بإحكام مصنوعة من أغشية دهنية ثنائية الطبقة ورقيقة للغاية (ما يقارب ٥ نانومتر) يمتد عبرها بروتينات غشائية مختلفة. غشاء الخلية يفصل المنطقة الكيمائية الحيوية في داخل الخلية المعروفة بالسيتوبلازم من بيئة خارج الخلية والمعروفة بالفراغ خارج الخلية Extracellular Space ، وعن طريق ذلك يتم الحفاظ على تدرجات واختلافات في تركيز أيونات وجزيئات صغيرة عبر الغشاء والمحافظة على البروتينات والإنزيمات داخل الخلية التي تحافظ على استمرارية فعالية الخلية. في دماغ الإنسان يتميز الغشاء كذلك بأنه عازل كهربائي ممتاز غير ملائم للغاية لكيانات ذات شحنة عالية مثل الأيونات الحرة والإلكترونات.
الخلية العصبية أو العصبون Neurone من أكثر خلايا الجسم تطوراً. جسم الخلية يحتوي على نواة تحمل الجينات وشفراتها، ومن جسم الخلية هناك غصون Dendrites وزائدة طويلة واحدة نسميها المحوار Axon التي تنقل الإشارة العصبية من خلية إلى خلية أخرى. المحوار يتكون من خلايا شفان Schwann Cells محاطة بمادة مياليني، وهذا الكساء يدعى بالغمد المياليني Myelin Sheath. هذه الخلايا والغمد مقسمة عبر عقد نسميها رانفييه Ranvier’s Nodes وترى الإشارات العصبية تقفز من عقدة إلى أخرى وهذا ما يسرع بنقل الإشارات. ينتهي العصبون بنهايات تسمى نهايات العصبون Axon Terminals التي تتصل بعصبون آخر، ومن خلال ذلك يتم نقل الإشارات الكهربائية والكيمائية من خلية إلى أخرى. تتلقى الخلايا العصبية النموذجية في حدود/ عشرة آلاف متشابك من خلايا أخرى وترسل مخرجاتها عبر الفروع المحورية إلى عدد مماثل من الخلايا العصبية.
في نهاية العصبون هناك ما نسميه الكنب المشبكي Synaptic Knob الذي يتشابك مع خلية أخرى خلال فسحة نسميها فتح مشبكي.Synaptic Cleft الكنب المشبكي يحتوي على المقتدرة Mitochondria التي تجهز الطاقة وحويصلات متعددة تحتوي على ناقلات عصبية كيمائية Neurotransmitters. غشاء الكنب المشبكي يحتوي على قنوات يمر عبرها ايون كالسيوم، في حين أيون صوديوم يطوف بحرية في الفتح المشبكي ويتم استقباله عبر قنوات الصوديوم في غشاء العصبون المستقبل للعصبون الناقل.
يتميز الدماغ البشري بوجود عباءة خارجية هي المخ Cerebrum مع قشرة مخية حديثة Neocortex وهي طبقة سطحية سمكها ما بين ٢- ٣ مم، مغطية القشرة المخية الاقدم التي تسمى القشرة البدائية Allocortex. القشرة الدماغية مطوية بشكل متقن في البشر وتعطي مساحة إجمالية تبلغ ما يقارب ربع متر مربع. القشرة المخية الحديثة في غاية الأهمية للعديد من الوظائف المعرفية العليا للدماغ ولها بنية نمطية، ورغم بعض الاختلاف من منطقة وأخرى، فهي عموماً تتكون من ست طبقات.
يتم دعم الخلايا العصبية (العصبون) من قبل مجموعة أخرى من الخلايا تسمى الخلايا الدبقية Glial cells وعددها يقارب عدد الخلايا العصبية وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً وتلتف حولها وتوفر دعم الطاقة وتعيد تكرار جزيئات الإشارات (أجهزة الإرسال) التي تم إطلاقها من العصبون،
هذه المقدمة المبسطة تساعد على استيعاب ماذا يحدث في الخلية العصبية مع استعمال العقاقير الطبنفسانية المختلفة ومن أقدمها ملح الليثيوم.
ليثيوم Lithium
أيونات الليثيوم تساعد أولاً على استقرار نشاط الخلايا العصبية عبر تخللها في قنوات الصوديوم التي تولد جهد الفعل الكهربائي Action Potential في العصبون. متى ما تم ذلك يتم إعادة ضبط النقل العصبي الاستثاري Excitatory والنقل العصبي المثبط. هذه الفعالية بدورها تؤدي إلى السيطرة على أكثر الناقلات العصبية الكيماوية الاستثارية في الدماغ وهوغلوتاميت Glutamate. هذا الناقل العصبي يلعب دوره في التعليم والذاكرة والمزاج. يتوفر هذا الناقل العصبي بوفرة في الفراغ المشبكي ويتم استرداده وإفرازه بصورة دورية مستمرة1.
