بينا في مقالنا السابق هل الوسواس القهري لا يعالج؟ كيف ظل مجرد ذكر مرض الوسواس القهري أحد أهم المنغصات النفسية لكل ممارس لمهنة التطبيب النفساني لأنه بالفعل لم يكن يملك أكثر من مساعدة المريض على الصبر حتى تنقشع فترة اتقاد الوسوسة، ولعل التفاعل بين مريض يعاني وهو في منتهى العقل والذكاء، وعادة ما يقيم علاقة علاجية طيبة مع طبيبه النفسي الذي لا يملك كثيرا لمساعدته، فالتفاعل ذو مذاق متميز، وأيضًا لما كانت العلاقة غالبا ما يشوبها شيء من الإلحاح والملاحقة من جانب المريض المعذب الذي يريد أن يطمئن (كفعل قهري لأي فكرة تسلطية تنتابه) بسماع صوت أو أخذ رأي طبيبه، هذا النوع من التفاعل يأخذُ طعما خاصا، بلا شكٍّ إذا قارناه بالتفاعل مع كثير من المرضى، ويمكن أن يسببَ أخطاءً في الممارسة تعذبُ المريضَ أو تسببُ مشكلات للطبيب من المبتدئين في ممارسة الطب النفسي، حتى أن كبار الأطباء النفسيين في عهود ممارسة الطب النفسي القديمة كانوا يحذرون تلاميذهم من المبتدئين في تعلم المهنة من الوقوع في علاقة غير منضبطة القواعد والحدود مع مريض الوسواس القهري، وإلا أوقعوا أنفسهم في مشاكل هم في غنى عنها.
وحدث في العام 1966 حدثان مهمان:
فبدأت فيه الدراسات العلمية لأساليب العلاج السلوكي الجديدة تنشرُ في الدوريات العلمية، وفي نفس العام 1966 طرحُ عقَّارُ الكلوميبرامين Clomipramine في الأسواق كواحد من أدوية الاكتئاب Depression، وكانَ في البداية يعاملُ كواحدٍ من مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقةِ (T.C.A.s) مثلهُ مثلها، وهذه الأدويةُ تعملُ عملها حسب الفهم العلمي الحالي من خلال تثبيط استعادة أو استرجاع الناقلات العصبية من الوصلات العصبية ومن أهم الناقلات العصبية تلك مجموعة الأمينات الواحدية أو واحدات الأمين Monoamines والتي تشملُ الدوبامين والأدرينالين والسيروتونين وغيرها، المهم أن كل مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقة بما فيها الكلوميبرامين هيَ مثبطاتُ استرجاعٍ للأمينات الواحدية تعالجُ الاكتئاب لأن الاكتئاب حسب الفهم العلمي الغربي الحالي ينتجُ من نقص هذه الأمينات الواحدية في الوصلات العصبية للمخ، أو على الأقل يكون الاكتئاب مصحوبا بنقصها، وهذه الأدويةُ عندما تثبط استرجاعهُ إنما تبقيه فترةً أطولَ في الوصلات العصبية بحيثُ يعالجُ الاكتئاب.
ولم يمض وقتٌ طويلٌ حتى توالت الدراسات التي تبينُ أن لعقار الكلوميبرامين تأثيرًا جيدًا على مرضى الوسواس القهري (Fernandez-Cordoba, & Lobez-Ibor, 1967) و(Van Balkom etal 1998) وأنهُ يفيدُ في علاج أعراض الوسواس القهري حتى ولو لم يكن هناك اكتئابٌ مصاحبا لاضطراب الوسواس القهري، أي أن التحسن ليس بسبب تحسن الاكتئاب بل هو تحسن في أعراض الوسواس القهري نفسها (van Renygenghe de Coxvrie, 1968) و(Capstick , 1971)، وبعد ذلك أجريت الدراسات العملية في أنحاءَ شتى من العالم، وأجريت في بعضها مقارنات ما بينه وبين مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقة الأخرى فكان تأثير الكلوميبرامين واضحًا، بينما لم تختلف تأثيراتُ عقاقير الاكتئاب الثلاثية الحلقة الأخرى عن تأثير العقَّار المُمَوِّه (الزائف)Placebo (Ananth , 1977) و(Asberg et al.,1982) وجرب معظم الأطباء النفسيين في أجزاء عديدةٍ من العالم الدواء الجديد واتضحت فائدته لكل المرضى كذلك، ولكن التحسن المنتظر كان يظهر بعد عدة أسابيع من استخدام الدواء وكان إيقاف الدواء يستتبع عودة ظهور الأعراض في معظم، إن لم يكن في كل الحالات.
