عقلية التربّص للمصائب* التي ينتهجها أغلب الوعاظ والمشايخ وكثير من الناس هي عقلية تُراهن على "الشعور بالذنب واحتقار الذات (الفردية والجماعية)" في كل مصيبة أو كارثة يَنْبَري أصحاب هذه العقلية لتذكير الناس بأنّهم عصاة ومذنبون، بأنّهم مفرّطون في حق الله، وأنهم يستحقون العقوبة...
والسبب الذي يجعلهم يقرؤون الأوضاع بهذه الطريقة هو أنّ خطابهم قائم أصلا على استثمار النفسيات الهشّة والمُحطّمة التي تلتجئ إلى خالقها ومعبودها فقط عند انهيارها وشعورها بالعجز، فسهل أن تجعل الناس ينصتون إليك إذا ما لعبت على وتر الضمير المعذّب والنفسية المنكسرة. أما لو تحرر الناس من الشعور بالدونية وتأنيب الضمير فلا يستطيعون التعامل معهم ولا استرعاء انتباههم بخطاب يلائم التفاؤل والإيمان بالإنجازات كحالة نفسية منتشرة.
لذلك نجدهم دائما يحاولون "جرّ" الناس لمنطقة "نفوذهم" وإعادتهم للحالة الوجدانية التي يستطيعون التعاطي معها، حالة من السلبية والعجز ورؤية جبرية للأوضاع السيئة. فلا عجب أن ترى الخطاب الديني المنتشر يمجّد السلبية والإحساس بالذنب، لأنه خارج ذلك لا يملك سيطرة على الناس ولا طريقة لتعديل قناعاتهم وسلوكياتهم. والأهم وجود فكرة مغلوطة تماما على أن التغيير مبنيّ على الشعور بالذنب المستمر، وهذا خطأ من الناحية الواقعية والنفسية، على الأقل التغيير الدائم وليس اللحظي.
لكنّ الأخطر من ذلك كلّه هو تصْدير صورة لإله كاره للتقدم العلميّ، ولقدرة الإنسان على التحكم في الطبيعة وتقرير مصيره، ووضع تقابلات وثنائيات على شكل: "الإنسان المفتخر المتعجرف بازدهاره الذي شيّده رغما عن الاستعباد الإلهي له بالخوف وتوعد الشرّ" وبين "إله وكأنه كاره لتلك الإنجازات، وتعبُ الإنسان وشقاؤه أحبّ إليه من رخائه ورفع المشقة عنه" ! وكأن الله لا يُذكر ولا يُستدلّ به إلا في الكوارث والمصائب، أما الازدهار والتنعم والرفاهية ورد الشرور والأوبئة والأمراض فهو "استعلاء في الأرض" وخروج من نمط "العبد المهلوك القلق المتوقع لكل شر وسوء"!
وكأن الله تعالى لا يقتدر إلاّ إذا تعلق الأمر بالبطش والتعذيب! لكنه "يتسّم بالعجز" وهو ينظر إلى إنجازات البشرية التي تتمرّد عليه. يعني قدرته تتجلى فقط في تقويض مسيرة انعتاق الإنسان، وليس في بنائها بما أعطاه الله من قدرات عقلية ومقدّرات طبيعية. وما أسوء هذه الصورة عن الله، وهي من مستلزمات ومُخرجات الخطاب االديني المنتشر حتى لو لم ينتبِه لها مصدّروه.
ومن جهة أخرى هذه آلية نفسية لا واعية مغروسة في الوعي الجمعي، فقد نجدها فحتى على مستويات أخرى كالتربية مثلا، فمن الآباء من يعجز عن مرافقة أطفاله المراهقين في حالات النشاط والإقبال على الحياة والإنجازات، بل قد يعارضه ويُحطّم ثقته بنفسه لشعوره بأن التمحور حوله كأب/أمّ مهدد وأن ولده سينفلت عن مسار الخطة الموضوعة له، فيقتنص فرصة تعثّر ابنه/بنته حتى يسرُد عليه المواعظ ويعمّق فيه الإحساس بالذنب ويقدّم له العجز على أنّه أصل في الإنسان، ويؤكّد على أنّ كلام الآباء ونظرتهم الثاقبة هي الصائبة أبد الدهر، مستفيدا من فرصة انكسار المراهق/ة وعودته لأحضان الأسرة في لحظة ضعف.
- (الفقرات التالية لمن أراد أن يستزيد بخصوص الاعتراضات)
قد يُقال لي أنّ في القرآن توجد آيات لوعظ الناس حتى يخافوا ويرجعوا، وهذا صحيح، لكنّ في أيّ سياق وبأيّ جرعة ؟ سهل أن تدفعنا عقلياتنا لانتقاء الآيات التي يزمجر فيها الوعيد وحدها لنضعها في سياقات تبدو لنا ملائمة، بسبب الرؤية النفسية المغلوطة وحتى تخدُم هدف "إرجاع الناس لمنطقة التحكّم".... قد نجمع آيات نزلت متفرقات على مدة 23 سنة، لننْهال بها على فرد أو جماعة في أقل من 10 دقائق! تخيّلوا كم الخلل والعبث. فضلا عن إخراج الكثير من الآيات عن سياقها الصحيح من أجل التوسّع في استعمالها. بهذا سهل أن نصنع صورة معينة، فالقرآن عند الإعجازيين عبارة عن أسرار علمية مخبأة، وعند الجهاديين كتابا عسكريا يمجّد القتل والتنكيل، وعند التحررين هو حبّ ومنفعة دون إكراهات... وهكذا، من السهل خلق صورة ذهنية مشوّهة بالانتقاء.
وقد يُقال أنّ الناس فعلا أكثرت من التمرد على الخالق وإنكار نعمه وعطاياه، فمن البديهي الحديث عن "الانتقام الإلهي". طيب المشكل هنا أنّ هذا الحديث لا ينقطع ولا يتغيّر أبدا، فلا يتحدثون عن "جزاء إلهيّ" لما تُقدّمه البشرية من إنجازات وفرص للتراحم والتكافل، سواء من الجهة الأخلاقية الفلسفية أو الجهة التقنية. ثم الفكرة أصلا قائمة على "هوس الانتقام الإلهي" في تناقض عجيب مع "القدرة الإلهية عليه"! بمعنى لو كان ما يدّعون من السعي الدائم للانتقام والعقوبة من قِبل الله، وهو قادر مقتدر، فما يمنعه من ذلك ؟ وكيف تعيش البشرية فترات طويلة من الرخاء والنعماء دون حصول كوارث وعقوبات عامة كما يتغنّى بها الكثيرون ويتمنّونها لتتأدب البشرية؟! هذا يدل على شيء واحد أن الله أحلم وأرحم ممّا نُصدّر في خطاباتنا.
ولمن يستدلون ببعض الأحاديث، أقول لهم أنّ حياة النبي عليه السلام كانت أكثر تفاؤلا وإيجابية بالاستقراء العام، هو الذي كان يرفض حتى مجرد الأسماء والكلمات المنفرة والداعية لليأس، فكيف تصوّرونه متجهما ومَصْدرا للتخويف المستمر والهمّ والحزن والانكماش جرّاء جلد الذات!
_______________________
* أسمّيهم النسور الصلعاء vautours التي تنتظر المصائب والجيَف، لتُمارس وظيفتها بصفتها "كاسرا"
واقرأ أيضاً:
العقلانيون المنبوذون / لماذا خرج الناس للشارع في الإسكندرية والمغرب؟