يعتبر اضطراب الوسواس القهري واحدا من الاضطرابات التي صارت تعالج بمستوى جيد منذ نهايات القرن العشرين بعدما ظلت عصية على العلاج مقارنة بغيرها من الاضطرابات النفسية حتى سنة 1969 إذ بدأت الثورة في علاج الوسواس القهري حين اكتشف تأثير عقار الكلومبيرامين كمثبط لاسترداد السيروتونين (م.ا.س SRI ) ثم توالت من بعدها عقاقير أكثر انتقائية للسيروتونين وسميت مثبطات استرداد سيروتونين انتقائية (م.ا.س.ا SSRI) وفي نفس التاريخ تقريبا وفي خط مواز بدأت تطبيقات العلاج السلوكي بالتعرض ومنع الاستجابة (الت.م.ا ERP) وهي بالأصل صممت كعلاج سلوكي للوسواس القهري ثم نجحت معه ومع غيره من الاضطرابات خاصة بعدما تطورت إلى العلاج السلوكي المعرفي (ع.س.م CBT) ولكن رغم كل ذلك النجاح الذي فاق التوقع ما يزال قدر لا يمكن تجاهله من مرضى الوسواس القهري المتعافين والمستمرين على علاجهم يعانون من أعراض متبقية ... أسباب ذلك كثيرة لكنها ليست موضوعنا الآن، فقط أردنا التأكيد على وجود ما يستدعي البحث عن أساليب تدعيمية تحسن من حياة مرضى الوسواس القهري وشركاؤه (أي من اضطرابات الطيف الوسواسي) الذين نقدم لهم الآن ما هو ناجح بالتأكيد لكنه غير كافٍ وله آثاره الجانبية خاصة زيادة الوزن، وبالتالي هناك حاجة لاستخدام ما يمكن من عوامل تدعيم للعلاج العقاري و/أو السلوكي المعرفي والتريض الهوائي منها إن لم نقل من أفضلها.
وبعيدا عن الحكمة القديمة التي تعلمناها صغارا "العقل السليم في الجسد السليم"... فقد بات من المسند بل متكرر الإسناد طبيا أن ممارسة الرياضة الهوائية (التريض الهوائي Aerobic Exercise) لها العديد من الفوائد الجسدية بما في ذلك انخفاض مستويات الكوليسترول في الدم وتقليل أخطار الإصابة بأمراض القلب والسكري، وكافة الأمراض المزمنة والقاتلة بما في ذلك السرطان (1)، كما أن لها العديد من الفوائد للصحة العقلية في الإنسان الصحيح والمريض على حد سواء، ولا تحتاج كل هذه الفوائد لكثير من الرياضة فالمطلوب حسب الإرشادات الصحية العامة بالنسبة للبالغين (أعمار بين 18 و64 عامًا) هو 150 دقيقة كل أسبوع من النشاط البدني المعتدل إلى القوي (أي الذي يجعلك تتعرق). مثلا خمس تمارين رياضية مناسبة لمدة 30 دقيقة، خمس مرات في الأسبوع. لكن ورغم بساطة هذه التوصية، وجدت الأبحاث أن 15% فقط من البالغين في الدول الغربية يستوفون هذا المعيار حاليًا، فما بالكم بالوضع في بلادنا العربية؟
وكما في مجال الصحة الجسدية، هناك كثير من الأبحاث في مجال الصحة العقلية والطب النفساني تظهرُ نتائجها آثار التريض الهوائي المفيدة للاكتئاب الجسيم وليس فقط الخفيف أو المتوسط وإنما الاكتئاب الشديد!، وأبحاث أخرى تظهر ارتباط زيادة النشاط البدني في مرحلة الطفولة بانخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب في مرحلة البلوغ، وأخرى تثبت ارتباط النشاط البدني المنتظم بانخفاض معدل انتشار اضطراب الهلع ورهاب الساح (أو الخلاء)، والرهاب الاجتماعي والقلق المعمم وإساءة استخدام أو الاعتمادية على العقاقير (2).. إلخ حتى حالات السبَهْ أو الخرف. يمكن أن يحسن التريض الهوائي الوظائف المعرفية لدى المصابين بالسبه (3)، كما أن الأشخاص الذين يمارسون نشاطًا بدنيًا بانتظام تقل احتمالية تعرضهم للسبه ويقل معدل تدهور وظائفهم المعرفية مع التقدم في السن.
أما كيف يكون للتريض العضلي أو لحركة الإنسان أثر على حالته النفسية وبالتحديد أعراض الوسواس القهري فإن هناك عددًا من الطرق التي يمكن أن يساعد بها التريض في تقليل الأعراض منها ما هو عام ومتوقع مثل تحسن المزاج وزيادة المشاعر الإيجابية وزيادة الثقة بالنفس...إلخ، ومنها ما هو خاص بالتعلم على المستوى العصبي التركيبي، فالتريض يستطيع تغيير تركيبة المخ ويحفز ويسهل اكتساب وتخزين التعلم الجديد. وقد أثبتت الدراسات على الفئران (4) أن التريض على عجلة الجري يساعدهم على تكوين روابط جديدة بين الخلايا العصبية في أدمغتهم. ربما عبر إطلاق "عوامل النمو"، والتي تحفز الخلايا العصبية على تكوين روابط جديدة. وقد تساعد هذه الروابط الجديدة في تقليل أعراض الوسواس القهري أو غيره من الاضطرابات النفسية بشكل خاص حين تتريض يوميا أثناء ممارسة تدريبات الع.س.م فمثلا يزيد التريض من فرص تعلم الانطفاء أثناء العلاج بالت.م.ا ومن تعزيز ذاكرة الانطفاء المتعلم (وهما هدفا الع.س.م الرئيسين) ييسر التريض كل هذا من خلال تحفيزه الخلايا العصبية على تكوين روابط جديدة، ببساطة كأنه يجهز للمريض ما يحتاجه على مستوى الخلايا العصبية في مخه لأن التعلم الجديد يحتاج دوائر عصبية جديدة، فضلا عن ذلك كله يعزز التريض إطلاق الإندورفين، والمواد الكيميائية العصبية دوبامين وسيروتونين والتي تعطي "الشعور بالرضا"، وتعزز الحالة المزاجية وتخفض التوتر.
المراجع:
(1) Bullard T, Ji M, An R, et al. (2019) A systematic review and meta-analysis of adherence to physical activity interventions among three chronic conditions: cancer, cardiovascular disease, and diabetes. BMC Public Health. 2019;19(1):636. https://doi.org/10.1186/s12889-019-6877-z.
(2) Zschucke E, Gaudlitz K & Ströhle A. (2013). Exercise and Physical Activity in Mental Disorders: Clinical and Experimental Evidence. J Prev Med Public Health 2013;46:S12-S21 • http://dx.doi.org/10.3961/jpmph.2013.46.S.S12.
(3) Vecchioa, LM, Menga Y, Xhimaa K, Lipsmanb N, Hamania C, and Auberta I, (2018). The Neuroprotective Effects of Exercise: Maintaining a Healthy Brain Throughout Aging. Brain Plasticity 4 (2018) 17–52. DOI 10.3233/BPL-180069
(4) Trigiani LJ & Hamel E (2017). An endothelial link between the benefits of physical exercise in dementia. J Cereb Blood Flow Metab. 2017 Aug; 37(8): 2649–2664.
ويتبع: الرياضة والوسواس القهري2
واقرأ أيضًا:
الشعور بالذنب في مرضى الوسواس القهري2 / الوسواس القهري والتعمق