قلنا في مقالنا السابق عن معنى الفعل القهري أن الأفعالَ القهريةَ هي أفعالٌ يضطَرُ المريضُ لفعْلِها ليُقَـلِّلَ من إحساسهِ بعدم الراحة والضيق والتوترِ وَزيادة إلحاح الأحداث العقلية التسلطية ولكن تلك الأفعال لا تعطيه الراحة إلا لوقتٍ قصيرْ، أو الأفعال القهرية هي أن يمارس المريض أفعالاً معيَّنَةً بشكل طَقَسِيٍّ حسب قواعِدَ محْكَمَةٍ! أو الاثنينِ معا، ونحاول في هذا المقال بيان العلاقة بين الحدث العقلي التسلطي والفعل أو الأفعال القهرية المصاحبة له.
هناك بلا شكٍّ علاقة للأفعال القهرية بالأحداث العقلية التسلطية، بل الواقع إنَّ الغالبِيَّـةَ العظمى أكثر من90% - 95% من حالات الأفعال القهرية تكونُ مصحوبَةً بأحداثٍ عقلية تسلطية والعكس أيضا صحيح ففعلُ غسلِ الأيدي مثلا يكون مصاحبا لأفكارٍ أو أحداثٍ عقلية تسلطيةٍ متعلقةٍ بالنظافة أو التلوث ويكون غسل الأيدي المتكرر هو السبيل الوحيد ليستريح المريض ولو قليلاً من تلك الأفكار، وأفعالُ إعادةِ التأكُّـدِ "التحقق" القهرية تكونُ مصاحِبَةً لأفكارِ وشكوك تتعلقُ بإتمام فعل ما على أتمِّ وجه!، وإعادةُ التأكُّدِ أو التحقق هنا هي أيضا السبيل الوحيد للتقليل من حدة وإلحاح الشكوك على وعي المريض.
ولكنَّ الرَابطَةَ بينَ الفعل القهريِّ والأحداث العقلية التسلطية لا تكونُ دائمًا متسمًـةً بشيءٍ من المنطق-وإن كانت منطقيةُ الرابطةِ مبالغًا فيها-، بل يحدثُ أحيانًـا ألا يكون هناك أيُّ نوعٍ من الربط المنطقيِّ بين الظاهرتين كأنَّ يجد المريضُ نفسهُ مضطَـرًا إلى البقاءِ واقفًا على أطراف أصابعِ رجليه طوالَ الليل لكي لا تغرق السفينة التي يسافرُ فيها أولادُهُ في ظلام البحر! وكذلك هناك حالات تكون الأفعالُ القهرية فيها غير مصحوبة بأفكار تسلطية ولا يكونُ لدى المريض تفسيرٌ لأفعاله إلا أنها تعطيه شيئًـا من الراحةِ، وأما ما يَعرضُ به المريضُ باضطراب الوسواس القهري نفسهُ على الطبيب النفسي من أعراض قهرية فإن النسب حسب دراسة لأحمد عكاشة (Okasha, 2001) تكونُ كما يلي:
1- أفكار تسلطية فقط: في نسبة................................... 28.99% من المرضى.
2- أفعالٌ قهريةٌ فقط: في نسبة................................... 31.11 % من المرضى.
3- أفعال قهرية وأفكارٌ تسلطيةٌ في نفس الوقت في نسبة................ 40 % من المرضى.
ونستطيعُ تقسيم مرضى اضطراب الوسواس القهري على أساس نوعية الأعراض من ناحيةِ كونها أفكارٌ تسلطيةٌ فقط أو أفعالٌ قهريةٌ فقط أو الاثنين معًا (وليسَ ما يذهبُ المريضُ بسببه إلى الطبيب النفسي كما في دراسة أحمد عكاشة) وذلك حسب الدراسات الغربية إلى:
1- مرضى يعانون من أفكار تسلطية فقط وتبلغ نسبتهم............................ 9 %.
2- مرضى يعانون من أفعالٍ قهرية فقط وتبلغ نسبتهم........................... 1 %.
3- مرضى يعانون من أفكار تسلطية وأفعال قهرية وتبلغ نسبتهم................ 90 %.
