أبناؤنا والأسر المعتلة: الأسرة العربية في خضم التغيرات الاجتماعية
التفاعل بين أفراد الأسرة علاقة ديناميكية تربط بين أفراد الأسرة وتجمعهم في نشاطات مختلفة، وأماكن مختلفة. فالفرد في الأسرة يتفاعل مع أفراد أسرته بشكل خاص، كما يتفاعل مع شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربطه بأصدقائه في العمل، والمدرسة، أو في أماكن الترفيه، ومنظمات المجتمع بشكل عام. وتعد المدرسة والأصدقاء ووسائل الإعلام مثالا واضحا للأنظمة المختلفة التي يتفاعل أفراد الأسرة من خلالها مع المجتمع الخارجي.
ويكون التفاعل بين أفراد الأسرة عن طريق الدور الذي يؤديه الفرد في الأسرة أثناء تعامله مع باقي أفراد الأسرة حيث يبدأ الفرد بعمل فعل أو سلوك معين، يستجيب له باقي أفراد الأسرة بأن يتخذوا دورا آخر حيث يتخذون دور المؤيد لهذا الفعل، أو دور المعارض له، أو يتخذون دورا متوازنا فلا يؤيدون هذا السلوك ولا يعارضونه. وفي كل تفاعل بين أفراد الأسرة لا يلعب الأفراد جميع الأدوار في نفس الوقت كما أنهم لا يلعبون نفس الأدوار في كل تفاعل، ولكن كأساس يجب أن يتوفر في كل تفاعل الشخص الذي سيبدأ بالفعل والشخص الآخر الذي سيقوم بالاستجابة لهذا الفعل واتخاذ أحد الأدوار الأخرى.
وللتفاعل بين أفراد الأسرة بصفة عامة أنواع مختلفة، كما توجد أنواع أخرى للتفاعل بين الآباء والأبناء بصفة خاصة، ولكل نوع من أنواع التفاعل أثره في تطور سلوك الطفل بالسلب، أو الإيجاب، فقد أثبتت الدراسات أن سعادة الأسرة تكمن في التفاعل المثمر بين أفرادها في جو يسوده الحب، والوئام حيث يتعامل الزوجان بتفاهم، واحترام مع بعضهما من ما ينعكس بطريقة ايجابية على سلوك الطفل، وتطوره. أما التفاعلات غير السوية بين أفراد الأسرة والتي قد تؤدي إلى اختلال وظيفة الأسرة كالصراع والنزاع المستمر بين الزوجين، والذي قد يؤدي إلى حدوث الطلاق والانفصال، بالإضافة إلى سوء معاملة الأبوين للأطفال والقسوة في التعامل معهم فكلها تؤثر تأثيرا سيئا على الصحة النفسية للأطفال، وتؤدي بهم إلى الإصابة بالإحباط وبالعديد من الاضطرابات النفسية.
وتعرف الأسرة المختلة وظيفيا بأنها الأسرة التي تفشل في أداء مهامها تجاه أفرادها، أو التي تقوم بأداء مهامها عن طريق اتباع وسائل ضارة وغير مثمرة، وليس بالضرورة أن يكون الأبوان منفصلين عن بعضهما بالطلاق حتى نطلق على الأسرة أنها أسرة مختلة وظيفيا حيث أن أي ضغوط نفسية شديدة تتعرض لها الأسرة يمكن أن تؤدي إلى الصراع بين الزوجين من ما قد يؤدي لاختلال وظائف هذه الأسرة كتعرضها للكوارث الطبيعية أو الأمراض أو انتقالها من مكان لآخر أو معاناة أحد أفرادها من البطالة، فالأسرة الطبيعية قد تتعرض لمثل هذه الأزمات إلا أنها تتمكن من تجاوز الأزمة، وتعود مرة أخرى لممارسة وظائفها بصورة طبيعية، بينما لا تتمكن الأسرة المعتلة من العودة لممارسة نشاطاتها حيث تصبح المشكلة مزمنة وتسود الممارسات السلبية في سلوك الأبوين حياة الأطفال. وفي مثل هذا الوضع غير السوي ينشأ الأطفال وهم يعتقدون أن هذا هو الوضع الطبيعي، وأن هذه هي التربية السليمة، فيستخدمون نفس الممارسات لاحقا في التعامل مع أطفالهم، وهو ما يؤدي إلى استمرار مسلسل الانتهاكات للأطفال على مر العصور والأزمان.
