النوم ليس غياباً عن الوعي، ولا تخديراً يُسكت الدماغ عن نشاطه.
النوم نشاط وحركة تستبعد الكثير من مُعطيات الحياة الدُنيا، تأتي بالموحيات والرغبات، تُكثفها وتُرمزّها وتولّفها، تُضفرها وتدفع بها إلى الواجهة. مما لا شك فيه أن مخّ الإنسان أكثر تركيباً وتعقيداً مما يتصوّر البعض، وداخل هذا الدماغ البشري، تنظيمات، اتصالات وشبكات لها نظامها الخاص، وتواصلاتها العجيبة الدقيقة، تعمل في دقّة وتناغم وانسجام، في تناسق وروعة، نتاجها النوم والحلم، اليقظة، التفكير والسلوك الإنساني عامةً بكل فظاعته، جماله، ميوعته، ولوعته.
النوم ليس عكس اليقظة أو الحالة المضادة لها. هو استمرار وجودي، له مراحله ومستوياته، حسبما تُشير أبحاث تخطيط الدماغ الكهربي (EEG).
توجد في المنطقة الجذعية من المخ مراكز تنظيم إيقاع المخّ، تلك التي تخُصّ النوم والأحلام بما في ذلك التكوين الشبكي. يقولون إن الوعي يتدفق على الإنسان خلال الحلم: أفكار.. صور، أماكن، صراعات، خيالات.. وحوش، فنجد الحالم يتسمَّر، ويتشنَّج، ويصرخ، ويُشَلّ، وفي أحوال شبه مرضية يبكي يمشي، يتكلَّم، يضرب، يمضغ.
يعيش الحالم دنيا أخرى، ويسوده شعورٌ آخر غير ذلك الشعور وهو واعٍ، ولأن النوم مراحل، أهمها تلك التي تحلم فيها وتلك التي ليس فيها حلم. فإن الوعي ينقسم إلى ثلاثة: اليقظة، النوم الحالم، والنوم غير الحالم.
مراحل النوم خمسة:
(1) الوسن: الدخول في النوم والخروج منه، قد يشعر فيها النائم بأنه يقع من عل، تتحرك فيه العينان رغم إغلاقهما. (2) النوم الخفيف ويقضي الإنسان فيها نصف وقت نومه تقريباً. (3) النوم العميق. (4) النوم العميق الذي لا توجد فيه حركة العينين. (5) نوم حركة العين السريعة، وفيها يسرع التنفس وضربات القلب والضغط، ويحدث انتصاب القضيب عند الذكور، وإذا استيقظ الإنسان في هذه المرحلة تمكِّن من تذكُّر أحلامه.
وكان فرويد أول من أدخل تفسير الأحلام من خلال التحليل النفسي.كان مرضاه يقصُّون عليه أحلامهم، ومن هنا تعلم منهم أن الحلم يمكن إدراجه في العلاج، حيث يســــاعد الحلم – أحياناً - على تتبع الفكرة المرضية واقتفاء أثرها في الذاكرة، لكن هذا لم يتم بسهولة مع كل المرضى، لأن المحلّل النفسي لا بد أن يُعِدّ المريض نفسياً (بمعنى أن يُزيد انتباهه لمدركاته النفسية، وأن يتخلّى عن الانتباه ونقد أفكاره). إذن يستلقي المريض على الشيزلونج مغمضاً عينيه، ولا يستسلم لفكرة البحث عما يدور حوله أو عما سيحدث له، يركِّز فقط على ما يدور في رأسه، وأن يذكر ما يريد ذكره دون خوف، أن يكون حيادياً في سرده لحلمه.. وهكذا.
الأحلام: الطريق إلى العقل الباطن
اقترح فرويد في كتابه «تفسير الأحلام» أن محتوى الأحلام له علاقة بإشباع الرغبة، بمعنى أن صور الحلم وأحداثه ما هي إلا قناع لرغبات العقل الباطن، ووصف ما يسمى بالشغل على الأحلام في أربع خطوات (التكثيف، الإزاحة، الترميز، الإسقاط).
بعد مرور الحلم بهذه المراحل الأربع يتناثر ويتجزَّأ (يتلخبط)، ويصبح غامضاً غير مفهوم، تتمّ كل هذه العمليات في العقل الباطن، هنا يتعرَّض الحلم لعملية من الترتيب وإعادة الترتيب، التقطيع.. المزج، كما لو كان الحلم فيلماً تتمّ له عملية (مونتاج)، هنا يصل إلى منطقة الوعي: فالبنت التي ترفض أمها، وربما تحسّ تجاهها ببعض مشاعر الكراهية، لا يمكن أن تقول ذلك صراحة، لكنها تلجأ في الحلم إلى رؤية امرأة أخرى، ربما في سن أمها نفسه تُعنّفها وتضربها (هنا هي أزاحت عدوانيتها من أمها المرفوضة منها والمعادية لها والتي انتقدتها بشدة، لخّصَتها وجمعتها في تلك المرأة البشعة في الحلم، وتأخذ المرأة الأخرى رمز الأم من بعض نواحي الشكل، أو تتشابه معها في الاسم مثلاً، ثم تُسقط الحالمة عدوانيّتها بشكل عكسي بحيث ترى المرأة الأخرى في الحلم توشك على قتلها (في حين أن البنت هي التي تتمنّى لا شعورياً إيذاء الأم).
