ويرى كثيرٌ من الأطباء النفسيين أن البطء الوسواسيَّ القهري جزء من اضطراب الوسواس القهري، والحقيقة أن هذا أريح للعقل وأقرب للمنطق لأن النتيجة المنطقية لوساوس وأفعال قهرية تتعلق بالنظافة والتدقيق في التحكم في كل شيء وضبطه هي البطء بالطبع في فعل الأفعال الإنسانية، لكن الأمر ليس بهذه البساطة دائما حيث يري بعض الأطباء النفسيين وبعضُ علماء النفس أن البطء الوسواسيَّ اضطراب مختلف ومستقلٌ عن اضطراب الوسواس القهري برغم وجود أعراض الحالتين معا في الكثير من الأحيان وهذا رأي الرجل الذي استخدم المصطلح لأول مرة (Rachman ,1974) ويدللون على ذلك بأن هناك دراسات تشير إلى بقاء البطء الوسواسي في المرضى بالرغم من تحسن الوساوس والأفعال القهرية بعد العلاج (Takeuchi etal,1997) وإن كان يمكنُ الرد عليهم بأن ذلك لا يعني إلا أننا نحتاج إلى علاج آخر ربما أفضل من المتاح حاليا أو علاج أشمل سواء كان علاجا دوائيا أو سلوكيا معرفيا لعلاج البطء الوسواسي، لكننا نستطيع أن نستنتجَ من ذلك أن السبب في البطء الوسواسي ليس بالضرورة هو الوساوس والأفعال القهرية، ويرى الرخاوي البطءِ صورةً من صور التكرار فهوَ تكرار اللاحركة أو هوَ تكرار النية كأنها فعل (الرخاوي ,1979).
وهناك مجموعة أخرى من الباحثين ترى أن البطء الوسواسي مرتبط لا باضطراب الوسواس القهري وإنما باضطراب الشخصية الوسواسية أو القهرية وهذا واحد من اضطرابات الشخصية سيرد وصفهُ في الفصل العاشر من الكتاب، الأمرُ المهم والمؤسفُ في نفس الوقت هو أن استجابة هذا البطء الوسواسي القهري" سواء كان جزءًا من اضطراب الوسواس القهري أي عرضا من أعراضه أو كان مستقلا عنه" للعلاج النفسي بكل صوره مشهورةٌ بأنها ضئيـلةٌ إلى حد كبير وَيبْـدُو أن عوامل أخرى في حياة المريض -مثلا اجتماعية- تساعد على عدم استجابة المرض للعلاج فهناك عدم تعاون أفراد الأسرة مع المعالج النفسي وهناك كذلك عدم رغبة المريض في التحسن وربما وجودُ أفكارٍ مبالغٍ في تقييمها لديه لكن كل هذه العوامل لم تدرس بالعمق الكافي حتى الآن (Blackmun ,1997) و(Veale,1993, 2001) و(American Academy of Child & Adolescent Psychiatry 1997 &1998).
ومن الأمثلة المستمدة من تراثنا على البطء الوسواسي ما ذكرهُ عبد الوهاب الشعراني (عبد الوهاب الشعراني , 1976) في المنن الكبرى كأمثلةٍ على الموسوسين إذ يقول: وَشهدتُ أنا بعينيَّ موسوسًا دخلَ ميضَـأةً ليتوضأ قبل الفجر من ليلة الجمعة فلا زال يتوضأ للصبح حتى طلعت الشمس، ثم جاءَ إلى باب المسجد فوقفَ ساعةً يتفكر، ثم رجعَ إلى الميضأةِ، فلا زال يتوضأ ويكررُ غسلَ العضو إلى الغاية، وينسى الغسل الأول، ولم يزل حتى خطبَ الخطيبُ الخطبةَ الأولى، ثم جاءَ إلى باب المسجد فوقفَ ساعةً ورجعَ.. فلا زالَ يتوضأ حتى سلمَ الإمامُ من صلاة الجمعة، وأنا أنظرُ من شُـبَّـاكِ المسجد، ففاته صلاةُ الصبح والجمعة.
