لعل كثيرين من القراء سمعوا المقولة التي توضح درجة تخوف معظم الناس من الأمراض النفسية باختلاف أنواعها وهي (أن من يدرس علم النفس لابد وأن يصبح معقدا). إن هذه المقولة قد جعلت إحدى الأسر ترغم ابنتها وهي في السنة الثانية في كلية الآداب على تغيير تخصصها من علم نفس إلى أي تخصص آخر بسبب خوف الأسرة من أن تتعقد البنت نتيجة دراسة ذلك التخصص.
(وأما في حالة الأطباء النفسيين فالأمر بالطبع أكثر تأثيراً لأن أحلام الغالبية العظمى من طلاب الطب لا يتوقع أن يحققها تخصصهم في الطب النفسي ولأنهم غير مستعدين بعد دراستهم الطويلة والمضنية أن يتخصصوا تخصصا يجعل الناس تنظر إليهم بارتياب ولا يعطى نتائج مجدية كغيره من التخصصات.
وقد بـينت دراسة رائدة أجريت في أواخر القرن الماضي في جامعة الملك سعود بالرياض على طلبة السنة الرابعة بكلية الطب أن أهم أسباب عدم توجه طلبة الطب لتخصص الطب النفسي كانت اعتبار هذا التخصص وصمة اجتماعية غير مقبولة، إضافة إلى تصورهم أن الطب النفسي غامضٌ وغير علمي! كما بينت الدراسة تحسنا ملحوظا في توجهات الطلاب والطالبات نحو الطب النفسي بعد عقد دورة تدريبية لهم تعرفوا فيها على الكثير من حقائق الطب النفسي) (طارق الحبيب، 2001).
والحقيقة أن الاعتقاد بعدم استقرار الطبيب النفسي نفسيا في الأصل مفهوم غربي تلقفته المجتمعات الشرقية، وذلك لأن العلاج النفسي في بداياته كان يعتمد على التحليل النفسي والنظر في مشاعر الفرد وخلجاته التي ربما لا يشعر بها وتقديم تحليل نفسي لها، وهو ما جعل المعالج يبدو في نظر بعض الناس غريباً وذا قدرات خاصة، مما جعلهم ينسجون حوله الخيالات والأساطير كما أنَّ بعض المحللين النفسيين في أوروبا ماتوا منتحرين بسبب إصابتهم بالاكتئاب وقد بدا ذلك غريبا بالطبع في أفهام الناس لأنهم يتوقعون في المحلل النفسي مناعةً من المرض الذي يعالجهُ وكان في ذلك أيضا ما تلقفته وسائل الإعلامِ الغربية ونفخت فيه ما شاءت من النفخِ ومجتمعنا بالطبع لا يعرف ما هو الفرق بين المحلل النفسي والطبيب النفسي وكلهم عند الكثيرين سواء.
وَأمَّـا حقيقة الأمْرِ فإن الطبيب النفسي ما هو إلا إنسان عادي تماماً، قد درس الطب البشري فأعجبه الطب النفسي فاختار التخصص فيه دون سواه. ولا أنكر أبداً أن من الأطباء النفسيين من هو غير مستقر نفسياً، لكنهم ندرة ولله الحمد، مثلهم في ذلك مثل أي أطباء في أي تخصص آخر أو أي مجموعة أخرى من الناس. ولقد أجريت بعض الدراسات العلمية حول هذا الأمر فلم يوجد فرق إحصائي واضح يثبت أن أطباء النفس أكثر اضطراباً نفسياً من غيرهم.
ويبدو أن تركيز الناس في نقدهم على الأطباء النفسيين دون غيرهم من الأطباء له دور كبير في ذلك، إضافة إلى أنه ربما كان هناك بعض الأطباء النفسيين -وهم ندرة حسب رأيي- اختاروا الطب النفسي لما يعانونه من بعض المشاعر التي يبحثون لها عن علاج، والتي قد تبدو على تصرفاتهم بعض الشيء، فيلاحظها الناس ثم يفسرونها طولاً وعرضاً، ولو كانت عند غيرهم من الأطباء لما لاحظوها.
أضف إلى ذلك أن الدراسات العلمية التي أجريت لبيان ما إذا كان الأطباء النفسيون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية قد بينت العكس غالبا، وكان الاستنتاج النهائي أنه إذا كانت احتمالية إصابة الجراح بالتهاب الزائدة الدودية أكثر من غيره من البشر فإن احتمالية إصابة الطبيب النفسي بأمراض نفسية ستكون أيضًا كذلك، وفي المقابل فليست هناك إحصائيات موثوق بها تثبت أن الأطباء النفسيين أكثر استقراراً نفسياً من غيرهم، ولكنهم -بلا شك- أكثر إدراكاً للنفس البشرية ويستطيعون أن يتعاملوا معها بطريقة أفـضل من غيرهم.
ويعتقد بعض الناس بأنه قد تتأثر مع الزمن نفسية الطبيب النفسي فتصيبه بعض العلل النفسية!! وفي الحقـيــقــة أن هذا اعتقاد لا أصل له، وإنما هو مجموعة من الأوهام نشأت بسبب النظرة الاجتماعية المتوجسة من الطب النفسي.
وَكثيرًا ما يسألُ أصدقاءُ و أقرِباءُ الطبيب النفسي بعْدَ دُعائهمْ له بأن يعينهُ الله على تخصصه هذا، أليسَ صحيحًا أن الطبيب النفسي يعاني نفسيا بعد فترة من عمله بسبب ما يسمعهُ من المَرْضَى وَلست أرى ردًّا أبلغ من الرد التالي والذي أبدعه أخي الأستاذ الدكتور طارق بن علي الحبيب:
إذا كان طبيب النساء والولادة ينتابه الحيض والنفاس بعد من فترة ممارسة تخصصه، وكان طبيب الأطفال كلما زادت خبرته صغر حجمه حتى يعود في بطن أمه، فإن الطبيب النفسي- ولاشك يعتريه ما تشاء من الأمراض النفسية!!.
المراجع:
1- طارق الحبيب (2001): مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي ... عن موقع bafree.net بتاريخ 24 كانون الأول (ديسمبر) 2001
واقرأ أيضا
جلسات العلاج النفسي ليست خلوة / حدود العلاقة بين المريض والطبيب النفساني مشاركة / حدود العلاقة بين المريض والطبيب النفسي مشاركة3 / العلاج النفسي مجرد كلام ××