وفي حلم آخر دأب رجل في أواسط العمر على رؤيته (وللحلم المتكرِّر دلالة كبيرة في التحليل النفسي)، كان يرى القذافي وهو يصرخ ثم يُغتال، بعد عدة جلسات تبين أن القذافي رمزٌ للأب العنيف المُستبدّ الذي جرحه كثيراً بنقده، فكان الرجل لا شعورياً، يتمنّى موت أبيه، هنا أصبح القذافي رمزاً للقهر ورمزاً للأب، مات والد الرجل وبعده بسنوات اغتيل القذافي، قهقه الرجل، وتبينت الأبعاد النفسية لحلمه المتكرِّر الذي كان قد توقَّف بعد موت الأب الحقيقي.
يرى بعض المحلِّلين أن الحلم عملية ذهنية إدراكية بحتة، يخدم فيها الحلم مفاهيم حياتية تخصّ الحالم نفسه، لتفسيرها لابد من معرفة سلوك الحالم في الحلم، ومن كان معه، التفاعلات بين الشخص الحالم وبين الشخصيات الأخرى في الحلم، شكل الحلم مكانه، زمانه، أرضيته، تحولاته ونتائجه.
يعمد المحلِّل إلى فهم شخصية الحالم، لا فهم الحلم وتفسيره وتسخير ذلك إكلينيكياً، بمعنى توظيفه في عملية العلاج النفسي، من ناحية ترميم الأنا وتقويتها، إلى حلّ العقدة بكل تركيباتها وتعقُّداتها.
كلنا نحلم، بعضنا لا يتذكَّر حلمه عند الاستيقاظ، وقد نحلم أكثر من مرة في أثناء النوم، ويتراوح الحلم ما بين خمس دقائق وعشرين دقيقة، يعني حوالي ست سنوات من متوسِّط عمرنا نقضيها ونحن نحلم.
يتأثّر النوم ومن ثَمَّ نوعية الحلم والكابوس، بالنشاط الحياتي والذهني قبل النوم كمشاهدة أفلام الإثارة والرعب مثلاً، أو التعرُّض لصدمة، أو مشاهدة موقف مزعج أو أليم، أو تناول وجبة سمينة، كذلك فإن تناول العقاقير بشكل عام يؤثر على نوعية النوم والأحلام والكوابيس، وبشكل خاص العقاقير ذات التأثير النفساني والكحول والمخدرات بكافة أنواعها، كذلك المُنبِّهات القوية، والإفراط في تناول الشاي والقهوة.
حوالي ٪95 من الأحلام تُـنسى بسرعة بعد الاستيقاظ من النوم. لماذا؟ يعتقد بعض العلماء أن تغيُّرات المخ في أثناء النوم لا تدعم معالجة المعلومات وتخزينها، ومن ثَمَّ لا يمكن حفظها في الذاكرة، ولقد أوضحت صور الأشعة الدقيقة لمخّ النائم أن المنطقة الجبهية من المخ تلعب دوراً في الذاكرة، وتكون غير نشطة أثناء نوم حركة العين السريعة (المرحلة التي تحدث فيها الأحلام).
ليست كل الأحلام بالألوان الطبيعية، حوالي ٪80 من الناس يحلمون بالألوان، بينما الآخرون يحلمون بالأبيض والأسود، والذين يعيشون في بلاد أخرى غير بلادهم الأصلية مُتحدِّثين بلغتها لا يحلمون إلاّ بلغتهم الأصلية، إلا في حال تمكُّن البلد الآخر من عقلهم الباطن ومن وجدانهم.
أما النساء فيختلفن عن الرجال، أحلامهن أطول وفيها شخصيات كثيرة. والرجال الذين يحلمون برجال آخرين هم ضعف النساء، ويقولون إنه بالإمكان التحكُّم في أحلامك، كما في فيــلم «ماتــريكس» بجزئيه، وفيـــلم (INCEPTION) عن الأحلام المركَّبة.. ففي هذا الفيلم يكون (الحلم الصافي) الذي يعي فيه الإنسان أنه يحلم على الرغم من أنه نائم، ومن ثَمَّ فالحالم يتحكَّم في حلمه، والإنسان العادي يختبر ذلك ولو لمرة واحدة في حياته.
في أثناء نوم حركة العين السريعة لا يتمكَّن الإنسان من الحركة (يُشَّل)، وقد تكون تلك التجربة مخيفة ومرعبة إذا تيقَّظ خلالها، لأنه لا يتمكَّن من الحركة ولا من الصراخ، لا يتمكَّن من التحكُّم، يُصبح خارج السيطرة.
لكن ماذا يعني الحلم؟ الحلم أمرٌ غامض، ومحاولات فهم غموضه تزيد الالتباس والتشوُّش، محتواه يتحرَّك بسهولة، ويتنقل من منطقة إلى أخرى، يحوي أموراً عجيبة غريبة مخيفة ومرعبة، يمتلئ بصور مفزعة تبعث الهلع.
وعلى الرغم من كل نظريات الدين وعلم النفس في تفسير الأحلام، إلا أن لا أحد يفهم تماماً هدف ومُبتغى ذلك الهوس الذي تحوَّل إلى تجارة وشطارة ولهو وعمليات نصب أحياناً.
وقد لا تعني الأحلام أي شيء، ولكن، ولأن الإنسان يلهث وراء التفسيرات باحثاً عمّا يسعده أو يزعجه؛ فإن تفسير الأحلام لاقى هوىً متزايداً لدى كثير من الناس، بل وفي ثقافات متخلفة، خصصت له برامج وهواتف واتصالات وإجابات لا معنى لها سوى دغدغة المشاهد وإثارة شهيَّته للمزيد.
جميع الحقوق محفوظة لمجلة الدوحة
مجلة الدوحة العدد 73 نوفمبر 2013
اقرأ أيضا:
تلاقي النقيضين تمني الموت والخوف منه / من على الشيزلونج ـ المرأة والوسواس والزواج / وجهة نظر في تفسير الأحلام... من يحلم بالموت سوف يموت / اضطرابات النوم Sleep Disorders