من كثيرا ما أقرأ هنا وهناك عن "الأسباب النفسية للإلحاد"
هذه "الحجّة" يحلو للمؤمنين (ربما بكل أديانهم) أن يقدّموها لتقزيم معتقدات الملحدين ووصمِها "بالانفعال النفسي" لا غير، أي نزع طابع "العقلنَة" منها وتبخيس "السيرورة الفكرية" التي أدّت بهم لتلك الأفكار.
وواضح أنّ من كان معتقده نابعا من "أسباب نفسية" صار ذلك مسبّة له ولأمثاله.
وفي هذا السياق "التحقيري" بالضبط تُستخدم هذه الحجّة بكل ما تحمله من حجج جزئية فيها.
أين المشكل هنا؟
المشكل هو في فهم تعبير "الأسباب النفسية"!
فالمؤمن (كاتبا وقارئا) لمّا يتحدّث عن "السبب نفسي" فهو يُشير هنا إلى جزء من الأسباب النفسية وهو "الانفعال" أو "المشاعر" ويُقصي ما سواها من "العمليات النفسية" الأكثر خفاءً. بكلمات أخرى هذه الحجة قائمة على مفاضلة بين المؤمن الذي يتخذ مواقفه العقدية والفكرية مرتكزا على "العقل الخالص"، وبين الملحد يتخذ مواقفه العقدية والفكرية بناء على "عاطفته وانفعاله" تجاه العالم والظواهر والإله والشر... وما إلى ذلك.
المفاجأة الأولى هي أنّ ثنائية "أسباب عقلية" و"أسباب نفسية" ما هي إلا ثنائية زائفة وهذه وحدها تهدم هذه الحجّة (الطفولية في نظري). لأنّه ببساطة العمليات العقلية والنفسية هما وجهان لعملة واحدة، وهذه العملة هي "العمليات الذهنية عموما". تكون فيها الكراهية والحب، عملية ذهنية كما تكون فيها التحيزات المعرفية والحيَل الدّفاعية عملية ذهنية أيضا. رغم أنّ الثانية تبدو أكثر "عقلانية" من الأولى !
ولنَفرض أنّ هذه الحقيقة العلمية غير قابلة للاستيعاب عند الكثيرين، فهذه الحجّة تبقى ساذجة، لأنّها تفترض استعلاءَ المؤمن عن القوانين النفسية، ترفّعا ما أنزل الله به من سلطان ! فالذي يستدل بهذه الحجة يخلط بين أحقية ما يؤمن به (سُموّ الغاية) وبين الطريق التي توصله لذلك (العمليات الذهنية). أي أنّ المؤمن يحتاج ليُؤمن بأنّ ما أوصله لعقيدة حقّة وفكر صحيح هو "العقل الخالص" (ذو القيمة الأكبر مقارنة بالنفس وتقلباتها!) لا مجرد احتياجات نفسية أو انفعالات، عكس الملحد.
لأنّ اعتقادنا بأنه يمكن أن نؤمن بالطريقة والآليات نفسها التي نُلصقها بالملحد (وهي الانفعالات والمشاعر النفسية) هذا ينقص من اعتزازنا بأنفسنا وبما نؤمن به. والأخطر بالنسبة للمؤمن هو شعوره بأنّه أيضا خاضع لاحتياجاته النفسية في إيمانياته، وليست كلّها إفرازات خالصة للعقلنة والتعقّل!
فهمتُم الآن لماذا هي مهمة هذه الحجة للتوازن النفسي للمؤمنين، رغم أنّها خاطئة وساذجة وقد تدعو للسّخرية ضد المؤمنين من قبَل المؤمنين والملحدين معا.
من جهة أخرى عدم الأخذ بهذه الحجّة وانتقادها لا يعني بالضرورة (كما قد يفهم البعض) أنّها تجعل من الإلحاد شيئا جيدا، ومن باب أولى لا تجعل من الإيمان شيئا سيّئا أيضا! ولا تسد الباب أمام مناقشة الحجج التي يقدّمها الطرفان. كل ما في الأمر أنّ ما نعتنقه هو خليط من احتياجاتنا النفسية وإفرازاتنا العقلية وتأثيرات المجتمع وتجاربنا وآلامنا وأفراحنا!
والنقطة الأهمّ هي أنّ وجود حاجية نفسية ترافق فكرة عقلية (إن سمحتُ لنفسي بهذه الثنائية) لا يُعدّ عيبا وناقضا للفكرة العقلية، هكذا هو عالم البشر في عالمنا الحقيقي وليس في المدينة الفاضلة عند الإنسان الخارق كما يتخيّل البعض.
المشكل هو عندما تكون الحاجية النفسية موجّهة للمعتقد بشكل يؤكّدها، فالملحد يحتاج لإنكار الخالق نفسيا ليحسم في نزاعات كثيرة، فتبدو له كل الأدلة والحجج والبراهين مؤدّية لهذه الفكرة ويُحاول صناعة رؤية عامة متّسقة مع معتقده بتجاهل كل ما يتنافى معها.
كما يفعل المؤمن، فهو يختزل كل الواقع والتجارب الحياتية في فكرة يريد الانتصار لها، حتى لو لم تكن من صُلب دينه، ليبقى في منطقة الأمان عنده. بل هو أكثر عرضة لذلك لأنّ الإثبات يحتاج لهذه الآلية أكثر من النفي!
فالكلّ يخضع لهذه الآلية مهما كان ومهما ادّعى، وحتى الذين ينتبهون لطُرقِ تفكيرهم يتعرضون لها بشكل أقلّ من غيرهم ولا يتحررون منها بشكل مطلق.
لذا كفّوا يرحمكم الله عن تقزيم الخصوم بشكل طفولي وتَسَوُّل حجج واهية ذات وقع آنيّ ومريح على صاحبها، لكنها ذات وقع سيء على العقل الجمعي وسجالات "الإيمان والإلحاد".
واقرأ أيضاً:
الضجة حول المساجد / ردود الأفعال حول أحداث فرنسا