الوسواس القهري والتعمق Scrupulosity 1-3
ثم هداني البحث إلى دراسة -أظنها رائعة ورائدة في دراسات الوسوسة- عن الصفات الإكلينيكية والتدينية لعينة من مرضى الوسواس القهري الذين تغلب على أعراضهم صفة التعمق أو فرط التدقيق، نشرته مجموعة من الباحثين في هارفارد (Siev, et al., 2011)، ووجدت كثيرًا من نتائج دراساتهم متشابهًا إلى حد كبير مع ملاحظاتي السريرية (الإكلينيكية) على مدى أحد عشر عامًا من العمل مع مرضى الوسواس القهري العرب، دون أدوات قياس مناسبة للدراسة مع الأسف في مجتمعنا العربي، وأرى من المفيد جدًا عرض نتائجهم إلى أن نتمكن نحن الباحثين العرب من إنتاج أدواتنا المناسبة للدراسة، غير مكتفين بالمقاييس المترجمة للتدين أو للتعمق... إلخ.
أجريت الدراسة على 72 مريضًا بالوسواس القهري من ذوي الأعراض التعمقية، حيث تمت مقارنتهم بمجموعة أخرى ضمت 75 مريضًا بالوسواس القهري غير التعمقي، مقارنة فيما يتعلق بدرجة التدين ودرجة التعمق وشدة أعراض الوسواس القهري ومفهوم الرب، وكذلك مدى إدراك الطبيعة المرضية للأعراض، فكان المرضى المتعمقون أكثر تدينًا وأكثر طلبًا للاستشارة من الكنيسة، وأقل احتمالاً لاستشارة الطبيب أو العلاج بالأدوية، كما أقر معظمهم بأن الأعراض في الواقع تفسد خبرتهم الدينية، وكذلك أظهرت النتائج أنه كلما زادت سلبية مفهوم الرب زادت شدة الأعراض (Siev, et al., 2011)، وإذا استبدلنا الكنيسة بالشيوخ ودور الإفتاء فإن الكلام السابق -بناء على انطباعاتي- يصلح لوصف الحال في مجتمعاتنا، فأعراض الوسواس القهري التعمقي ترتبط بشدة التدين، وبسؤال الفقهاء كثيرًا قبل الأطباء، وبعضهم –وربما أكثرهم- لا يصل إلى الطبيب النفساني، وكلهم يقرون أيضًا بأن استسلامهم لرغبتهم في التعمق يفسد شعائرهم الدينية بدلاً من تحسينها، لكنهم بالرغم من ذلك عاجزون عن عدم التعمق، ويفكر أغلبهم بطريقة "ما دمت أستطيع فيجب عليَّ أن أفعل"، وليست يجب هنا بمعناها الشرعي وإنما يوجبها الموسوس على نفسه، بالرغم من أنها ليست من الواجبات الشرعية التي تجب على المستطيع، بل هي من السنن أو النوافل المستحبة التي تسنُّ للمستطيع، ولا تجب عليه، إلا أن الموسوس لا يفرق بين الواجب والسنة ما دام يستطيع، وتكون النتيجة أنه يجعل العبادة شاقَّة عليه، تتعبه ولا تكاد تمنحه شيئًا من الراحة.
كذلك وجدت تصنيفًا لأنواع التعمق من وجهة نظر مسيحية مستنيرة بمعطيات العلم الحديث، بدت وكأنها تضم كل أشكال الوسواس القهري، فقد قسم التعمق حسب تلك الرؤية إلى ثلاثة أنواع؛ النوع الأول: اسمه التورع أو التعمق (الوسواس القهري) التطوري Developmental Scrupulosity فكلمة تطوري تشمل مرحلة يمر بها الأشخاص، ومن وساوس التعمق التطورية نوعان: أحدهما خاص بفترة المراهقة والرشد المبكر، والآخر خاص بأي مرحلة عمرية تهتز فيها ثوابت الشخص الإيمانية بشدة لأي من الأسباب، ومثلما التطور لا يقتصر على مرحلة معينة فإن الوساوس التعمقية لا تقتصر على مرحلة معينة، وأما النوع الثاني فهو التعمق المتأثر بالبيئة Milieu-Influenced Scrupulosity وهو النوع الذي ينتج عادة عن أساليب التربية الدينية المفرطة في قسوتها، والتي تعلِّم النشء صورة للإله كقاضٍ وليس كخالق رحيم، وبعض ضحاياها يتمثلون تلك الأفكار والمفاهيم وتصبح هكذا شخصياتهم، إلا أن تشكل هذا النوع من التعمق لا يمكن إرجاعه فقط إلى أسلوب التربية فقط؛ لأن الأسلوب نفسه يصيب بعض وليس كل من يتعرض له؛ أي أن هناك شكلاً ما من التهيئة لذلك، وأما النوع الثالث فهو التعمق الإكلينيكي أو الانفعالي أو Emotional Scrupulosity ويضم تقريبًا كل الوساوس والقهور المعتادة في مرضى الوسواس القهري، بغض النظر عن وجود الأعراض الدينية من عدمه، فيشمل خمسة أشكال؛ هي: الوساوس التفحصية Obsessional Checking ووساوس النظافة Obsessional Cleaning، ووسواس الشك ووخز الضمير Obsessional Doubting Conscientiousness، ووسواس البطء Obsessional Slowing وأخيرًا وسواس التأمل Obsessional Ruminating.
