طيف الوسواس القهري :: وساوسُ الحب والرغبة
أولاً: وساوسُ الخوف والريبة
1- وسواس المرض:
ويندرجُ تحتَ هذا النوع من الوساوس المتميزة بخوف المريض على صحته العديدُ من أنواع الحالات بعضها يصنفهُ الأطباءُ النفسانيون مع الاضطرابات الجسدية الشكل Somatoform Disorders تحتَ اسم اضطراب المراق أو اضطراب توهم العلل البدنية Hypochondriacal Disorder وبعض حالات وسواس المرض ينطبقُ عليها اضطراب الوسواس القهري وذلك حسب التعريف المعتمد في التصنيف الغربي الحالي للأمراض النفسية، والذي يجمعُ هذه الحالاتِ مع بعضها البعض هنا هوَ:
(1) وجودُ الخوفِ من المرض أو من احتمال الإصابةِ به أو التعرض لمسبباته.
(2) وجود منظومةٍ معرفيةٍ تميلُ إلى تأويل كل عرض جسديٍّ عاديٍّ أو بسيطٍ كدليل على وجودِ مرض خطير رغم أن هذا العرض نفسه يفسرهُ الآخرونَ على أنه عرضٌ عابرٌ أو علامةُ إرهاقٍ وينسونهُ بسرعةٍ.
(3) وجود الأفكار التسلطية المتعلقة بذلك، والأفعال القهرية المتعلقة بذلك أيضًا والمتمثلة في العرض المتكرر على العديد من الأطباء وإجراء العديد والعديد من الفحوص الطبية بسبب الريبة في نتائج هذه الفحوص.
إذن فهناكَ في حالات وسواس المرض علاماتُ اضطراب الوسواس القهري المتمثلة في الأفكار التسلطية والأفعال القهرية إضافةً إلى الانشغال بالمرض والفحص الطبي المتكرر كمحتوى لهذه الظواهر القهرية, ويمكن من خلال الخبرة العملية في الطب النفسي أن نصنف مرض المراق أو وسواس المرض إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: هو مريض المراق الوسواسي: وهو الذي تأخذ أعراض وسواس المرض فيه شكل أعراض اضطراب الوسواس القهري، إلا أن محتوى تلك الأعراض يكون متعلقًا كله بالفكرة الأساسية وهي أن لديه مرضًا خطيرًا ما، فهناك إذن فكرة تسلطية يمكن أن تأخذ مرةً شكل مرض في القلب أو مرض في الكلى أو أن الشخص مصاب بالسرطان أو بالإيدز أو غير ذلك، وهناك فعل التنقل بين الأطباء، وإجراء الفحوص الطبية المختلفة والمتتالية التي تمثل الأفعال القهرية، وهذه الفحوص في كل مرة تثبت خلوه من الأمراض، لكنه رغم ذلك لا يطمئن، وهذا هو مريض المراق الذي يدور بين الأطباء والمستشفيات ساعيا للاطمئنان، لكنه لا يطمئن اللهم قليلاً في أعقاب كل كشف يقوم به طبيب، أو فحص تُظهر نتيجتُه خلوَّه من المرض الذي يخاف منه.
الصنف الثاني: هو مريض المراق الرهابي: وهو الذي تأخذ الأعراض فيه شكل أعراض الرهاب والتي تتمثل أساسًا في التجنب التام لكل ما قد يتسبب في إثارة قلقه ومخاوفه مثلا تجنب الأطباء والمستشفيات خوفًا من أن يكتشف أو يتأكد من المرض الخطير، وهنا نجد مريضًا بتوهم المرض، لكنه يتجنب الأطباء، ويعيش في معاناة مستمرة رغم ذلك لأنه لا يستطيع الخلاص من فكرة أن لديه مرضًا خطيرًا، لكنه في نفس الوقت يخاف من أن تتأكد تلك الفكرة، ومن هذه النوعية بعض الحالات التي يكون فيها المريض مصابًا بمرض جسدي آخر يحتاج إلى متابعة طبية كارتفاع ضغط الدم أو السكر، لكنه يخاف من الأطباء ويتجنبهم.