بينما كانت عمليات الأيض عادية في النواة المذيلة Caudate Nucleus وكذلك في قشرة النواة العدسية Putamen وفي القشرة الجبهية الوسطى Medial Frontal Cortex ، أما تفسيرُ ذلك ومقارنتهُ بما نجدهُ في مرضى اضطراب الوسواس القهري (Hymas etal , 1991) الذين لا يكونُ البطء الوسواسي عرضًا واضحًا لديهم فما زال يحتاجُ إلى العديد من الدراسات والأبحاث.
وفي دراسةٍ حديثةٍ لأحمد عكاشه وجدَ ارتباطٌ ذو دلالةٍ إحصائيةٍ بينَ أفعال إعادة التأكد القهرية وَالبطء الوسواسي (Okasha,2001) وربما كانت هذه (حسبَ بحثي)هيَ الدراسةُ العربيةُ الوحيدةُ التي ذكِرَ فيها موضوعُ البطء الوسواسي من بين النقاط المذكورة في النتائج، فإذا سألنا بماذا يفسِّرُ الشخصُ المصابُ بهذا البطء الوسواسي القهري سلوكهُ ذلكْ؟ فإنهُ في كثيرٍ من الأحيان لا يعطيكَ إجابةً واضحةً أو يكلمكَ عن تأخره أو بطئه وكأنه أمرٌ عاديٌّ أو كأن الآخرين الذين لا يتأخرونَ مثلهُ مقصرون فيما يجب عليهم أن يفعلوه بدقةٍ وبعضهم بالطبع يشكو لك من وقوعه أسيرًا للأفكار التسلطية التي ترغمهُ على البقاء في الحمام مثلاً لساعات طويلة لكي يتأكدَ من نظافته أو من طهارته وبعضهم يستهلكُ ساعات في تصفيف شعر رأسه أو شعر حواجبه ويهتم جدًّا بجعل التناسق ما بين الشعرة والشعرة عند الحد الذي لا تناسق بعده ! وبعضهم ينظرُ لك في استغراب وكأنك تسألهُ عن شيءٍ ليست لديه الإجابةُ عليه.
وفي خِبرَتي الشخصية بعد أكثر من عقد من ممارسة الطب النفسي في بلدٍ عربي هو مصر فإنَّ كلَّ هؤلاء الذين وضعت لهم في ذهني البطءَ الوسواسيَّ القهرِيَّ تشخيصا مبدئيًّا كانوا مرضى باضطراب الوسواس القهري ومكتئبونَ في ذات الوقت أو في حالاتٍ أقل كانوا مصابين باضطراب الفصام أو على الأقل لديهم أفكارٌ ذهانية أو باضطراب معرفيٍّ ثانوي لحدَثٍ دماغي، وبعض الحالات تكونُ مصاحبةً لزملة أو متلازمة داونDown’s Syndrome أو لمرض الشلل الرعاش أو مرض باركينسون Parkinsons Disease، لكنني لم أرَ ما أستطيعُ تسميتهُ بالبطْ الوسواسي الأولي Primary Obsessional Slowness كما يسمونهُ في بعض الدراسات الغربية، ولا رآهُ أحدٌ من أساتذتي وزملائي الذين سألتهم عنهُ (وائل أبو هندي2003).
3- بطء وسواسي قهري كجزءٍ من اضطراب وسواس قهري مصحوب باضطراب الفصام أو كجزء من أعراض وسواس قهري مصاحبة لاضطراب الفصام: وهذه الحالةُ أيضًا موجودةٌ وكثيرًا ما يكونُ تعيينُ سبب البطء صعبًا لأن المريضَ لا يعطي إجاباتٍ واضحةً لتفسير بطئه، فاضطراب الإرادةِ في مريض الفصام وطغيان التردد على أفعاله كثيرًا ما يترجمُ إلى بطءٍ شديد، وهذا النوعُ من أنواع البطء الوسواسي كثيرًا ما يكونُ عابرًا يظهرُ في أول المرض باضطراب الفصام، وربما يعاودُ الظهورَ بينَ الحين والحين في بعض الحالات وأحيانًا تكونُ هناكَ أعراضُ وسواسٍ قهري أخرى واضحةٍ كالشك والغسيل وأحيانًا لا تكونُ لدى الطبيبِ أيُّ إشاراتٍ لتفسير البطء الذي قد ينتجُ عن الأفكار الضلالية أيضًا والتي قد تتداخلُ مع الأفكار التسلطية، ولعل في قراءة: بين الوسواس القهري والفصام: نسخة مجانين! ما يبين أبعاد ذلك التداخل.
