قال الشيخ أبو محمد ابن قدامة المقدسي في كتابه ذم الموسوسين:
الحمد لله الذي هدانا بنعمته وشرفنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته ومن علينا باتباعه الذي جعله علما على محبته ومغفرته وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته فقال سبحانه: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (آل عمران:31)، وقال تعالى:[.... وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ] (الأعراف:156)، ثم قال:[..... فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] (الأعراف:158) أما بعد: فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان يقعد له الصراط المستقيم ويأتيه من كل جهة وسبيل كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: [ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] (الأعراف:17).
(ونلاحظ في الكلام السابق الحرص الشديد من جانب ابن القيم على التفريق بين الاحتياط والوسوسة، وأن الاحتياط في الالتزام بأوامر الشرع مرغوب بينما الوسواس والمغالاة في أمر العبادات ينافي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، بل ويُعتبر من الأمور المذمومة المنهي عنها).
فصل ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان حتى اتصفوا: بوسوسته وقبلوا قوله وأطاعوه ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صلى كصلاته فوضوؤه باطل وصلاته غير صحيحة ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواكلة الصبيان وأكل طعام عامة المسلمين أنه قد صار نجسا يجب عليه تسبيع يده وفمه كما لو ولغ فيهما أو بال عليهما كلب.
ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات والأمور المحسوسات وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه بل يعلمه غيره منه ويتيقنه ثم يشك هل فعل ذلك أم لا وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعملها من نفسه يقينا بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها مكابرة منه لعيانه وجحدا ليقين نفسه حتى تراه متحيرا كأنه يعالج شيئا يجتذبه أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه.
قلت ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل أن رجلا قال له أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك هل صح لي الغسل أم لا فما ترى في ذلك فقال له الشيخ اذهب فقد سقطت عنك الصلاة قال وكيف قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة المجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ والصبي حتى يبلغ"، ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون.
(ونجد في فتوى ابن عقيل عُذراً لمن يقضي الأوقات الطويلة في الوضوء أو الغسل بالساعات فتسقط عنه فريضة الصلاة، لأن ما يفعله هذا الموسوس ضرباً من الجنون، والمجنون واحد ممن رُفع عنهم القلم، وقد تكون هذه الفُتيا من باب التهكم على هذا الموسوس لعله يرتدع عن وسواسه وفعله القهري!!).
قال وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة وربما فاته الوقت ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى وربما فوت عليه ركعة أو أكثر ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ثم يكذب.
وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك فاشتد به التنطع والتقعر يوما إلى أن قال أصلى أصلى مرارا صلاة كذا وكذا وأراد أن يقول "أداءاً" فأعجم الدال وقال "أذاء" لله (أي من الإيذاء والضرر، والصلاة لا تكون أبداً للإيذاء) فقطع الصلاة رجل إلى جانبه وقال: "ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين". قال ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مرارا
قال فرأيت منهم من يقول الله أكككبر قال وقال لي إنسان منهم قد عجزت عن قول السلام عليكم فقلت له قل مثل ما قد قلت الآن وقد استرحت، وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة وأخرجهم عن اتباع الرسول وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو وهم يحسنون صنعا، فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنا ما كان فإنه لا يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم.
وقال زين العابدين يوما لابنه يا بني اتخذ لي ثوبا ألبسه عند قضاء الحاجة فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب ثم انتبه فقال ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد فتركه.
ثم ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم ولو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسوسين لمقتهم ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم وها أنا أذكر ما جاء في خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلا.
الفصل الأول في النية في الطهارة والصلاة
النية هي القصد والعزم على فعل الشيء ومحلها القلب لا تعلق لها باللسان أصلا ولذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في النية لفظ بحال ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس يحسبهم عندها ويعذبهم فيها ويوقعهم في طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها وليست من الصلاة في شيء وإنما النية قصد فعل الشيء فكل عازم على فعل فهو ناويه لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها فلا يمكن عدمها في حال وجودها ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ولا يكاد العاقل يفعل شيئا من العبادات ولا غيرها بغير نية فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نية لعجز عن ذلك ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق ولا يدخل تحت وسعه وما كان هكذا فما وجه التعب في تحصيله.
وإن شك في حصول نيته فهو نوع جنون فإن علم الإنسان بحال نفسه أمر يقيني فكيف يشك فيه عاقل من نفسه ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك في ذلك ولو دعاه داع إلى شغل في تلك الحال لقال إني مشتغل أريد صلاة الظهر ولو قال له قائل في وقت خروجه إلى الصلاة أين تمضي لقال أريد صلاة الظهر مع الإمام فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا. بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال فإنه إذا رأى إنسانا جالسا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلي فإن تقدم بين يدي المأمومين علم أنه يريد إمامتهم فإن رآه في الصف علم أنه يريد الإتمام.