ومن بين الأمثلة العملية التي قابلتها مريض سمع برنامجًا تليفزيونيا عن مرض جنون البقر وأعراضه، وبدأت فكرة أنه مصاب بجنون البقر تهاجمه وتقحم نفسها في وعيه، وقد كان يعاني من نوبات شعور بالإرهاق والكسل، رغم أنه لم يبذل أي مجهود، وقد رأى في ذلك ما يثبت أنه مصاب بجنون البقر، وأن هذا هو أحد العلامات المبكرة، ولم تفده طمأنة أصدقائه، ولا أعضاء أسرته، ولا 7 أطباء قام بزيارتهم، وبدأ يخاف من أكل لحوم البقر! بل إنه كان يتجنب الجلوس على مائدة عليها من يأكلونه، وكان عادةً ما يحس بالدوخة والرغبة في التقيؤ مع خوف وتوتر شديدين إذا رأى من يأكلون لحوم البقر، وكان فضل الله عظيما إذ تحسنت أعراضه تماما بعد فترة من استخدامه لأحد العقاقير المستخدمة في علاج الوسواس القهري "الم.ا.س.ا SSRIs".
وأما الصنف الثالث: فهو مريض المراق الاكتئابي: وهو مريض عادةً ما يكون جوهر اضطرابه هو الشعور المبالغ فيه بالذنب بسبب خطأ ما وقع فيه، بحيث يكون المرض الخطير الذي أصابه في رأيه هو العقاب العادل من السماء، ومن بين هؤلاء المرضى من يستسلمون تماما لفكرة إصابتهم بالمرض الخطير فيبقونها سرا، ومن بينهم من يتجنب الفحص لدى الطبيب، لأنه لا يرى داعيًا لفرط اقتناعه بأن هذا هو العقاب العادل الواضح من السماء.
2- وسواسُ التشوه:
وَيندرجُ تحت هذا النوع من وساوس الخوف والريبة مريضُ اضطراب توهم التشوه الجسدي Body Dysmorphic Disorder أو كما كانَ يسمَّى قديمًـا رهاب التشوه Dysmorphophobia فالمريضَ هنا يعاني من فكرةٍ تسلطية أو وسواسية بكل معنى الكلمة لكنها متعلقةٌ بتشوه في شكل منطقةٍ معينة من الجسد ومن أشهر هذه المناطق الأنف أو الشفتين أو الثدي أو الأرداف؛ فيزور عيادة الجراح ويتكلمُ معهُ في إحساسه بأن أنفهُ مثلاً كبيرٌ أكثر من اللازم أو معْـوَجٌ بشكل أو بآخر وفي أغلب الأحوال يكونُ ذلك غيرُ صحيحٍ أو على الأقل مبالغٌ فيه بدرجةٍ كبيرةٍ وهذا المريضُ يشبهُ مريض اضطراب توهم العلل البدنية، أو مريضَ وسواس المرض كما سميناه، في أنه لا يستطيعُ تصديقَ الأدلة التي تثبتُ خلوهُ من التشوه أو العيب الخلقي في أنفه مثلاً إلا أن مدى اقتناعه بوجود التشوه لا يصل إلى مستوى الفكرة الضلالية أي أنه ليسَ مريضًـا ذهانيا لكنهُ في نفس الوقت لا يستطيعُ التخلص من الفكرة؛
كما أن هذا المريضَ يفعلُ أيضًـا أفعالاً قهرية من قبيل التحقق والرغبة في الاطمئنان على شكل العضو الذي يتخيل فيه التشوه من كل المصادر الممكنة وأشهرها بالطبع هو الجراح خاصة جراح التجميل فإذا أخطأ جراحُ التجميل وأجرى للمريض جراحةً تجميلية ساءتْ العاقبةُ وازدادَ دور الطبيب النفسي صعوبةً لأنَّ المشكلة لم تكنْ في شكل العضو وإنما في إدراك المريض لشكله!؛ إذنْ فالطبيبُ النفسيُّ هنا يجدُ مريضًا يعاني من فكرة تسلطية لا هو بالمقتنع بها تماما ولا هو بالقادر على نسيانها ويجدُ منْ يصفُ أفعال النظر إلى المرآة للاطمئنان وإعادة الاطمئنان وتكرار الزيارة لكل من يستطيعُ الوصولَ إليهم من الجراحين أو أطباء الأمراض الجلدية في الحالات المتعلقة بالجلد وكأنها أفعالٌ قهريةٌ يضطرُ إلى فعلها لأنها تريحهُ من القلق والتوتر.