ومنذ ذلك الوقت بدأ الباحثون في الطب النفسي يتساءلون عن سبب استجابة مريض اضطراب الوسواس القهري لعقَّار الكلوميبرامين دونَ غيره من مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقة الأخرى؟
وكانت الإجابةُ هيَ أن له تأثيرًا خاصًا على الناقل العصبي السيروتونين إلى جانب تأثيره على الناقلات العصبية الأخرى والذي تشاركه فيه كل عقاقير الاكتئاب الثلاثية الحلقة وأصبحَ الحديثُ منذ ذلك الوقت يدورُ عن أن مثبطات استرجاع السيروتونين Serotonin Reuptake Inhibitors والتي يختصرونها بالحروف الأولى من كل كلمةٍ فتكونُ "SRIs" تفيدُ في علاج اضطراب الوسواس القهري، وأقترحُ تسميةً مختصرةً مماثلةً بالعربية فتختصرُ مثبطات استرجاع السيروتونين إلى م.أ.س أو "ماس". (وائل أبو هندي 2003)
وتلا ذلك أن بدأت شركاتُ الدواء في تخليق عقاقير تعملُ فقط على السيروتونين وظهر في سنة 1985 أول دواء اكتئاب يعالجُ الاكتئاب من خلال زيادته لتركيز السيروتونين في الوصلات العصبية وهو عقَّار الفلوكسيتين Flouxetine وبدأ الأمريكيون تجريبه في مرضى اضطراب الوسواس القهري، خاصة وأن عقار الكلوميبرامين الأوروبي المنشأ لم يكن من الأدوية المرخص باستعمالها في أمريكا وأظهر عقار الفلوكسيتين فعلا أن له تأثيرًا علاجيا مساويا لتأثير الكلوميبرامين بل كانت آثاره الجانبية أقل، وتلا ذلك ظهور عدة عقاقير تعمل فقط على تثبيط استرجاع السيروتونين، وتلا ذلك ظهور عقار أوروبي آخر هو عقار الفلوفوكسامين Fluvoxamine هو أيضًا عقار اكتئاب يعمل من خلال زيادة السيروتونين وجرب في اضطراب الوسواس القهري وأثبت نجاحه وفاعليته مع قلة آثاره الجانبية مقارنة بالكلوميبرامين، وظهر كذلك عقار السيتالوبرام Citalopram الأوروبي وأثبتَ فاعليتهُ كذلك ثم ظهر بعد ذلك بقليل عقار السيرترالين Sertraline الأمريكي أيضًا كعقار اكتئاب ينتقي السيروتونين وأثبت فاعليته في علاج اضطراب الوسواس القهري وظهر بعد ذلك عقار الباروكستين Proxetine، وأخيرا ظهر عقار الإيستالوبرام Escitalopram ومنح مكتشفو طريقة تصنيعه جائزة نوبل للكيمياء عن سنة 2001.
إذن فقد أصبح لدى الطبيب النفسي ولدى مريض الوسواس القهري العديد من العقاقير التي تفيد في علاج الوسواس القهري وكلها تتساوى إلى حد كبير من حيث تأثيرها العلاجي وإن اختلفت بعض الشيء في آثارها الجانبية العابرة، وتتم المفاضلة بينها على أساس ذلك وعلى أساس التكلفة الاقتصادية طبعا لأن العقاقير التي تعمل على السيروتونين فقط وآثارها الجانبية أقل عادةً ما تكونُ أغلى سعرًا من الكلوميبرامين، وسميت هذه المجموعة الجديدةُ من العقاقير بمثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية (لأنها تختار السيروتونين دون غيره من الناقلات العصبية) Selective Serotonin Reuptake Inhibitors ويختصرونها في اللغة الطبية الإنجليزية بالحروف الأولى من كل كلمةٍ أيضًا فتكون "SSRIs" وأقترحُ أيضًا أن نستخدم نفس الطريقة في العربية فيكونُ اختصار مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية هو: م.ا.س.ا أو "ماسا"(وائل أبو هندي 2003)...كما يمكننا كذلك لجمع كل العقاقير التي تعالج الوسواس تحت اسم معززات السيروتونين Serotonin Reinforcers واستخدام اختصار أصغر هو م.س أو "مس".
0 المهم أن العلاج الدوائي أيًّا كانَ يفيدُ في علاج الأفكار التسلطية، وكذلك في علاج البطء الوسواسي ولكنهُ لا يفيدُ وحدهُ في علاج الأفعال القهرية في معظم الأحيان، وإن من فضل الله أن الأفعال القهرية يتم علاجها بواسطة العلاج السلوكي والمعرفي بينما الأفكارُ التسلطية وإلى حد ما البطء الوسواسي يتحسنان باستخدام العقاقير، ولكنَّ تجدرُ الإشارة إلى أن النتائج التي يصل إليها المريض بعد إتمامه برنامج العلاج السلوكي والمعرفي بنجاح هو أقربُ إلى الشفاء بمعناه الفطري لدى الناس، أي أن المريض بعد إتمام العلاج السلوكي يعيشُ طبيعيا دون استخدام دواء، أما ما يحدثُ من تحسن نتيجة لاستخدام الدواء فهو في معظم الأحيان مرتبط باستمرار المريض على الدواء، أي أن المريض يعيش طبيعيا بشرط استمراره على الدواء والفرق كبيرٌ بالطبع بالنسبة للمريض، ولما كان استخدام الدواء لا يؤثر على فاعلية العلاج السلوكي فإن الجمع بينهما يعطي أفضل النتائج، بحيث يمكنُ بعد فترة من استخدام العلاج الدوائي والمواظبة على إتمام العلاج السلوكي المعرفي أن يستغني المريض عن العقار ويعيش حياته بشكل طبيعي.
المراجع العلمية:
1. وائل أبو هندي(2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة عدد 293، يونيو 2003.
ويتبع>>>>>>: حكاية الم.ا.س والم.ا.س.ا؟ الآثار الجانبية
اقرأ أيضاً:
الوسواس القهري بينَ عالم الغيب وعالم الشهادة / هل اضطراب الوسواس القهري اضطرابٌ نادر؟