في نفس الوقت يثبط ملح ليثيوم انتقال ناقل كيماوي آخر هو دوبامين Dopamine وبسبب ذلك يتم استعماله لعلاج الهوس. هناك فرضية تفسر اضطراب الهوس الثناقطبي وهي فرضية اختلال التنظيم الدوري2 Cyclical Dysregulation Hypothesis ومفادها كالآتي. مع الهوس يزداد انتقال دوبامين بين الخلايا وهذا بدوره يؤدي إلى رد فعل الخلية العصبية بتقليل التنظيم إلى الأسفل Down-regulation ويعني ذلك خفض عدد المستقبلات الخاصة بالدوبامين. انخفاض عدد مستقبلات دوبامين يؤدي بدوره إلى الاكتئاب. هذا التنظيم السفلي يحدث أحيانا مع عدم انتظام النوم، البدانة، استعمال المخدرات، الإسراف في استهلاك الدهون المشبعة، والضغوط البيئية.
الليثيوم كذلك يحفز من انتقال ناقل كيمائي مثبط وهو حمض غاما أمينوبوتيريك Gamma Aminobutyric والذي يشار إليه باختصار بـ GABA. هذا الناقل الكيمائي تختلف فعاليته في الدماغ الناضج حيث يكون مثبطاً، ولكنه استثاري المفعول في الدماغ الذي لا يزال يمر بعملية النضوج وهذا ما يفسر تأثير بعص العقاقير المعاكس في مراحل بعد وقبل البلوغ.
تحفيز انتقال GABA يتم كذلك عن طريق عقاقير بنزودايازابين Benzodiazepines التي يتم استقبالها عبر مستقبلات خاصة بها. هذا ما يفسر استعمال هذه العقاقير في علاج نوبات الهوس الحادة3 حيث يفضل استعمال عقار طويل الأمد في الفعالية وهو كلونازيبام لفترة طويلة أو عقار لورازيبام لفترة قصيرة. كلما ارتفعت ألفة العقار للمستقبلات ازداد احتمال الإدمان ولذلك لابد من تجنب عقار ألبروزلام Alprazolam قدر الإمكان.
لا يوجد تعريف واحد لمفهوم تثبيت المزاج4 لأنه لو يوجد اضطراب نفساني يتميز فقط بعدم ثبات المزاج أو يحمل مثل هذا الاسم. حين يتم استعمال عقار مثبت للمزاج فذلك يعني انخفاض شدة وتكرار نوبات هوس واكتئاب أو عدم تدهورها على أقل تقدير. قبل ما يقارب ربع قرن من الزمان كان هناك مثبت واحد للمزاج وهو ملح الليثيوم ولا يزال حتى يومنا هذا يتصدر القائمة. ظهر بعد ذلك عقار فالبرويت Valproate وهو عقار مضاد للصرع، وتبع ذلك دراسة تأثير كل مضاد للصرع على تثبيت المزاج. ثم جاء استعمال عقاقير مضادة للذهان كمثبطات مزاج وخاصة عقاقير الجيل الثاني منها. لا تزال فعالية عقار فالبرويت ومضادات الصرع عبر الخلية غير واضحة تماما، ولكن ما نعلمه هو أن فالبرويت وليثيوم يتشاركان في تنظيمهم لتعبير بعض الجينات المسؤولة عن النقل العصبي وتدمير الخلية العصبية، وربما لهما تأثيرات وقائية على الخلية كذلك.
مصادر
1- Young A & Hammond J. Lithium in mood disorders: increasing evidence base, declining use?. BJP 2007; 1919: 474-476.
2- Dodd B, kauer-Sant’ Anna M, Malhi G et al. Dopamine dysregulation syndrome: Implications for a dopamine hypothesis of bipolar disorder. Acta psychiatry Scand 166(Supll.434):41-49.
3- Kadiri M, Mehsanni J, Bichra M. The use of benzodiazepines in bipolar disorders. Addict Clin R 2018; 2: 1-4.
4- Keck P & McElory S. Redefining mood stabilisation. Journal of Affective Disorders 2003, 73: 163-169.
ويتبع>>>>: كتاب الدماغ: الدماغ النفساني5
واقرأ أيضًا:
اللوم بين الدماغ والعلاج النفساني.. Blame / الناصية قشرة المخ قبل الجبهية Prefrontal Cortex ق.ج(1-4)