قال فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال فكيف يجهلها من نفسه مع اطلاعه هو على باطنه فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له في جحد العيان وإنكار الحقائق المعلومة يقينا ومخالفة للشرع ورغبة عن السنة وعن طريق الصحابة، ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها والموجودة لا يمكن إيجادها لأن من شرط إيجاد الشيء كونه معدوما فإن إيجاد الموجود محال وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيء ولو وقف ألف عام.
قال ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه حتى يركع الإمام فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا وأدركه فمن لم يحصل النية في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة، ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلا أو عسيرا فإن كان سهلا فكيف يعسره وإن كان عسيرا فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواء وكيف خفى ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من أولهم إلى آخرهم والتابعين ومن بعدهم وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له أما علم أنه لا يدعو إلى هدى ولا يهدي إلى خير وكيف يقول في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس أهي ناقصة عنده مفضولة أم هي التامة الفاضلة فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم .
فإن قال هذا مرض بليت به قلنا نعم سببه قبولك من الشيطان ولم يعذر الله تعالى أحدا بذلك ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة ونودي عليهما بما سمعت وهما أقرب إلى العذر لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته وبين لك عداوته وأوضح لك الطريق فمالك عذر ولا حجة في ترك السنة والقبول من الشيطان.
(ومسألة القبول من الشيطان وطاعته كبداية للوسواس فيها نظر!، فهل كل معصية يرتكبها ابن آدم سببها هو وسوسة الشيطان وحسب؟؟!، أم هناك أسباب أخرى؟؟!، أليس لدى كل منا نفس أمارة بالسوء؟!، وأحيانا الهوى المطاع؟!، وأحياناً بعض الشهوات والنزوات المرغوبة والمحرمة في نفس الوقت؟؟!، لذا من الصعب أن نُرجع كل شر يقع بابن آدم إلى وسوسة الشيطان!!، وهذا الأمر يحتاج للمراجعة مع علماء الدين، وهل الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور كل الناس، وهو إبليس اللعين -وأتباعه- والذي وسوس لأبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام هو نفسه اضطراب الوسواس القهري لدى بعض المرضى النفسيين المصحوبب بتغيرات عضوية ووظيفية في بعض خلايا المخ البشري كما أثبتت الدراسات الحديثة المتقدمة؟؟!! أظن أن هناك فرقا بين وسوسة الشيطان للإنسان العادي العاقل المتزن وبين اضطراب الوسواس القهري الذي يُصيبب الكثير من المرضى النفسيين بالصين والهند، واليابان والدول الإسلامية والدول الغربية وغيرهم من الدول، وقد أُكتُشِف قريباً أن اضطراب الوسواس القهري قد يُصيب بعض الحيوانات كالقطط والكلاب والببغاوات فنجدد الحيوان يلعق أو ينقر في جلده وفروه أو ريشه باستمرار كأنه مصاب بحساسية شديدة أو جرب لدرجة أنه قد يجرح جلده ويتساقط الكثير من فروه وريشه، ولا يشفى الحيوان من تلك الأعراض إلا بعد علاجه بمضادات ارتجاع السيروتونين، فهل إبليس وأعوانه بحاجة إلى الوسوسة بالشر للحيوانات؟؟!!).
قلت قال شيخنا ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها فيقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداء لله تعالى إماما أو مأموما أربع ركعات مستقبل القبلة ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت فلو كان في هذا خير لسبقونا ولدلونا عليه فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
قال ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة مثل تكرير بعض الكلمة كقوله في التحيات ات ات التحي التحي وفي السلام أس أس وقوله في التكبير أكككبر ونحو ذلك فهذا الظاهر بطلان الصلاة به وربما كان إماما فأفسد صلاة المأمومين وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله من الكبائر وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه وما كان عليه أصحابه وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت والاشتغال بما ينقص أجره وفوات ما هو أنفع له وتعريض نفسه لطعن الناس فيه وتغرير الجاهل بالاقتداء به فإنه يقول لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه وأساء الظن بما جاءت به السنة وأنه لا يكفي وحده وانفعال النفس وضعفها للشيطان حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه بالقدر عقوبة له وإقامته على الجهل ورضاه بالخبل في العقل كما قال أبو حامد الغزالي وغيره الوسوسة سببها إما جهل بالشرع وإما خبل في العقل وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب.
(أجد هنا قول الإمام الغزالي رحمه الله أقرب للصواب؛ وهو أن الوساواس والأفعال القهرية -من بعد تحري الشخص المريض عن الصواب في آداء العبادات، وذلك بسؤال علماء الدين- هم نتيجة للخبل والمرض النفسي الذي يحتاج للعلاج، وليسوا نتيجة لوسوسة الشيطان). هذه نحو خمسة عشر مفسدة في الوسواس ومفاسده أضعاف ذلك بكثير.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص قال قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني، فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه نعوذ بالله عز وجل منه.
ويتبع >>>>>>>: تاريخ اضطراب الوسواس القهري (10)
واقرأ أيضاً:
تاريخ اضطراب الوسواس القهري / الطب النفسي الإسلامي