منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري (3)
منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري:وقاية وعلاجاً (4)
تناول المقال السابق الحديث عن نظرة الفقهاء للوسواس القهري، وسبق شرح نقطتين منه وهما:
1- دور الشيطان في الوسواس القهري.
2- وصفة الشخص الذي يتسلط عليه الشيطان بالوساوس القهرية الدينية.
وسيتناول هذا المقال الأمر الثالث بالشرح وهو: أسباب قبول الوساوس الدينية والتمادي فيها:
يحصر العلماء أسباب قبول وساوس الشيطان والتمادي فيها بأمرين اثنين: الجهل بالدين، أو وجود علة في العقل.
جاء في "مواهب الجليل" [1/273]: (لا تعتري الوسوسة إلا صادقاً؛ لأنه يحدث من التحفظ في الدين ولا تدوم إلا على جاهل أو مُهَوَّس). والهَوَس: طرف من الجنون [القاموس المحيط: مادة: هوس]. وقال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الكبرى" [1/216]: (.. وبه تعلم صحة ما قدمته أن الوسوسة لا تسلط إلا على من استحكم عليه الجهل والخَبَل وصار لا تمييز له، وأما من كان على حقيقة العلم والعقل فإنه لا يخرج عن الاتباع ولا يميل إلى الابتداع).
ولابدّ من تناول هذين السببين بالشرح:
أ- الجهل وأثره في الوسوسة:
للجهل أثر واضح في قبول الوساوس وصعوبة التخلص منها -وهذا ما لمسته بوضوح من خلال ما أسمع من أسئلة واستفسارات- ولا بدّ أن الفقهاء لم يقرروا هذه الحقيقة إلا بعد ملاحظات متكررة لأحوال الموسوسين، ومما لاحظته أن الجهل المسبب للوساوس الدينية ينقسم إلى قسمين:
الأول: جهل بالفروع والأحكام الشرعية الجزئية. بمعنى أن الجهل يكون في مسألة شرعية بعينها -أو أكثر- وليس في القواعد الشرعية الكلية التي ينتظم تحتها عدد كبير من المسائل، فمثلاً: يعلم الموسوس أن الله ما جعل علينا في الدين من حرج، ولكن مع هذا يظن أن أثر المضمضة في الفم يفطّر الصائم، فيظل يجفف فمه بعد المضمضة بطريقة وسواسية واضحة، خوفاً من إبطال صومه، ولا يدري أن الأثر المتبقي بعد إخراج الماء من الفم لا يفسد الصوم. وهذا النوع غالباً ما تزول وسوسته بمجرد معرفة حكم المسألة، فتراه يقلع فوراً عن أفعاله الوسواسية، مستغرباً من نفسه كيف كان يتحمل هذا العذاب الأليم بسبب جهله في مسألة صغيرة.
والقسم الثاني: جهل بالأصول والقواعد الشرعية الكلية التي تضم تحتها عدداً كبيراً من المسائل الجزئية، فمثلاً: هناك قاعدة تقول: (اليقين لا يزول بالشك)، إذا جهلها الإنسان، أو جهل معناها والْتَبَسَت عنده بمعنى الاحتياط والورع، تراه يجهد نفسه بترك كل ما ورد إليه الشك -بدليل أو بغير دليل- ويبطل أعماله دون موجب وهو يظن أن ما يفعله من الاحتياط وترك ما يَرِيب، فتراه يتوضأ لأي إحساس بخروج شيء منه، ولا يعلم أن وضوءه الذي تيقن وجوده، لا يزول بمجرد الشك وإنما لا بد من وجود ناقض يقيناً، وقد يُطَهّر ثوبه ويغسل يديه بعد حمل طفل، إذ لعله كان قد لوث ثيابه بشيء من النجاسات، فيحتاط -في ظنه- ويغسل ثوبه بالاحتمال، رغم يقينه بأن ثياب الطفل نظيفة وعدم علمه بنجاسة حصلت من الطفل، وهكذا
وهذا النوع إذا نبهته على حكم مسألة يوسوس فيها، تركها بصعوبة بالغة لأن تركها يعارض الأصل المعرفي المختل عنده، وتراه ينتقل إلى فكرة وسواسية أخرى تتناسب مع ذلك الأصل المختل، وعبثاً تحاول قصره عن وسواسه، إن لم تصحح المفهوم الكلي المختل عنده، والذي أصبح طريقة راسخة للتفكير والمحاكمة، ولعل سبب هذا النوع من الجهل، عائد إلى الطريقة التربوية التي خضع لها الموسوس، أو إلى الخبرات التي مرّ بها.