وهناكَ أيضًا مِن مَن يمكنُ إدراجهم ضمنَ مرضى وسواس التشوه أولئكَ المرضى الذينَ يتشوهُ لديهم شعورهم بذواتهم، وهم مرضى اضطراب اختلال الآنية أو تبدد الشخصية Depersonalization والذي يشكو فيه المريضُ من تغير دائم أو متكرر (على شكل نوباتٍ) في إدراكهِ لذاتهِ أو إحساسه بها بمعنى أن هناكَ خللاً يُسَبِّبُ فقْـدًا أو تغيرًا لإحساس المرْءِ بذاته كما اعتادَ عليه قبلَ حدوثِ الاضطراب؛ وهوَ ما يصِـفِـهُ المريضُ بتعبيراتٍ عديدة مثلَ أنهُ يشعرُ أنهُ مفصولٌ عن ذاته بحيثُ يكونُ كمن يراقبها من الخارج أو أنه يراقبُ عملياته العقلية أو الجسدية أو أنهُ يحسُّ أنه أصبحَ إنسانًـا آليًّـا فلا يحسُّ مشاعرهُ التي اعتاد عليها أو أنهُ يحسُّ بفقدان القدرة على التحكم الكامل في أفعاله العقلية أو الجسدية أو أنهُ يحسُّ بأن مشاعرهُ مخَـدَّرَةٌ أو مُـنَـمَّـلَـةٌ إلى آخر هذه الأوصاف التي يستعملها المريضُ وهو دائمًا يقول للطبيب النفسي أنه لا يستطيعُ التعبير عن إحساسه الحقيقي ولا يجدُ الكلمات المعبرة عن ما يحس بهِ لكنهُ في جميع الأحوال إحساسٌ يسبب الكثيرَ من الضيق ويظـلُّ المريضُ بالطبع موقِـنًـا أن ما يحس به مخالفٌ للحقيقـةِ وهذا ما يعذبهُ؛
وما يعنينا هنا هو الانشغالُ الوسواسيُّ للكثيرِ من المرضى بهذا الاضطراب بخبراتهم الحسية الغريبة وما يفعلُـهُ بعضهم من تكرار طلب الطمأنة من الطبيب النفسي أو من غيره بشكل يجعلُ تشخيصَ اضطراب الوسواس القهري حاضرًا في الذهن؛ إذنْ فكلٌّ من اضطراب اختلال الآنية واضطراب الوسواس القهري يشملُ أفكارًا مرفوضةً من الشخص لكنها تتكرَّرُ على وعيه بالرغم منهُ وفي حالات الوسواس القهري تكونُ الأفكارُ متعلقةً بعدم التحقق والمبالغة في تقدير الأخطار بينما هيَ في حالات اضطراب اختلال الآنية تتعلقُ بعدم الراحة واختلال الحواس فيما يتعلقُ بإحساس الشخص بذاته أو جسده أو علاقته بالأشياء؛ بل إن من الأطباء النفسيين من يعتبرُ اضطراب اختلال الآنية "تكرارًا استحواذيًّـا لإحساس أولِيٍّ باستغرابِ الذات أو الواقع الخارجي".