وعلى الرغم من قبول معظم الأطباء النفسيين لفكرة وجود أحداث عقلية تسلطية دون أفعال قهرية مصاحبة لها على عكس رأيهم في حالة وجود الأفعال دون الأفكار أو الأحداث العقلية التسلطية (كما يتضحُ من النسب السابقة)، فإن الحقيقة هي أنَّ وجودَ الأحداث العقلية التسلطية دون وجود أفعال قهرية مصاحبة لها أمر مشكوك فيه إلى حد كبير، وذلك لأن معظم حالات الأحداث العقلية التسلطية تكون مصحوبة بأفعال قهرية عقلية والأفعال العقلية بالطبع تأخذُ شكلَ الأفكار فتحسب معها في أغلب الأحوال خلال المقابلة النفسية مع المريض على أنها وساوس لا أفعال.
وقد جربت أن أثابر على السؤال مع كثير من مرضى الوسواس القهري الذين يشتكون من أفكار تسلطية متعلقة بالذات الإلهية أو المقدسات عموما وهي حالاتٌ مشهورة كأفكار تسلطيةٍ دون أفعال قهرية، وكنت في كل مرة تقريبا أصل إلى أن المريض يتخلص من ألم فكرته التسلطية بقراءة آية معينة من القرآن أو استرجاع حديث نبوي لا مرة واحدة ولا مرتين وإنما مرات عديدة حتى يحس بالراحة والهدوء، وبعضهم قال لي: "الحمد لله صحيحٌ أنني أفرطُ في تلاوة نفس الآية لكنني على الأقل آخذُ ثوابًـا" وأنا أرى أن هذا فعلٌ عقلي قهري موجود وكثيرًا ما لا يذكرُهُ المريضُ ولا يسألُ عنه الطبيبْ وإن ذُكِرَ فغالبا ما يحسب على أنه وسواس مع أن التفريق بين الحدث العقلي التسلطي والفعل العقلي القهري سهل فالأحداث العقلية التسلطية تحشرُ نفسها في وعي المريض رغمًا عنهُ وتسبب القلق والتوتر والانزعاج بينما الأفعالُ العقلية القهرية يفعلها الشخص مختارًا لكي ينقص القلق والتوتر والانزعاج.
ونستطيعُ أن نتصور المسار النفسي من الحدث العقلي التسلطي إلى الفعل القهري بشكل آخرَ فهناكَ أولاً الحدث العقلي التسلطي على المستوى المعرفي وهذه تنتجُ على مستوى المشاعرِ إحساسًا بالقلق المتزايد ثم يولدُ هذا القلقُ رغبةً شديدةً تدفعُ الشخص ناحية فعل أي شيءٍ لتقليل إحساسه بالقلق المؤلم فيكونُ هذا الفعلُ هوَ الفعلُ القهري والذي يعطي إحساسًا مؤقتًـا بالراحة والخلاص من القلق.
لكن هذا الإحساس لا يدوم طويلاً لأنه لا يزيل الحدث العقلي التسلطي كما أنه يولدُ لدى الشخص إحساسًا بعدم كفاية الفعل القهري نفسه مما ينتجُ عنهُ تعاظمٌ جديدٌ للقلق وهكذا تعادُ الدورةُ النفسية ما بينَ الحدث العقلي التسلطي على المستوى المعرفي أو العقلي وبين الفعل القهري على مستوى الأفعال.
وأما ما يقوم عليه العلاج السلوكي فهو منع المريض -بعد توضيح الأمر له- من أداء الفعل القهري أيا كان شكله وتحمل القلق والتوتر من أجل كسر الحلقة المفرغة المبينة في الشكل، وطبيعة الأشياء هي أن أي شعور أو إحساس عقلي (ويقصد به هنا الانزعاج الناتج عن عدم الإذعان للحدث العقلي التسلطي أو للرغبة في الفعل القهري) أي محتوى عقلي إذا تركنا الاستجابة القهرية له وصممنا على ذلك فإن النتيجة تكون هبوطا تدريجيا في حدته حتى يتلاشى دون أن يكمل المريض دورة الوسواس القهري، وهذا مشروح بالتفصيل في مقالات العلاج السلوكي على نطاق الوسواس القهري.
المراجع العلمية:
Okasha A. (2001) : OCD : A Transcultural Approach from an Egyptian Islamic Perspective, In :Okasha A. and Maj , M. (Editors) Images in Psychiatry An Arab Perspective. WPA , Scientific Book House ,Cairo.
واقرأ أيضًا:
برنامج علاج ذاتي لمرضى الوسواس القهري القسم الثاني/ برنامج علاج ذاتي لمرضى الوسواس القهري القسم الثالث/ برنامج علاج ذاتي لمرضى الوسواس القهري القسم الرابع