ومازلت أتساءل: لم لا نقول: إن هذا الاختلال المعرفي السلوكي -والذي أصبح طريقة في التفكير والتعامل مع الحياة- لمَ لا نقول: إنه أدى إلى اختلال الناقلات العصبية، وتحوَّل إلى حالة مرضية، تماماً كما يؤدي تصحيح تلك المعارف والسلوكيات إلى تصحيح اختلال الناقلات، والشفاء؟ وقد أشار الفقهاء في كتبهم إلى هذه الناحية، فذكروا أن تعوّد الإسراف في الماء يؤدي إلى حصول وسواس لا يمكن معه زوال الشك، وبعبارة أخرى يؤدي إلى الوسواس القهري، جاء في "مواهب الجليل" [1/273]: (.... وآفة ذلك يعني الإسراف في صب الماء من جهات: قالوا: أو يورث ذلك الوسواسَ فلا يمكن معه زوال الشك وقد جربنا ذلك). فهذا خلل سلوكي في استخدام الماء أدى مع الاستمرار إلى تحوله إلى وسواس، كما ثبت بالتجربة عند الفقهاء. فهل -من المختصين- من يبحث اليوم، ويدرس الأمر، ويقوم بإيضاحه أكثر؟
ب- اعتلال العقل وأثره في الوسوسة:
يعبر الفقهاء عن العلة العقلية المسببة لدوام الوسواس بعبارات مختلفة، فيقولون: خبل في العقل، أو نقصان في غريزة العقل، أو هَوَس، وأياً كان التعبير المستخدم، فإنه يدل على وجود علّة ومرض في العقل والتفكير، يساعد على تمكن الوسواس واستمراره. وإذا حاولنا فهم هذا على ضوء المعلومات الطبية الحديثة المتعلقة بالوسواس القهري، يمكن أن نقول: إن هذه العلّة هي اختلال في الناقلات العصبية -أهمها السيروتونين- في دماغ الموسوس.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يبدأ أولاً؟ هل الفكرة الوسواسية هي التي تسبق بالظهور ثم تتحول بعدها إلى مرض (اختلال في الناقلات العصبية) بسبب قبول الموسوس لها؟ أم أن المرض يوجد قبل الفكرة، وبسببه يعجز الموسوس عن طرد الأفكار الوسواسية من ذهنه؟
كلا الأمرين وارد:
فإما أن يقال: إن الفكرة تسبق المرض: أي أن الشيطان يلقي الفكرة الوسواسية فينخدع بها الإنسان، ويتقبلها -لسبب من الأسباب- ويعمل بمقتضاها، وهذا القبول يؤدي إلى تفاقم الأمر، وتحوله إلى مرض يصعب معه التخلص من الفكرة أو الفعل القهري حتى لو أراد الموسوس ذلك. قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" [1/101]: (فإن قال: [يعني الموسوس] هذا مرضٌ بُلِيتُ به، قلنا: نعم سببه قبولك من الشيطان). وهذا يشير إلى أن ابن القيم يقول بسبق الفكرة للمرض، وأن هذا المرض يحصل بسبب طاعة الموسوس الاختيارية للشيطان، ولذلك نراه -رحمه الله- يشن حرباً شعواء على الموسوسين في كتاباته، أو لعله كان يقسو على الموسوس كطريقة لعلاجه وتنفيره من وسوسته.
وإما أن يقال إن المرض يسبق الفكرة: ويذكر الأطباء أن الوساوس يمكن أن تحدث (دون سبب سابق لها، كما تحدث نتيجة اضطراب عضوي كبعض إصابات الرأس، أو بسبب اضطراب نفسي كالاكتئاب مثلاً). [الوسواس القهري: د.الحبيب: ص20]، وهذا يعني أنه في بعض الحالات، يحدث الاضطراب في الناقلات العصبية ابتداء من غير تسبب من الموسوس، مما يجعله عاجزاً عن دفع الأفكار أو مقاومة الأفعال القهرية التي تأتي نتيجة للمرض، فالوسوسة في هذه الحالة: مرض يبتلي الله تعالى به العبد كسائر الأمراض الأخرى، ليُثيبَه ويمتحن صبره.