كما يمكننَا أن ندرجَ هنا نوعًا آخرَ من المرضى وهم الذين أسميهم مرضى اضطراب شم رائحة الجسد Olfactory Reference Syndromes أو اضطراب البَخَـر المتوهم، وأنا أدرجهم هنا على أساس أن تشوها بتوهمه المريضُ في رائحته الشخصانية Personal Odor ، فهذا النوعُ من المرضى تتسلطُ عليهم فكرةُ أن رائحةً منفرةً تصدرُ من أجسادهم ويشمها الناسُ فمنهم من يتحرجُ من إخبارهم بذلك ومنهم من يتهربُ من الجلوس معهم، ومن هؤلاءِ المرضى بالطبع من تكونُ هذه الفكرةُ فكرةً تسلطيةً يعرفونَ أنها خاطئة ولكنهم لا يستطيعونَ التخلص منها ولا حتى التصرفَ دائمًا على أساس أنها خاطئة ومنهم من يصل مدى اقتناعهم بصحة هذه الفكرة إلى البعد الذهاني فيعتبرونها فكرةً صحيحةً يؤمنونَ بها تمامًا أي أنها تصبحُ فكرةً ضلاليةً، ونحنُ هنا بالطبع معنيونَ بالفئة الأولى التي تكونُ الفكرةُ فيها فكرةً تسلطيةً؛
وأما محاولة الطبيب النفسي لسبر غوار المنظومة المعرفية الموجودة عند هذا النوع من المرضى فكثيرًا ما تبينُ ردَّ المريض لمصدر الرائحة المنفرة تلك إلى القولونِ مثلاً أي أنها بسبب غازاتٍ تخرجُ من فتحة الشرج، أو تجدُ من يرد مصدرها إلى رائحة أنفه أو فمه أو حلقه أو جوفه، ومنهم من يردها إلى الجلد أي العرق كما تجدُ من لا يحدد لها مصدرًا ولا ينشغلُ إلا بمحاولة اجتناب الجلوس مع الناس في مكانٍ مغلق أو قليل التهوية أو الإسراف في استخدام العطور وهكذا.
في بعض هذه الحالات بالطبع تكونُ أفكار المريض صادقةً كأن يكونَ هناكَ التهابٌ مزمنٌ في الحلق أو الجيوب الأنفية أو اضطرابٌ عصبيٌّ في القولون أو غير ذلك، إلا أن الغالبية العظمى من الحالات التي تصل إلى الطبيب النفسي لا يكونُ فيها وجودٌ لهذه الرائحة من الأساس، وأما ما يجعلني أضعُ مرضى وسواس التشوه تحتَ وساوس الخوف والريبة فهو ما يلي:
(1) وجودُ الخوفِ من التشوه سواءً في الشكل أو في الرائحة أو في الشعور بالذات وإدراكها ومن تأثير ذلك على حياة المريض وعلاقاته الاجتماعية، أو من التعرض للانتقاد بسببه.
(2) وجود منظومةٍ معرفيةٍ تميلُ إلى تأويل أي حدثٍ حياتيٍّ أو موقفٍ اجتماعي عابر أو بسيط يحدثُ للمريض كدليل على وجودِ التشوه المتوهم، (رغم أن مثل هذا الموقف نفسه يفسرهُ الآخرونَ على أنه عابرٌ أو بلا معنى وينسونهُ بسرعةٍ).
(3) وجود الأفكار التسلطية المتعلقة بذلك ، والأفعال القهرية المتعلقة بذلك أيضًا والمتمثلة في العرض المتكرر على العديد من الأطباء وإجراء العديد والعديد من الفحوص الطبية بسبب الريبة في نتائج هذه الفحوص.
إذن فهناكَ في حالات وسواس التشوه علاماتُ اضطراب الوسواس القهري المتمثلة في الأفكار التسلطية والأفعال القهرية إضافةً إلى الانشغال بالتشوه والفحص الطبي المتكرر كمحتوى لهذه الظواهر القهرية.