وعلى الرغم من أن التعمق أو الوسواس التطوري يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات وجدانية وعاطفية؛ إلا أنه يفتقد إلى قوة بقاء وثبات هذا النوع الثاني، ثم اتضح بالبحث أن تلك الرؤية تعود إلى جوزيف شاروكي Joseph Ciarrocchi وهو قس سابق حصل على درجة الماجستير في اللاهوت، ثم أكمل درجة الدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي في الجامعة الكاثوليكية الأمريكية، وقد كتب أعمالاً مختلفة قام فيها بدمج الروحانية والدين مع علم النفس السلوكي، لعل أهمها فيما يتعلق بموضوع هذا الفصل هو كتابه "مرض الشك" The Doubting Disease (Ciarrocchi, 1995)5.
وهو ما يعني أنه جعل وساوس التعمق التطورية مرحلة يمر الناس غالبا في مراهقتهم وعادة تكون عابرة، وأما التعمق المتأثر بالبيئة فيصف إلى حدٍّ ما تشكل سمات الشخصية القسرية، دون اشتراط الوصول إلى حد اضطراب الشخصية، بينما وساوس التعمق الإكلينيكية (الانفعالية أو العاطفية) هي المزمنة غالبًا، كأغلب حالات الوسواس القهري المعروفة.
وأخيرا عثرت على جزء أكبر من التاريخ اليهودي والمسيحي فيما يتعلق بالجانب الديني للوسواس فقد كانت المصطلحات المستخدمة لوصف الوساوس والأفعال القهرية خلال العصور الوسطى في أوروبا دينية بشكل عام وكان مصطلح وسواس يعني كلاما قهريا غير مناسب، وهو إكراهي مثلا ليجدف أو يصيح بصوت عال في الكنيسة وكان يشار إلى أن الشيطان في اللسان، (Enoch & Trethowan 1979) ، في حين تم تعريف فرط التورع سنة 1658 أنه يشمل فرط التورع الديني والتردد بشكل عام (Flecknoe, 1963). وكنت كلما عرفت أكثر عن ذلك التاريخ أزداد اقتناعا بتشابه الطرق التي تعاملت بها الأديان السماوية مع ظاهرة الوسواس القهري.
ووجدت كذلك من الباحثين من يرى أن التعمق أو فرط التورع هو اضطراب منفصل عن اضطراب الوسواس القهري (Miller & Hedges, 2008) ويعلل ذلك بعدد من الأسباب تميز وساوس المتعمقين عن وساوس مرضى الوسواس القهري فالمتعمق لا يعتبر وساوسه أفكارا غير صحيحة أو دخيلة أو حتى مفرطة أي أنه الأقل بصيرة بين مرضى الوسواس القهري، وعادة ما يكون تفكير المتعمق متسما بسمات التفكير السحري والتشدد وفرط الضمير أكثر من غيره، كذلك لأن وجود السمات التعمقية ليس مقتصرا على مرضى الوسواس القهري بل يكاد يكون موجودا بنفس التواتر في مرضى اضطراب الشخصية القسرية (القهرية).
