كثيرا ما نقرأ السيرة النبوية، ونمر عليها مرور الكرام، ولا نقف كثيرا عند معانيها الجليلة إلا عندما تضيء لنا أحداث الواقع الذي نعيشه حدثا منها بعينه. ومنذ أن تصاعدت حملة "التأله" الأمريكي الرأسمالي بعد الانفراد بقيادة العالم، تصاعدت في المقابل وتيرة حركة إنسانية عالمية ذات أوجه متنوعة ضد الظلم والجور بتجلياته العولمية المختلفة: السياسية/العسكرية، والاجتماعية/الاقتصادية، خاصة في السنوات التي تلت الحادي عشر من سبتمبر 2001.
منذئذ وحادث وحديث "حلف الفضول" يضيء أمامي يدعوني لأن أكتب عنه حديثا يصل الماضي بالحاضر، والمعنى بالمبنى، لكن خاطر الكتابة ذاك لم يتحول إلى هاجس وهمّ إلا عندما شهد الشهر الماضي (يناير 2004) التوقيع الثالث بدماء غربية على وثيقة معاصرة لحلف الفضول؛ فألهمتني تلك الدماء الكتابة، وظل الإلهام يتأجل حتى صار عزما، فدعوني لأضيء معكم ما استضاء أمامي؛ علنا نستنير جميعا بالنور الحقيقي لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
حلف فضول الماضي.. الحادث والحديث
أورد عبد الملك بن هشام في كتابه "السيرة النبوية" ما نصه: "تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد إليه مظلمته، فسمَّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الحلف الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت".
ويورد ابن هشام القصة التي كانت سببا في ذلك التداعي؛ فيقول: "كان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزوما وجمح وسهما وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوه على العاصي بن وائل"، ثم إنه أنشد شعرا عند الكعبة أهاج نخوة الزبير بن عبد المطلب، فتنادى القوم بالحلف، وكان ما كان.
وثيقة بدماء غربية
في الخامسة والنصف مساء الأربعاء 14 يناير الماضي (2004)، وفي غرفة العناية المركزة بأحد مستشفيات لندن توفي المصور الصحفي البريطاني الشاب توم هورندال Tom Hurndall عن 22 عاما، وذلك بعد أن رقد ما يزيد على 9 أشهر في حالة غيبوبة إثر إصابته بتلف مخي ناتج عن طلق ناري تعرض له في مدينة رفح الفلسطينية في 11 إبريل 2003، بينما كان يحاول دفع طفلتين فلسطينيتين بعيدا عن مرمى نيران الجنود الإسرائيليين، وكان قبيل إصابته قد أنقذ لتوه طفلا آخر من نفس الأسرة.
كان توم -كما تروي والدته- يدرس التصوير الصحفي في جامعة مانشستر، وقد سافر إلى بغداد في فبراير من العام الماضي مرافقا لبعثة من الدروع البشرية البريطانية سافرت إلى العراق تضامنا مع شعبه قبيل الغزو الأمريكي البريطاني له، وكان غرضه من الالتحاق بالبعثة هو التقاط بعض الصور الصحفية كجزء من واجباته الدراسية. وعلى الرغم من محاولة الأسرة إثناءه عن عزمه فإنه أصر على السفر، وبعد أن قضى فترة في العراق سافر إلى الأردن قبيل بدء الحرب؛ حيث أقام لفترة في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، ومن هناك سافر دون علم أسرته إلى فلسطين، حيث تدرب مع "حركة التضامن الدولية" في مدينة بيت لحم على أعمال حماية المدنيين الفلسطينيين، ومن هناك سافر إلى رفح كعضو في الحركة، إضافة إلى كونه مصورا صحفيا، وعلى الرغم من أنه -كما تروي والدته أيضا- كان يتبنى وجهة النظر الإسرائيلية في الصراع العربي الإسرائيلي -ربما تأثرا بالإعلام المناصر لها- فإن الواقع على الأرض كما يكشف عنه سير القصة وتطورها غيّر وجهة نظره؛ ففعل ما فعل.