3- وسواس الحرص:
ويشملُ هذا النوع من الوساوس أولئكَ المرضى الذين تتمحورُ خلفيةُ معاناتهم حولَ الخوفِ من أن يخطئوا أو يذنبوا أو يقصروا في التزامهم بما يؤمنونَ بوجوبِ التزامهم به، وحولَ الريبة في أن يكونوا بالفعل قد أخطئوا أو أذنبوا أو قصَّروا، ومعظمُ هؤلاء المرضى يقعونَ فعلاً داخل الفئة التشخيصية المعروفة باسم اضطراب الوسواس القهري في الطب النفسي، وتأخذُ الأفكارُ التسلطيةُ والأفعالُ القهرية في هذا النوع من المرضى في الحقيقة أشكالاً كثيرةً لكنها كلها تدورُ في نفس الإطار المعرفي المتميز بتضخم الشعور بالمسؤولية وبالواجب، وكذلك النزوع للشعور بالذنب والرغبةُ المتطرفةُ في الوصول إلى الكمالية، ومن الممكن أن تأخذ الأفعالُ القهريةُ هنا أي شكل من أشكال تكرار الفعل أو التحقق وإعادة التحقق، أو الاعتذار المتكرر أو السؤال المتكرر إلى آخره.
إذن فكثيرٌ من مرضى اضطراب الوسواس القهري بمعناه الطبي النفسي الشائع يقعونَ داخلَ هذا النوع من أنواع الوسواس الذي أسميه وسواس الحرص، وليسَ هذا تبسيطًا للأمور بقدر ما هو نفاذٌ إلى لبِّ مشكلة هؤلاء المرضى وهذا هوَ ما يستطيعُ تحليلُ الطبيب النفسي الوصول إليه دائمًا عندما يقتربُ من مريضه، صحيحٌ أنهُ قد يُسَمِّي الحرصَ التزامًا أو تشدُّدًا أو ريبةً لكنَّ هذا هوَ لب معاناة هؤلاء المرضى بحق.
4- وسواس الاجتناب:
ويشملُ هذا النوع من الوساوس أولئكَ المرضى الذين تتمحورُ خلفيةُ معاناتهم حولَ الخوفِ من أن يتلوَّثوا أو أن يتسببوا في نشر تلوثٍ ما وحولَ الريبة في أن يكونوا بالفعل قد لوَّثوا أو تعرضُّوا للتلوثِ أو للعدوى بشكل أو بآخر، معظمُ هؤلاء المرضى يقعونَ فعلاً داخل الفئة التشخيصية المعروفة باسم اضطراب الوسواس القهري في الطب النفسي إلا أن بعضهم يمكنُ أن يقعَ داخل أحد أنواع اضطرابات القلق المسمَّى باضطراب الرُهاب النوعي Specific Phobia الذي يخافُ المريضُ فيه خوفًا مبالغًا فيه وغير منطقي من شيء يعتبرهُ الآخرون عاديًّا أو يحتاجُ فقط لبعض الحرص في التعامل معه.
ومن الممكنِ أن يتسببَ السلوكُ ألاجتنابي الذي يسلكهُ هؤلاء المرضى في حيرةٍ تشخيصية تتعبُ الطبيبَ النفسي نظرًا لأن كثيرًا من المصابين بوسواس الحرص من مرضى اضطراب الوسواس القهري يظهرونَ هذا السلوكَ ألاجتنابي أيضًا كفعل قهري يضطرونَ إليه ليجنبوا أنفسهم القلقَ الشديد والتوتر الناجمَ عن التعرض لما يسبب أفكارهم التسلطية، كما أن الموضوعَ الذي يتعلقُ به الخوفُ الرهابيُّ في مرضى الرهاب النوعي يكونُ في كثيرٍ من الأحيان مشابها لموضوع المخاوف الوسواسية في مرضى الوسواس القهري فمثلاً الخوفُ من الإصابة بالعدوى أو من التلوث يمكنُ أن يكونَ موضوعًا لكلا الاضطرابيين وكلُّ ذلكَ يجعلُ التفريقَ صعْبًا في الكثير من الأحيان ولكنَّ ثلاثةً من النقاط -كما ذكرتُ من قبل في الفصل الأول من الكتاب - يمكنُ أن تساعد الطبيبَ النفسيَّ في ذلك:
(1) عادةً ما يكونُ مرضى الرهاب أكثرُ خوفًا من مواجهة الشيء الذي يخافونه مقارنة بمرضى الوسواس القهري الذين يهتمونَ أكثر بما سيضطرونَ إلى ممارسته من طقوس قهرية إذا حدثت المواجهة مع موضوع خوفهم؛ أي أنهم معنيونَ بما سيترتبُ على ذلك من مجهود سيرغمونَ عليه.