وللأسرة المعتلة وظيفيا مواصفات خاصة حيث يفتقد أفرادها للارتباط العاطفي فيما بينهم وذلك لأنهم لا يقومون بالتعبير عن مشاعرهم لبعضهم، إذ يعتبرون هذا دربا من دروب الضعف، وأنه من المشين أن يعبر الفرد عن مشاعره خاصة لو كانت تعبر عن آلامه، لذلك فهم يتعلمون أن لا يبوحوا بمشاعرهم وأسراهم الخاصة لأي فرد. وكنتيجة لذلك فإنهم يكتمون مشاعر الخوف والغضب من المجتمع في داخلهم، وهو ما ينعكس بآثاره السلبية على صحتهم، وعلى ثقتهم بأنفسهم، وعلى علاقاتهم الاجتماعية بالأفراد خارج نطاق الأسرة. كما أنهم يؤمنون بالمنافسة غير السوية، وذلك لأنهم يحصلون على كل ما يريدونه في الحياة من مشاعر الحب والأمان والغذاء والمال بصعوبة شديدة، وبكميات قليلة ومحدودة جدا، وهو ما يجعلهم لا يؤمنون بمبدأ التعاون مع بعضهم للحصول على ما يريدون، ولكنهم يتنافسون ويدبرون المكائد لبعضهم، وهو ما يزيد من حدة المشاكل فيما بينهم، ويؤدي بالتبعية إلى تطورها.
بالإضافة إلى ذلك فالقوة والسلطة في هذه العائلات تكون في يد فرد أو اثنين فقط من أفرادها، حيث يكونون هم فقط المسئولون عن اتخاذ القرارات المصيرية الخاصة بجميع أفراد العائلة دون إعطائهم الفرصة لاتخاذ قراراتهم بنفسهم بما يتناسب مع طموحاتهم، ورغباتهم المستقبلية، ونتيجة لذلك ينشأ لديهم شعور بالاعتمادية على هؤلاء الأفراد في العائلة، وهو ما ينعكس إلى الشعور بالكراهية تجاه الآخرين خارج الأسرة، حيث يوجهون مشاعر العدوانية التي يجدونها في أسرهم وتقوم عليها حياتهم تجاه الأفراد في المجتمع الخارجي. وبالتالي يصبح العنف هو اللغة التي يتحدث بها أفراد هذه الأسرة ليس فقط مع بعضهم ولكن مع المجتمع والعالم أجمع.
ومن أمثلة الأسر المعتلة وظيفيا الأسر التي يعاني أحد أفرادها من اضطرابات نفسية أو عاطفية، والأسر التي يقع أحد أفرادها فريسة لإدمان المخدرات أو المشروبات الروحية، وكذلك الأسر التي تتبع أسلوب القسوة أو أسلوب العنف الجسدي والانتهاك الجنسي للتعامل مع أفرادها، علاوة على الأسر المتعصبة دينيا أو عرقيا. فجميع هذه الأنواع من الأسر يفتقد أفرادها للارتباط العاطفي، والثقة بالنفس، وللهوية الثابتة، بل ويقدمون على القيام بأعمال قد تؤدي إلى تدميرهم أنفسهم.
ومن مظاهر الخلل في التفاعل في مثل هذه الأسر: ارتباط أحد الأبوين الشديد بوالديه أو بأحد أقاربه، أو الانشقاق والانفصال بين أفراد الأسرة نتيجة للنزاع والصراع الدائم بين الأبوين، أو وجود خلل في العلاقة الزوجية نتيجة سيطرة أحد الطرفين على العلاقة الزوجية دون السماح بالديمقراطية في العلاقة أو إعطاء مجال لتبادل الأدوار أو وجود فجوة بين الأجيال نتيجة الصراع والنافسة التي قد تكون دائرة بين أحد الأبوين وأحد الأبناء، أو ارتباط الأبوين الشديد بأحد الأبناء، كذلك أن يسود الأسرة جو من الشكوك والظنون غير المعقولة أو المقبولة، أو الانهماك في القيام بأفعال إجرامية تجاه أفراد الأسرة، أو انعزال الأسرة الاجتماعي والثقافي عن المجتمع، أو الفشل في تعليم الأطفال، أو إعطائهم الحرية الزائدة عن الحد، أو إعاقة الهوية الجنسية للطفل وإصابتها بالخلل من خلال الهوية الجنسية الشاذة للأبوين، أو أن يتخذ الفرد له هوية جديدة متعارضة تماما مع هوية الأبوين.