حلف فضول غربي معاصر
كانت حركة التضامن قد انطلقت خلال مؤتمر لناشطي السلام الدوليين، عُقد بمدينة جنوة بإيطاليا في يونيو 2001، تم الاتفاق خلاله على إرسال وفود شعبية دولية إلى الأراضي الفلسطينية، تمثل المجتمع المدني العالمي تحت شعار: "حملة الحماية الشعبية للفلسطينيين". وفي البيان التأسيسي للحركة كتب ناشطو التضامن الدولي على موقع الحركة: "لقد عاش الشعب الفلسطيني على مدار عقود في أوضاع غير قانونية تحت نير الاحتلال الصهيوني، مرورا برفض إسرائيل الدائم لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ونداءات دول العالم الخاصة بدعوة إسرائيل لإنهاء احتلالها لأراضي الفلسطينيين. فتحت حماية الحليف والممول الأمريكي دأبت إسرائيل على إعادة احتلال المدن الفلسطينية، وعلى بناء المستوطنات غير القانونية، متجاهلة الحقوق الجوهرية للإنسان الفلسطيني، باتباع سياسات تستهدف إزاحة الفلسطينيين من وطنهم".
كانت الحركة قد سبق أن قدمت البرهان العملي على تضامنها مع الشعب الفلسطيني قبل توم؛ فقدمت الأمريكية راتشيل كوري (23 عاما) في 16 مارس 2003 شهيدة من أجل الحق والعدل، وفي 5 إبريل من نفس العام قدمت الأمريكي بريان أفيري (23 عاما) جريحا ومشوها في وجهه، وهو ما عبر عنه قائلا لدى عودته إلى وطنه في يونيو الماضي ورؤيته للمئات من نشطاء السلام في استقباله: "نحن بخير، طالما أن هذا الكم الكثير من الناس على استعداد لدعم السلام والعدل".
تساؤلات واجبة
كان لموت راتشيل كوري -وتحديدا للطريقة التي ماتت بها- تأثير الفاجعة عليَّ، وبقدر ما هزت مشاعري، فإنها هزت عقلي وأثارت فيه عددا من التساؤلات الواجبة:
التساؤل الأول: المنطقي والطبيعي، لماذا يأتي هؤلاء الشباب من بلدانهم ليفعلوا ما يفعلون في بلداننا وتضامنا مع قضايانا، بالرغم من خطر الموت الذي يحيق بهم، على الرغم من أنهم ليسوا مسلمين، وليسوا عربا؛ أي إن الأمر برمته لا يعنيهم (بالمنطق الحياتي المادي الصرف)؟!
التساؤل الثاني المرتبط به: وهو في الحقيقة تساؤل أو مجموعة تساؤلات لا تنفك عن بعضها، لكنها جميعا تتفق في أنها موجعة: هل أنا -أو نحن- على استعداد لأن نفعل فعلهم، لا في قضايانا (فإنه يحال بيننا وبين ذلك، فإن فعلنا فإننا إرهابيون!!)، بل في قضاياهم أو أي من قضايا الكفاح من أجل انتزاع الحقوق، أو ضد ظلم يحل بقوم من الأقوام بغض النظر عن كونهم مسلمين أم غير مسلمين، وأيا كان الظالم مسلما أم غير مسلم؟
هل نحن على استعداد للانحياز لقيمة الحق والعدل في مواجهة الظلم والعدوان؟ هل نحن على استعداد لأن نصل في انحيازنا وتضامننا هذا إلى مرحلة التضحية بالنفس؟ وبماذا نسمي من مات في سبيل قضية "غير إسلامية" بمفهومنا السائر والقاصر في آن لمصطلح "إسلامية"؟ هل نسميه شهيدا، أم نسميه منتحرا؟
فمن أعجب ما سمعت تعليقا على ما قدمه هذا الشباب القادم من كل حدب وصوب لحماية المدنيين في فلسطين من عدوان الجيش الإسرائيلي، من أعجب وأسخف ما سمعت في آن واحد، أن ما يفعله هذا الشباب إنما هو انتحار؛ بمعنى: يمكنكم أن تضحوا بأنفسكم في سبيل مناصرة الحق والعدل في قضايانا وضد الظلم والعدوان؛ فالأمر لا يعنينا في الحقيقة!!