(2) عادةً ما تكونُ مخاوفُ مرضى الرهاب أقلُّ تعقيدًا من مخاوف مرضى الوسواس القهري؛ فمخاوفُ مرضى الرهاب محددةٌ وُمُوَجَّهَةٌ إلى شيءٍ بعينه "مثلاً الخوفُ منْ أن يغشى على الواحد إذا رأى فأرًا أو إذا سُحِبَ منهُ بعض الدم!" أما مرضى الوسواس القهري فيميلون إلى تعقيد المخاوف وينشغلون مثلا بأن طُرُقًا لا يمكنُ إحصاؤها يمكنُ أن تسبب لهم الأذى إذا تعرضوا إلى الشيء الذي يخافونه؛ وهم معنيونَ أكثرَ بعدم التحقق أو عدم الإتمام.
(3) ويضاف إلى ذلك أن القلق الذي يبديه مرضى الرهاب أكثرُ في معظم الأحوال من قلق مرضى الوسواس القهري عندما يتعرضون للشيء الذي يخافون منهُ؛ وربما كانَ ذلك لأنَّ مريض الرهاب لا يكونُ أمامه سوى الهرب وهو واحدٌ من السلوكيات المرتبطة بالخوف والقلق بينما مريضُ الوسواس القهري لديه خيارٌ آخرَ وهو الطقوس التي سيفعلها ليقلل من إحساسه بالخطر.
5- وسواس الشك أو الغيرة:
ووسواس الشك من الممكنِ أن يدخلَ جزءٌ من مرضاه داخلَ مفهوم وسواس الحرص، فالشكُّ يمكنُ أن يفهم باعتباره شكًّا في إتمام الفعل مقابل عدم إتمامه أو في وقوع نية الصلاة مثلاً مقابل عدم وقوعها فكل هذه صنوفٌ من الشك، إلا أن وسواس الشك المقصود هنا هو ما تمكنُ تسميته بوسواس الغيرة وقد وضعتُ وسواس الغيرة هنا مع وساوس الخوف والريبة لأنهُ أقربُ لها من وساوس الحب والرغبة، وكثيرٌ من حالات الغيرة المرضية تكونُ لهُ علاقةٌ بالاضطرابات الضلالية أكثرَ من علاقته باضطراب الوسواس القهري، إلا أن هناكَ حالات غيرةٍ مرضيةٍ تأخذُ شكل الوسواس القهري بأفكاره التسلطية وأفعاله القهرية حيثَ ترى المريض الذي يشك في إخلاص شريك حياته إنما يعاني من فكرةٍ تسلطيةٍ محتواها هوَ الشك في إخلاصه أو أن خيانته حدثت وبما أنها فكرةٌ تسلطيةٌ فإن المريضَ يعرفُ أنها فكرةٌ غير صحيحةٍ، لكنهُ لا يستطيعُ التخلص منها إلا بالتأكد من خلال التفتيش في حاجيات الطرف الآخر وربما مراقبته كفعل قهري أيضًا.
