كثير ما يلفت أنظارنا أشخاص مميزون يتركون بصمات إيجابية واضحة في كل طريق يمرون به. ونراهم عادة يتحلون بقدر عال من التوازن، وفي نفس الوقت يتمتعون بمستوى لا بأس به من السعادة والراحة النفسية.
التوازن هذا يعادل في كثير من الأحيان ما يدعى بالوسطية حين نتحدث عن جزئيات متعلقة بالشريعة الإسلامية. والوسطية أمر ليس بحديث على شريعتنا إلا أن التسمية كانت ضرورية لإيجاد مساحة بين الغلو والتشدد من جهة وبين التفريط من جهة أخرى، فأطلق اللفظ، وهو في أصله شرح مبسط عن سلوك النبي العظيم عموماً و عن مواقفه الكثيرة ومنها موقفه في القصة التالية: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) فرأينها سيئة الهيئة، فقلن لها: مالك، ما في قريش رجل أغنى من بعلك! قالت: مالنا منه من شيء، أما نهاره فصائم وأما ليله فقائم. فدخل النبي (صلى الله عليه وسلم) فذكرن ذلك له، فلقيه النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: «يا عثمان، أما لك فيَّ أسوة؟» قال: وما ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ فقال: «أما أنت فتقوم الليل وتصوم النهار، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً، فصلِّ ونم، وصم وأفطر».
أي توازن نتحدث عنه؟
- التوازن أمر مطلوب في كل جانب فنحن نحتاج إلى التوازن في الحب، حيث لا بد لكل شخص من ترك مسافة أمان في حبه للآخرين، أياً كان المحبوب، وكثير ما نسمع عن قصص أشخاص قدموا كل ما لديهم من عطاءات مادية ومعنوية لمن يحبون ثم انقلبت الأيام وصار المحبوب غريباً أو بعيداً. وماذا كانت النتيجة؟ فقر عاطفي، وفقر مادي، وويلات كثيرة. ونرى في الحانب العكسي أمثلة عن أشخاص كان الحب الذي ملأ قلوبهم دافعاً ومحرضاً للأمام.
- التوازن في الكره، فمن الضروري الاحتفاظ بطريق للرجعة دوماً ومن الخطأ الفادح حرق كل الأوراق في كرهك للآخر. فكم وكم دارت الأيام وتغيرت القلوب وسبحان من يغير ولا يتغير.
وكم وكم اضطرتنا الأيام لمعاشرة وصحبة أشخاص أمضينا أوقاتاً طويلة لا نكن لهم وداً. وكم من أشخاص أضمرنا عنهم أراءً سلبية ثم بينت لنا معاشرتهم جوانباً مضيئة في شخصياتهم لم نكن نراها فيما سبق.
- ماذا عن التربية؟ يبدو الأمر هنا أوضح فبينما تقسو أنت تحن وتعطف وتريد الصلاح، وبينما تعبس أنت تحتفظ بموقف ثابت من الحب لا يغيره شي، وكلنا يعرف أن مصائب البشر في معظمها تعود إلى إفراط في القسوة حمل الطفل على التمرد أو إفراط في الدلال والحب علمه الانحلال وقدر معقول من التوازن كان ليجعل الطفل (شخصاً متوازناً) يعرف حاجاته ويقدر في ذات الوقت حاجات الآخرين.
- التوازن في الغضب، كثيراً ما يكون التعبير عن الغضب ضروري وفعال، ولولا غضب شباب مصر الأبي ما شعر المصريون بالكرامة المهدورة ولكن حكماء مصر كلهم ينادون ويخشون من الإفراط الذي قد يؤدي بالأمة إلى ويلات غير محسوبة وغير متوقعة.
- حتى ردود الأفعال الرسمية التي تتحلى بالكثير من الهدوء وضبط الأعصاب تحتاج إلى توازن يتناسب مع الموقف الغاضب.
- في الغيرة التي هي أساس التنافس والتقدم، لا بد من توازن يحكم للإنسان عقله فيدفعه إلى الإنجاز وليس إلى التحسر والحسد وتصيد أخطاء الآخر. إن الغيرة في حد ذاتها جعلت الكثيرين يبحثون في ذواتهم عن نقاط تميز ونقاط قوة لإثبات جدارتهم وأنفسهم. إلا أنها في أوقات أخرى هدمت أصحابها ومن يحيطون بها حين تزداد عن حدها لتصبح حقداً وتدميراً.
- العمل الخيري الذي هو نتيجة مهمة من نتائج الشعور الإنساني بالآخر، وهو في نفس الوقت مظهر من مظاهر رقي المجتمعات، يحتاج إلى كثير من التوازن. فالاندفاع وراء تلبية مطالب الآخرين من فقراء وأيتام يكون في أحيان عديدة في غير مصلحتهم فيدفعهم إلى الاسترخاء وترك العمل والجد والاجتهاد. أما قدر معقول من عمل الخير والإحسان إلى المحتاجين يمكنهم من استعادة فرص كانت ضائعة في ظل غياب الحاجات الضرورية في حياتهم من قوت وكساء. لا بد دائماً في العمل الخيري من دراسة الحاجات وتقديرها في كل حالة على حدة.
- حتى في العبادة نحن نحتاج إلى التوازن، فبينما يرتقي الإنسان في درجات التقى والسمو بمقدار ما يحصّل من عبادة وعلاقة بالخالق عز وجل، يحتاج في نفس الوقت إلى اختيار الطريق الصحيح والمقدار المعقول بحيث لا ينجذب ولا يفرط في حق دنياه، ولكن ساعة وساعة.
إن هذه الأمثلة هي جزء من كل من التوازن الذي نحتاجه في سلوكياتنا وحياتنا. إننا نحتاج إلى توازن يحقق المطلوب من تصرفاتنا ولا يودي بنا إلى ما لا تحمد عقباه من ويلات الإفراط.
إننا نحتاج إلى توازن يجعلنا على قدر عال من تحمل المسؤولية وتوقع النتائج، توازن يجعل الوسطية أمر بديهي في حياتنا، كتنفس الهواء، لا يحتاج إلى توصيف وتسمية.
واقرأ أيضاً:
فزورة الثورة: العملاق الأعمى، والكسيح المبصر/ قـراءة نفسيـ تحليليـة للحـدث السياسـي/ مجموعة نفسانيون من أجل الثورة المصرية