اختلاف حول الجدوى والفاعلية
تفاصيل قصص هؤلاء الضحايا، وردود أفعال أسرهم تثير العديد من التساؤلات المتفرقة حول تأثير ما فعلوه على القضية، أسلبي هو أم إيجابي؟ وحول مدى الحرية وروح المغامرة التي تحلوا بها، وحول صغر أعمارهم وعلو هممهم، وحول النظام التعليمي الذي يكون الواجب فيه جديا وميدانيا لا صوريا وهزليا، تساؤلات وتساؤلات.
ولعل التساؤل الأهم هنا هو ذلك المتعلق بجدوى تضحياتهم للقضية، وهو تساؤل استنكاري يطلقه بعض الفلسطينيين (ويا للعجب!!) قائلين: إننا لا نريد من هؤلاء الشباب أن يأتوا؛ لأنهم لا يفيدون القضية الفلسطينية بمجيئهم، وإن الأفضل لهم أن يقوموا بالدعاية للقضية في بلدانهم!!
ولا شك أن الدعاية للقضية الفلسطينية في أوساط الرأي العام الغربي أمر هام جدا، إلا أن الدور الأكبر في ذلك -من وجهة نظري- يقع على عاتقنا. وإن كنت أحسب أن تضامن هذا الشباب والتضحيات التي قدموها هي أكبر حملة لشحن الرأي العام الغربي لمناصرة القضية؛ فلا أفضل من التأثيرات الشخصية، وكما عبرت أسرة كوري وأسرة هورندال بعد وفاتهما عن استمرار تضامنهما مع الشعب الفلسطيني في سبيل تحقيق العدل والسلام له، ولم يثنهما ما تعرضا له من فجيعة في أولادهما عن ذلك التضامن، بل ربما دفعهما إليه شعورهما بالغضب.
وهنا يثور السؤال: لماذا لا تجعل الفجيعة هؤلاء القوم ينقلبون على أعقابهم ساخطين على القضية برمتها؟ وعندما نعرف أن أسر الضحايا لم تكتفِ بموقفها ذاك في دعم القضية، بل إنها أخذت مواقف أكثر إيجابية في تتبع الجناة الفعليين من الجنود، وتتبع المسئولين السياسيين سواء في إسرائيل أو في بلدانهم، وعندما ندرك أن مواقف الأسر لا بد أنها تحدث دوامات من التأثير في محيط القرابة والأصدقاء، ندرك ماذا فعل هؤلاء الضحايا بدمائهم دعما للقضية.
السؤال الأكبر: ليست حركة التضامن الدولية هي الوحيدة على مستوى العالم التي تنحاز لقضايانا العادلة، وليست الساحة تقتصر على الانحياز لقضايانا العادلة وفقط، بل إن هناك حركة إنسانية عالمية تستهدف الوقوف في وجه مظاهر الجور والظلم الذي تفرضه "العولمة". والسؤال الواجب هنا والذي أختم به، وأصل به أول الأمر بآخره، والذي أوجهه بالأساس للدعاة وقادة الرأي: هل ننحاز نحن المسلمين في مواقفنا إلى القيم وندور معها حيث دارت، أم أننا ننحاز للمسلمين وإن لم يكن الحق والعدل معهم في قضية ما، على حساب غير المسلمين وإن كان الحق والعدل معهم؟
حلف الفضول، الحادث والحديث يعلمنا الانحياز لقيمة "العدل"، والبحث عن "حلف فضول" نواجه به "الظلم"، والمواقف المعاصرة تطرح علينا العديد من التساؤلات التي لا بد من الإجابة عليها بشجاعة وصدق مع النفس.
مواقع ذات صلة:
حركة التضامن الدولية /موقع راتشيل كوري التذكاري /موقع مؤسسة راتشيل كوري للعدالة والسلام /موقع مؤسسة توماس هورندال