ويصف البعض الغيرةَ بأنها توابلُ الحب ويصفها البعض الآخر بأنها سم الحب القاتل، فالغيرة أحيانا تقوى العلاقة وأحيانا أخرى تدمرها إذا تجاوزت الحد، والبعض يكون أكثر ميلا للغيرة بطبيعته على البعض الآخر، بل إن نفس الشخص قد يكون غيورا في موقف ما وغير غيور في مواقف أخرى، وفى الحقيقة لابد أن نعترف بأنه ليس منا من هو كامل التكيف وشعورنا بها من حين لآخر عادى وطبيعيي وكلنا جميعا عرضة للشعور بالغيرة بقدر ما.
وأما مظاهر الغيرة فهي مزيج من القلق والخوف والتوتر والضيق، والغيرة تظهر في السلوك ولا يعبر عنها مباشرة بالكلمات ومن المؤسف أن نتصور أن الغيرة مظهر للحب القوى الجامح، فالحقيقة أن الحب ما لم يكن راسخا فهو لا يستطيع الصمود في وجهها لأن الغيرة تنبع من الشعور بالاحتقار، ولعل أهم ما وصلت إليه أبحاث علماء الطب النفسي وعلم النفس من نتائج هو أن الأطفال الذين يعانون من عدم الاستقرار والحرمان من العطف يكونون أكثر عرضة للغيرة في رجولتهم من أولئك الذين أحيطوا بالمحبة من كل جانب، والتسامح والتفاهم من جانب الآباء في تربيتهم لأطفالهم من شأنه أن يحد كثيرا من استعداد أولئك الأطفال من الشعور بالغيرة في مستقبلهم والإنسان الغيور يحمل بعض ملامح الشخصية الزورانية والتي لديها حساسية زائدة فيجسم الأمور ويبالغ فيها ويحمل الأشياء والكلمات والمواقف معانٍ بعيدة عن الحقيقة؛
وهذه التهيئةُ النفسيةُ هيَ بمثابة أحد العوامل النفسية المهيئة Predisposing Factors أي التي تجعل الشخص على استعدادٍ للمعاناة من اضطراب الغيرة المرضية بوجه عام وذلك عند تعرضه لكروبٍ معينةٍ تكفي لإحداث الاضطراب كأن يكتشفَ مثلاً أن قريب زوجته، ذلك الذي يزورهم كثيرًا كانَ يريدُ الزواج منها قبل أن يتقدمَ هوَ لخطبتها، ويعتبرُ ذلك بمثابة العامل المرسب Precipitating Factor ، فيبدأ الزوجُ بعد ذلك في المعاناة من فكرةٍ تسلطيةٍ مؤداها أن زوجته لابد تحبُّ ذلك الشخص وربما تكونُ على استعدادٍ لخيانته معه، وهكذا تتوالدُ الأفكارُ ويجترُّ بعضها بعضًا رغم محاولاته المستميتة لطردها من وعيه، وربما تأخذُ شكل الصور والتخيلات الاقتحامية وتدفعه إلى أفعال التفتيش القهرية في حاجيات زوجته مثلاً رغم ما يمكنُ أن يسببه ذلك من تبرم من ناحية الزوجة إلا أنهُ لا يستطيع منع نفسه من ذلك، ومن المهم هنا أن نلاحظَ أن الظواهر القهرية في وسواس الغيرة تكونُ من أهم العوامل المثبتة Perpetuating Factors لذلك الاضطراب.
وأما موقفُ الإسلام من الشعور بالغيرة على الزوجة فإنهُ موقفٌ معتدلٌ وواضحٌ فالإسلام لا يقبلُ من الرجل أن يكونَ باردَ الدم لا يغارُ على حريمه ولا أن يكونَ شكاكا عديم الثقة فيهن فكما يقول فضيلة الشيخ عطية صقر في فتواه: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه النسائي والبزار وصححه الحاكم "ثلاثةٌ لا يدخلون الجَنّة، العاقُّ لوالدَيْه والدَّيُّوث ورجلة النساء" ـ فإنّه وجَّهه إلى الاعتدال والتوسُّط في ذلك، فقد قال -صلّى الله عليه وسلم-، كما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان "إنَّ من الغَيرة غَيرة يبغضُها الله عزَّ وجل وهي غَيرة الرّجل على أهله من غير رِيبة" ذلك أن شدة الغَيرة تجلِب على المرأة سُبَّة، فسيقول النّاس، إنْ صدقًا وإن كَذِبًا، ما اشتد عليها زوجُها إلا لعلمه بأنَّها غير شريفة، أو فيها ريبة، يقول الإمام علي: لا تُكثِرُ الغَيرة على أهلك فتُرْمَى بالسوء من أجلك.