4- بطء وسواسي قهري كجزءٍ من اضطراب وسواس قهري مصاحبٍ لمرض الشلل الرعاش أو كجزءٍ من أعراض وسواس قهري أو اكتئاب مصاحب لمرض الشلل الرعاش : وتتداخلُ في هذا النوع متغيراتٌ عديدةٌ كلٌّ منها يسببُ البطءَ فالشلل الرعاشُ عادةً يصيبُ كبارَ السن وكبرُ السن نفسهُ يصبغُ الكثيرَ من السلوكيات بالبطء، كما أن الشلل الرعاش واحدٌ من أمراض النوى القاعدية وهيَ منطقةُ المخ التي يعتقد أن لحدوث خلل في اتصالات الأعصاب فيها علاقةٌ وثيقةٌ بالوسواس القهري، كما أن الاكتئاب كثيرًا ما يصاحبُ الشلل الرعاش، إضافةً إلى وجود احتمالٍ لحدوث عته الشيخوخة أو السَّبَه (الجمعيةُ المصريةُ للطب النفسي ، 1979ص 14) وتعني ذهاب العقل من الهرم كما ورد في القاموس المحيط (مجد الدين الفيروزَباذي، 1938) Dementia في كثيرٍ من حالات الشلل الرعاش وهوَ أيضًا يمكنُ أن يسببَ البطء.
5- بطء وسواسي قهري مصاحب لأمراض أو إصابات المخ الأخرى: وهنا نضعُ الحالات المصاحبة لمتلازمة داون وكذلك الحالات المصاحبة للأحداث الدماغية الناتجة عن إصابات المخ المختلفة كالحالات التي تلي التهابات المخ الفيروسية أو الأحداث المخية الوعائية المستترة.
المراجع العلمية:
1-Rachman S. J. (1974): Primary Obsessional Slowness. Behavioral Res. & Therapy, 11:463-471 .
2-Takeuchi, T. Shibata, S. and Yamagami, T.,(1997): Some New Findings on Primary Obsessional Slowness. Behavior Research & Therapy, May 1997, pp. 445-9).
3- Blackmun S.(1997) : OCD: Past, Present and Future. Psychiatric Times .Volume XIV .Issue 11.
4- Veale, D.(1993) : Classification and treatment of obsessional slowness. British Journal of Psychiatry, 162: 198-203.
5- American Academy of Child & Adolescent Psychiatry (1998) : Practice Parameters for the Assessment & Treatment of Children & Adolescents with OCD. J Am Acad Child Adolesc Psychiatry, 37(10suppl)
6- American Academy of Child and Adolescent Psychiatry (1997) : Practice Parameters for the Psychiatric Assessment of Children and Adolescents. J Am Acad Child Adolesc Psychiatry, 36:4S-20S
7- Sawle ,GV., Hymas, NF., Lees AJ. and Frackowiak RSJ. (1991) : Obsessional slowness. Functional Studies with Positron Emission Tomography. Brain; 114( Pt 5) Pages: 2191 - 2202 Part of the OUP Brain WWW service
8- Hymas, N. , Lees,A., Bolton, D., Epps K. and D. Head (1991) : The neurology of obsessional slowness. Pages: 2203 – 2234, Part of the OUP Brain WWW service
9- Okasha A. (2001) : OCD : A Transcultural Approach from an Egyptian Islamic Perspective, In :Okasha A. and Maj , M. (Editors) Images in Psychiatry An Arab Perspective. WPA , Scientific Book House ,Cairo.
واقرأ أيضًا:
هل هناكَ أنواعٌ من اضطراب الوسواس القهري؟/ هل اضطراب الوسواس القهري اضطرابٌ نادر؟ / الالتزام الديني والوسوسة هل من علاقة؟