إلا أن نقطة ما مهمة لا بد من التطرق إليها هنا؛ ذلك أنه وإن انضوت الوساوس الدينية عند المسيحيين كلها أو أغلبها تحت مفهوم التعمق التطوري، فإن الوساوس الدينية عند المسلمين بعضها فقط وليس كلها تنضوي تحت التعمق؛ فهناك وساوس دينية إسلامية كثيرة ليس فيها تعمق؛ كالشك في عدد الركعات أثناء الصلاة أو أغلب حالات الشك في إفساد الصيام مثلاً، أو مثل الصور العقلية الجنسية المقتحمة أثناء الصلاة أو أثناء السجود، أو الرغبات أو المشاعر التسلطية التي تحدث أثناء الصلاة؛ مثل فعل ما لا يليق داخل المسجد أو التسليم والخروج من الصلاة... أو غير ذلك من الوساوس والقهور التي لا يمكن اعتبارها تعمقية (أبو هندي، وشركاه، 2016).
وقد تكاثرت في السنوات الأخيرة الأبحاث العلمية في الطب النفساني وعلم النفس عن ظاهرة عرفت بين رجال الدين المسيحي واليهودي بـ Scrupulosity أو فرط التدقيق ويقابلها بوضوح ما جاء في الحديث النبوي الشريف باسم التعمق أو التنطع، والتعمق في الطب النفساني هو أحد الأبعاد المعرفية السلوكية لاضطراب الوسواس القهري وهو البعد المتعلق بالأفكار والأفعال الدينية أو الأخلاقية ويظهر في صورة الشك المفرط والتدقيق وطلب اليقين وتكرار السؤال بشكل مستمر في كل ما يتعلق بالأمور الدينية مخافة الوقوع في الذنب إضافة إلى الميل لممارسة العبادات بإفراط، كل حسب تعاليمه الدينية، وعلى غرار العروض الأخرى للوسواس القهري، يمكن العثور على درجات أكثر اعتدالًا من التعمق في عامة السكان، ويبدو أن منه طبعا خفيفا (يسمى الورع الديني أو الأخلاقي ومنه التورع) ومنه ما هو مرضي يتعلق باضطراب الوسواس القهري أو باضطراب الشخصية القسرية.
تدور حياة المريض بالتعمق ما بين شكوك وسواسية مستمرة حول الذنوب، والعقاب والتوبة، والتحييد أو القهور كتكرار الصلاة، أو التقيد التام بالطقوس الدينية، أو السعي المستمر لطلب الطمأنة من علماء الدين مثل الاستفتاء المتكرر، حيث تشمل الوساوس التعمقية الشائعة القلق المستمر بشأن ارتكاب ذنوب أو تجاوزات أخلاقية بشكل أو بآخر، أو أفكار وصور مقتحمة ذات طبيعة جنسية أو جنسكفرية، وكذلك الشعور بعدم الإيمان بشكل كافٍ أو عدم الالتزام الكافي بقواعد أخلاقية راسخة، كذلك المخاوف من عدم أداء الصلوات أو الشعائر الدينية بشكل صحيح، والقلق المستمر من الحساب والعقاب من الله.
المراجع :
1- وائل أبو هندي، رفيف الصباغ، محمد شريف سالم ويوسف مسلم (2016) العلاج التكاملي للوسواس القهري، البابُ الثاني: العلاج السلوكي للوسواس القهري، سلسلة روافد 135 تصدر عن إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت
2- Siev, J., Baer, J., & Minichiello, W. E. (2011): Obsessive-compulsive disorder with predominantly scrupulous symptoms: Clinical and religious characteristics. Journal of Clinical Psychology, 67(12), 1188-1196.
3- Ciarrocchi, J.W.(1995): The Doubting Disease. Mahwah, NJ: Paulist Press, 1995.
4- Enoch MD, Trethowan W (1979) : Uncommon Psychiatric Syndromes. Bristol, United Kingdom: John Wright; 1979.
5- Flecknoe R: Enigmatical characters. In Three Hundred Years of Psychiatry 1535–1860. Edited by Hunter D, Macalpine I. London: Oxford University Press; 1963:116.
6- Miller CH, Hedges DW (2008): Scrupulosity disorder: an overview and introductory analysis. J Anxiety Disorders 2008, 22:1042–1058.
ويتبع>>>>> : الوسواس القهري والتعمق Scrupulosity (3-3)
واقرأ أيضًا:
الخرافة والوسواس القهري ما العلاقة ؟2 / الشعور بالذنب في مرضى الوسواس القهري2