إن هذه الغَيرة الشديدة تحمله على كثرة الظن السّيِّئ وعلى التجسُّس، وذلك منهي عنه في القرآن والسنة، وقد نَهَي الحديث عن إحدى صوره، وهي الطُّروق ليلاً للمسافر، أي مُباغتته لأهله عند قُدومه من السفر دون علمٍ منهم، فقد روى مسلم عن جابر أن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- نهى أن يَطرُق الرّجُلُ أهلَه ليلاً لئلاّ يُخوِّنهم أو يطلب عَثراتِهم. وروى البخاري ومسلم قوله صلّى الله عليه وسلم "إذا قَدِمَ أحدُكم ليلاً فلا يأتِيَنَّ أهلَه طُروقًا، حتَّى تَستحِدَّ المغيبة وتَمتشطَ الشَّعثة". فالخُلاصة أن الرّجل لابد أن يَغار على زوجته، ولكن يجب أن يكون ذلك في اعتدال، وخير ما يُساعده على ذلك أن يختارَها ذات خلق ودِين.
ونحنُ عندما نتحدث عن الغيرة المرضية نقول أنها الغيرة التي تخرج عن طيف السواء النفسي، وتستحيل معها الحياة في هدوء وطمأنينة، فالغيرة المرضية هي لهيب يحرق كل شيء وينزع الحب وتقضى على الثقة وتنتهي بغرس بذور الكراهية، والشخص المصاب بالغيرة المرضية تسيطر عليه مشاعر النرجسية وحب الذات، إذ يريد أن يكون محور انتباه واهتمام الشخص الآخر إن أمكن كل الوقت كما أن الشخص المصاب بالغيرة المرضية يتجاهل الأدوار المختلفة للشريك الآخر، فلكل شخص في حياته أدوار متعددة يقوم بها.
ولما كانت ظروف مجتمعنا الحالي تستدعى وجود علاقات مهنية في العمل أو خارجه، فمن هنا تبدأ ظهور المشاكل والمآسي والانهيارات فوضعُ المرأةِ العاملةِ مثلاً يمكنُ أن يستثيرَ لدى زوجها كما من الوساوس لا حد له، وترى الكثيرين يفضلونَ إبقاءَ زوجاتهم في البيت ومنعهن من العمل بسبب عدم قدرتهم على التعامل مع مشاعر الغيرة، وقد عالجتُ من كانَ لا يستطيعُ البقاءَ في مكانِ عمله أكثرَ من ساعتين، وتهاجمهُ بعد ذلك أفكارٌ تسلطيةٌ تتعلقُ بزوجته ورئيسها في العمل، وكانَ لا يجدُ الخلاص من أفكاره تلك إلا بالاتصال بها أو الذهاب بأي حجةٍ إلى مكانٍ عملها للتحقق بأي شكل من أنها لا تخونهُ في هذه اللحظة، وعندما كنتُ أغلظُ عليه في السؤال كانَ يقولُ أنهُ رغم ثقته في زوجته إلا أنهُ لا يستطيعُ الخلاص من وساوسه، وكانَ الحل الذي يراه لهذه المشكلة هو أن تتركَ زوجته العمل.
واقرأ أيضا:
الوسواس القهري في الأطفال/ طيف الوسواس القهرى: المفهوم/ علاج الأفكار الوسواسية/ التشاؤم والوسوسة هل من علاقة؟