وفي مثل هذه الأسر غالبا ما تجد الآباء يتبعون بعض الممارسات الخاطئة في التعامل مع أبنائهم مثل الحط من شأن الأبناء، أو التقليل من قيمتهم، أو وضع جميع آمالهم وأحلامهم في أبنائهم وتوقع الكثير منهم، مع أن أحلام الآباء قد لا تتماشى مع طموحات الأبناء وأحلامهم، أو دفع الطفل لفعل تصرف لا يريده لمجرد أنه صغير وعليه أن يطيع أوامر الكبار، أو فقد الثقة في الطفل من ما يؤدي إلى فقدانه لثقته في نفسه فيما بعد، أو إهمال الأطفال والتعامل معهم بقسوة وبعنف، أو اهتمام الأبوين الزائد بأبنائهما والإسراف في الاهتمام بصحتهم، أو التدليل الزائد للأطفال، والاستجابة لجميع مطالبهم، والتدخل في كل شئونهم.
ويتخذ الأطفال في الأسر الشاذة أدوارا مختلفة للتكيف مع الأجواء غير الطبيعية التي يعيشون فيها مع أسرهم ومن هذه الأدوار الطفل المسئول والذي يطلقون عليه أيضا بطل الأسرة وهو الطفل الذي يتخذ دورا أكبر من سنه، فهو مسئول ويمكن الاعتماد عليه. وهو طفل مجتهد في دراسته، ويتخذه الوالدان مثلا ليثبتا من خلاله أنهما والدان مثاليان. وعندما يكبر هذا الطفل يكون قاسيا، ومتحكما في الآخرين. وبالرغم من نجاحه في عمله إلا أنه يكون عديم العاطفة. وهو مجبر على أن يلعب دور الشخص المسئول طوال الوقت لأنه يفتقد للشعور بالأمان من داخله.
وهناك الطفل الممثل وهو الطفل الذي يتخذ دائما ككبش فداء أو الذي يطلقون عليه أيضا اسم مهرج العائلة . وهو الطفل الذي تخجل منه الأسرة دوما على الرغم من أنه أكثر الأفراد صدقا في مشاعره، ومع ذلك فالأسرة دائما ما تتجاهل مشاعره. وهو طفل شديد الحساسية كما أنه رومانسي حالم، وهو ما يجعله مصدرا للتهكم والسخرية ويجعل الأسرة لا تمنحه ثقتها.
وهناك الطفل الهادئ ميمون الطالع والذي يسوي المنازعات والخلافات بالمفاوضات، وهو يتميز بطيبة قلبه وكرمه وسخائه، وقدرته على الإنصات للآخرين، والاستماع لهم. ومثل هؤلاء الأطفال يهتمون بالآخرين ولا يهتمون بأنفسهم، وعندما يكبرون فإنهم يعطون الحب للآخرين ولا يعطيهم أحد الحب، وهم دائما ما يقعون في علاقات ينتهكون فيها، وغالبا ما يحدث هذا أثناء محاولاتهم إنقاذ شخص آخر، وهم يمتهنون بمهن يخدمون من خلالها المجتمع وتعبر عن شخصيتهم كأن يعملوا كممرضين، أو كأخصائيين اجتماعيين، أو معالجين وهم دائما ما يشعرون بالذنب والتقصير تجاه الآخرين، ولا يقدرون أنفسهم حق تقديرها.
أما الدور الرابع الذي قد يتخذه الطفل في مثل هذه الأسر فهو دور الطفل المتكيف، أو الطفل المفقود، أو الطفل الشبح الذي لا يراه أحد وهو الطفل المستغرق في الخيال، وأحلام اليقظة. وهو طفل يهتم بقراءة قدر كبير من الكتب وكذلك مشاهدة التلفاز. وهو يتعامل مع الواقع عن طريق الهروب منه. وهو دائما ما ينكر مشاعره، وينفي وجود أي شيء يضايقه. وهذا الطفل عندما يكبر يكون لديه قدر قليل من الثقة بالنفس. وهو يهاب مشاعر الود والألفة، أو وجود علاقات مع الآخرين. وهو شديد الخجل، ومنطوي اجتماعيا؛ لأنه يعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تشعره بالأمان. وهذه الشخصية تنطبق على العديد من الكتاب والفنانين حيث يجدون من خلال الكتابة أو الفن طريقا للتعبير عن مشاعرهم وهم يختبئون خلف الشخصيات التي يجسدونها.
كذلك هناك الطفل الانتهازي ذو العقل المدبر الذي يستغل أخطاء الآخرين من أفراد الأسرة لتحقيق مصالحه الشخصية والحصول على ما يريد مهما بلغت قيمته.
وأخيرا، الطفل الوحيد، وهو حالة خاصة في مثل هذه الأسر المعتلة حيث يلعب الطفل جزءا من جميع الأدوار التي ذكرت سالفا بالتبادل أو بصفة مؤقتة وهو ما يؤدي به إلى الشعور بالحيرة والارتباك والألم الشديد.
