كثيراً ما أستقبل في عيادتي أُسراً تأتي بأطفال متأخرين في مهاراتهم اللغوية والاجتماعية، وكثيراً ما يسارع الأهل إلى إنكار إصابته بالتوحد - حتى قبل إطلاق أي تشخيص على الطفل - وإلى التأكيد على أن فلاناً وعلاناً من الأخصائيين قد رأوه وأكدوا أنه "مش توحد" وكثيراً ما يفتقد الأهل إلى تفسير آخر للظاهرة لأن من أكّد لهم أنه "مش توحد" لم يعطهم اسماً آخر لمشكلة ابنهم أو ابنتهم وربما أعطاهم ذلك المصطلح الغامض "الحرمان البيئي" مصحوباً بسيلِ من اللّوم والتأنيب للأهل - والأم خاصةً - لأنها السبب في كل ما أصاب ابنها وسيصيبه من مشاكل !!
وللأسف الشديد هناك حالات كثيرة على طيف التوحد يتم إهمالها ولا تتلقى الرعاية الكافية لها بسبب هذا المصطلح الغامض "الحرمان البيئي" والحقيقة أن كل حالات التأخر في المهارات التواصلية (مثل معظم المشاكل النفسية والسلوكية) ترجع إلى تفاعل معقد بين العامل الجيني والعامل البيئي، ومن النادر أن يتعرّض الطفل في مجتمعنا الحالي إلى حرمان بيئي شديد يكفي أن يستقل بالتسبب في تأخره اللغوي والتواصلي أو حتى لكي يكون العامل البيئي هو العامل المسبب الرئيسي في الحالة، حيث يحتاج ذلك إلى عزل الطفل بعيداً عن البشر - حتى عن أبيه وأمه - في معظم الأوقات وغالباً لا يحدث ذلك إلا في حالات استثنائية كالطفل اللّقيط المُهمل مثلاً في ملجأ ليس به الحد الأدنى من الرعاية أمّا ما يُقال للأمهات والأسر وإلقاء اللّوم على الأمهات وإقناعهن بأنهن "السبب" في تأخّر أبنائهن لغوياً لأنّهن لا يتكلّمن مع الأطفال بما يكفي ويتركونهم أمام التلفاز ساعات طويلة فهو من قبيل المبالغة ولا يؤيّده العلم والدراسات، حيث أثبتت أحد الدراسات أن العامل الجيني يمثل ما يقرب من 60% من الأسباب المؤدية للتأخر النّمائي العصبي المسبب للتأخر اللغوي والتواصلي بينما يلعب العامل البيئي حوالي 40% من الأسباب المؤدية لهذا التأخر، وبمقارنة بسيطة جداً يمكن لكل أسرة أن ترى في محيطها العديد من الأطفال الآخرين - بل ومن أشقّاء الطفل المتأخر الذين تتم معاملتهم بنفس الطريقة في نفس المنزل - من يتعرض لنفس الظروف البيئية ولكنه يكتسب اللغة ومهارات التواصل غير اللغوي بشكل طبيعي جداً، لكن التفسير البيئي غالباً ما يكون مقبولاً من الأسر، فهم يُفضّلون لوم أنفسهم على التصديق بأن هناك خللاً في البنية العصبية لأبنائهم، ولأن كثيراً من الأخصائيين النفسيين وأخصائيي التخاطب -وهم أول من تلجأ إليه الأسرة غالباً - يُفضّلون دائماً التفسير البيئي على التفسير الجيني النمائي، ولكن هذا التفسير يؤدي في النهاية إلي حرمان الطفل من الإشراف الطبي المتخصص على حالته، كما يؤدئ إلى إصابة الأمهات بالاكتئاب وعقدة الذنب التي لا مبرر لها مما يؤثر سلباً على رعايتهن للطفل.
_ومن الأسباب المؤدية لتفضيل الأهل لهذا التفسير وترجيحه على مُسمّى "طيف التوحُّد" السمعة السيئة التي اكتسبها "طيف التوحُّد" من حيث مآل حالاته ومدى استجابتها للعلاج والتحسن عليه، وهي مسألة أيضا تحتاج إلى توضيح، فليس من الصحيح أن كل حالات التوحُّد لا تستجيب للعلاج، وليس من الصحيح أن وجود عامل جيني وراثي يتعارض مع إمكانية علاج الحالة، فالعامل الوراثي موجود تقريباً في كل أنواع الأمراض التي تصيب الإنسان حتى في العدوى البكتيرية، حيث يفرق العامل الوراثي بين إنسان يتمتّع بالمناعة اللازمة لمقاومة المرض وآخر لا يملك مثل هذه المناعة، وبالنسبة لطيف التوحُّد، فمن المُلاحظ أن الصورة السلبية لطفل التوحد مبنية أساساً على الحالات الشديدة أو تلك التي لا تتلقّى العلاج اللازم لها، و لكن الحقيقة أن هناك كثيراً من الأطفال الذين يتم تشخيصهم مبكراً - ومن هنا تأتي أهمية الكشف المبكر عن الحالات - بسمات على الطيف البسيط أو المتوسط للتوحد يستجيبون بشكل جيد لبرنامج العلاج المتكامل الذي يجمع بين العلاج الدوائي عند الحاجة إليه والعلاج السلوكي وتنمية المهارات اللغوية والتواصلية بحيث يصل بهم الحال إلى الوضع الطبيعي أو شبه الطبيعي، خاصةً في حالات التوحد عالي الكفاءة التي تتمتع بذكاء طبيعي، ومن الضروري أن يتم تنفيذ هذا البرنامج على يد فريق من المتخصصين تحت إشراف الطبيب المختص بالتعامل مع الاضطرابات النفسية و العصبية عند الأطفال.
_وبالتالي يتضح أن تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة وعدم الهروب من المشكلة ومواجهتها بالوسائل العلمية الصحيحة هو الحل، وليس الحل هو إنكار المشكلة وإخفاء الرأس في الرمال واختراع مسميات غير علمية للمشكلة للهروب من مواجهتها. وليس المقصود بكلامي نفي التأثير السلبي للعوامل البيئية خاصة الشاشات الإلكترونية كالتلفاز والتليفونات الحديثة إلى آخره، حيث يؤدي تعرض الطفل لها بكثرة إلى آثار سلبية كثيرة قد يكون من ضمنها التأخر اللغوي إذا كان لدى الطفل الاستعداد الجيني لهذا التأخر، ولا ينصح العلماء بتعريض الطفل لهذه الشاشات إطلاقاً في سن ما دون العامين، كما ينصحون بالحد من التعرُّض لها في الأعمار الأكبر من ذلك على ألا يتعدى التعرُّض لها في أي عمر حد الساعتين يومياً، حيث أثبتت الدراسات أن التعرُّض للشاشات الإلكترونية لفترات تزيد عن الساعتين يومياً يُؤدّي إلى أضرار نفسية وسلوكية كثيرة لدى الأطفال والمراهقين منها القلق والاكتئاب وغيرها من المشاكل النفسية والسلوكية.
واقرأ أيضاً:
اعرف طبيبك .. بين المخ والأعصاب والطب النفسي / يوم الحشيش إلى أين يتجه البشر ؟؟