ولكن من الوارد جداً أن يكون مصدر الأفكار الوسواسية في هذه الحالة من الشيطان أيضاً، حيث يغتنم -اللعين- ضعف هذا المسكين وعجزه عن طرد الوساوس، فينفخ فيه من الوساوس ما يطير لها فؤاده، ويزيد بها محنته وبلاءه، كيف وهو العدو المبين وقد ظفر بفريسة سهلة المنال؟ ولو تركه حال مرضه لكان صديقاً رحيماً، يبتعد عن صديقه الحميم حتى لا يزعجه!
وقد وصف الله تعالى الشيطان بأنه: ((الَّذِي يُوَسْوِسُ فِيْ صُدُورِ النَّاسِ)) [الناس:5]، ولم يستثن من الناس أحداً لا المريض ولا غيره. ولا يمكن الجزم بأن جميع ما يحصل للمريض من الشيطان، ولكن لا بدّ أن له مشاركة ودوراً بارزاً في هذا الأمر.
ويترتب على ما سبق: أن الموسوس لا يُلام إلا على تسببه بمرض حصل له نتيجة اتباع الشيطان بسبب جهل غير معذور فيه، بأن يقصر في التعليم مع وجود من يعلمه ويرشده. أما ما يحصل نتيجة جهل يعذر فيه -كأن رُبِّيَ على مفاهيم تربوية مختلة وليس هناك من يصححها له-، أو ما يحصل له نتيجة خلل عضوي مرضي، فهذا من الابتلاءات التي نرجو من الله تعالى أن يُثيبَ المريض عليها بفضله وكرمه، وخاصة إذا بذل المريض جهده في العلاج ووَقْفِ الاستجابة للوساوس، وأياً كان الأمر، فلا يصح توبيخ الموسوس -المعذور وغير المعذور- لأن هذا يزيد من قلقه الذي هو العامل من وراء ظهور الوساوس، والوساوس تزيد القلق وهكذا [انظر:العلاج النفسي السلوكي: د.الزراد: ص250 الهامش، الوسواس القهري: د.الحبيب: ص28].
ولا ينبغي لمن كان قريباً من الموسوس أن يعين الشيطان عليه، بزيادة بلائه وكربه، بل عليه أن يدعو الله له، ويسارع إلى معاونته، وتعليمه، ومعالجته بشتى الطرق المتاحة، المعرفية والدوائية. وأذكر في هذا الصدد، الحديث الذي رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: أُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ [يعني الخمر] قَالَ: «اضْرِبُوهُ»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ. قَالَ «لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ». [الحدود/باب الضرب بالجريد والنعال].
قال ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" [12/55]: (ووجه عونهم الشيطان بذلك، أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية أن يحصل له الخِزي، فإذا دعَوا عليه بالخِزي فكأنهم قد حصَّلوا مقصود الشيطان). والشيطان يريد من الموسوس أن يغرق في وساوسه، ويتنكد عيشه، فما ينبغي لمن حوله أن يعينوا الشيطان على تحصيل مقصوده من هذا المسكين بفعل ما يساعد على زيادة مرضه.
المراجع:
- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: محمد ابن قيم الجوزية: المكتبة التوفيقية-القاهرة، تحقيق: عبد الحكيم محمد عبد الحكيم.
- العلاج النفسي السلوكي: د.فيصل محمد خير الزراد: دار العلم للملايين-بيروت:2005م.
- الفتاوى الكبرى الفقهية: شهاب الدين ابن حجر الهيتمي: جمعها تلميذه: عبد القادر المكي: دار الكتب العلمية-بيروت: 1997م، ضبطه: عبد اللطيف عبد الرحمن.
- القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي: مؤسسة الرسالة-بيروت :1993م، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة.
- الوسواس القهري، مرض نفسي أم أحاديث شيطانية؟: د.طارق بن علي الحبيب: دار الهدى للنشر والتوزيع-الرياض:2008م.
- صحيح البخاري: دار العلوم الإنسانية-دمشق: 1993م، تحقيق د.مصطفى البغا.
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني: دار إحياء التراث العربي-بيروت: 1988م.
- مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: محمد بن محمد المغربي المعروف بالحطاب (وبهامشه التاج والإكليل)، دار الفكر-بيروت:2002م.
ويتبع ................: منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري مشاركة
واقرأ أيضًا:
هل اضطراب الوسواس القهري اضطرابٌ نادر؟ / الاستبصار واضطرابُ الوسواس القهريِّ / علاج الوسواس OCDSD فقهي معرفي ديني Relig