أما عن الآثار السلبية التي تتركها الأسر المعتلة وظيفيا في نفوس أطفالها، والندوب الغائرة التي تسببها لهم جراء نشأتهم في مثل هذه الأسر فهي: عدم القدرة على التكيف والتواؤم مع المجتمع، وفقدان القدرة على اكتساب المهارات، مع عدم القدرة على تحديد السلوك السليم الذي يجب اتخاذه عند مواجهة المواقف بالإضافة إلى توقعاتهم الخاطئة عن سلوك الآخرين. وهؤلاء الأطفال لا يعيشون طفولتهم بصورة طبيعية فهم يكبرون قبل الأوان ويتحملون أعباء ومسئوليات أكبر من سنهم وهم لا يشعرون بهذا إلا عندما يمرون بضغوط وأزمات ونتيجة لذلك فهؤلاء الأطفال غالبا ما يعانون من فقدان الثقة بالنفس والاكتئاب والعزلة وعدم القدرة على إقامة علاقات ناجحة. كما أنهم يعانون من مشاكل اضطرابات السلوك كالتدخين، وتعاطي المخدرات، وإقامة علاقات جنسية غير شرعية، والحمل المبكر، بالإضافة إلى تكرار القيام بمحاولات للانتحار. كما أن معاناتهم في طفولتهم قد تؤدي إلى زيادة معدلات إصابتهم بالأمراض المزمنة كأمراض القلب، وأمراض الجهاز التنفسي، مع زيادة معدلات الوفاة المبكرة.
وعن الأسر المعتلة في الوطن العربي فالعرب يقطنون في حوالي 22 دولة في الوطن العربي في شمال وشرق أفريقيا، وفي الشرق الأوسط. ويتميز المجتمع العربي بأنه مجتمع جماعي، ويخضع فيها جميع الأفراد لنظام واحد. وللأسرة أهمية خاصة في المجتمع العربي أكثر من الفرد. كما ينشأ الأطفال في الأسر العربية على مبادئ، وقيم الوفاء والاحترام للأسرة. ودائما ما يقوم الآباء بتعميق المبادئ، والعادات، والتقاليد في نفوس أبنائهم حتى ولو اضطروا للجوء للعقاب.
وقد أثبتت العديد من الدراسات أن الآباء في المجتمع العربي يستخدمون أسلوب القسوة والعنف والاستبداد والتسلط مع أبنائهم خاصة في بعض الدول العربية مثل مصر والبحرين والكويت والأردن والمغرب خاصة في المجتمعات الفقيرة. إلا أنه نظرا للتمدين، والتحضر الذي تعرضت له المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة فقد أدى هذا إلى احتكاك المجتمع العربي بالمجتمع الغربي وتأثره به. وقد تباينت نتائج هذا التأثر من بلد عربي إلى بلد عربي آخر ففي لبنان مثلا أصبح المجتمع أكثر ديمقراطية، وتحررا من كثير من الدول العربية الأخرى. وعلى النقيض تماما نجد المملكة العربية السعودية برغم ثرواتها الطائلة التي مكنتها من اقتباس التقدم التكنولوجي من الغرب إلا أنها ما زالت متمسكة بالعادات والتقاليد العربية، ولم تسمح باقتباس الثقافة الأجنبية في الحياة الاجتماعية والسياسية على الإطلاق. وهناك بعض الدول العربية الأخرى التي اقتبست الثقافة الغربية عن طريق الوقوع تحت وطأة الاحتلال مثل فلسطين المحتلة حيث يعيش الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي الذي يهدد هويتهم وينكر وجودهم.
في ظل هذه الظروف نجد العديد من الدول العربية قد اتخذت موقفا سلبيا تجاه الثقافة الغربية كجزء من الحفاظ على الهوية والثقافة العربية. لذلك نجد أن هناك نوعين من الثقافة تأثرت بهما الأسر العربية وهما: الثقافة الإسلامية العربية المتزمتة والثقافة الغربية المتحررة. وقد أدى ازدواج الثقافات إلى حدوث تأثير متناقض على عملية الأبوة؛ فنجد بعض الآباء في الدول العربية يتبعون أسلوب التسلط في التعامل مع أبنائهم بينما يتساهل آخرون متبعين في ذلك الثقافة الغربية المتحررة.
ويتبع >>>>>: العقاب بالضرب وأثره على الصحة النفسية للأطفال
واقرأ أيضاً:
بنية الأسرة وأثرها في تطور الأطفال / التنشئة الأسرية الموجهة نحو الصلاح الإنساني 5 / اضطراب الوظيفة الوالدية والإساءة للأطفال