من عادة الناس، والمتخصصين في مجال علم النفس تحديداً، بأن يقرأوا في علم النفس، ولكن قليل جداً ما نقرأ عن علم النفس وليس فيه، ما الفرق إذاً بين القراءتين؟ سأقول لك، عندما تقرأ ما يقوله علم النفس بعرض أعمال رواده وباحثيه على شكل فرضيات أو نظريات أو تطبيقات عملية لها، فهذه قراءة في علم النفس، فتعرف ما يقوله رواد هذا العلم، وما يقدموه من خلال تطبيقاته، لكنك إذا كنت باحثاً وأردت أن تتوسع وتعرف كيف يتم النظر إلى هذا العلم، وماذا يقال عنه، وكيف وجد من الأصل، وكيف يتم بناء إطاره النظري، وتصدير فرضياته، وفحص نظرياته، وكيف يتم الإفادة من كل ذلك من خلال تحويل النظرية إلى تطبيقات عملية، فأنت تقرأ عن علم النفس وليس فيه، أي فيما يقال عنه من حيث بنائه وبنيت، كأنك تنظر نظرة من بعيد على الشكل العام والتكويني.
أذكر أن أول قراءة هامة وعميقة لي عن علم النفس وليس فيه كانت في بدايات عام ٢٠٠٠ أثناء دراستي في كلية الدراسات العليا، حيث كان في أحد الفصول الدراسية مادة كانت من الأكثر تعقيداً وهي مادة التعلم والمعرفة، ورغم اسمها الذي يبدو تربوياً، لكنها كانت مادة علمية جادة جداً، وفيها إطار نظري قوي، فمبحثها حول النظرية السلوكية كنظرية تعلم، والنظريات المعرفية كنظريات معرفة، هو مبحث من منظورٍ من جوانب عصبية سيكولوجية سلوكية، وكيف يحصل التعلم السلوكي المعرفي من الأصل لدى الإنسان، وما هي الأسس العصبية لذلك بحسب علم الأعصاب وعلوم الدماغ، ورغم مدى لطافة وكفاءة مدرسها البرفسور يعقوب خلّاد المتخصص في هذا الموضوع تحديداً في ذلك الحين، إلا أنها بقيت من أصعب المواد والأكثر تعقيداً، وما لفت نظري أن الوحدة الأولى في حلقات البحث - في الدراسات العليا يُعتمد نظام حلقات البحث في التدريس - كانت أول وحدة تناقش موضوع (الإرادة الحرة في السلوك أم الحتمية؟) وهذه كانت أول مرة لي أطلع على شيء يتحدث عن علم النفس بهذه الطريقة، والتي من خلالها - أي الوحدة الأولى - عرفت أن علم النفس يكاد يكون مذهبياً حتى في نظرته للسلوك الإنساني، لقد كانت الوحدة الأولى من أطول الوحدات، ودرسنا فيها ثلاث مقالات وعدة أوراق علمية، وكانت كل منها تناقش السلوك، وهل ما يصدر منا يمكن القول بأنه صادر عن إرادة حرة، أم أنه محكوم وجبري وحتمي لأسباب مختلفة؟
بعد ٢٢ سنة عادت تلك المقالات إلى ذهني أثناء محاولتي للكتابة (عن علم النفس) ومحاولة تفسير اللغط الحاصل فيه في الوسط العربي تحديداً، وتكمن أهمية موضوع الإرادة الحرة أو جبرية السلوك وحتميته في فهم المدارس النفسية الرائجة ذائعة الصيت، بالتعرف على إطارٍ مذهبي حاكم وأساسي في البناء النظري، وبالتالي فهم مقاصد العلاج النفسي التطبيقية والنابعة عن كل مدرسة نفسية، فحين ترى أن مدرسة التحليل النفسي والمدرسة السلوكية المتناحرتان نظرياً تؤكد كل منهما على حتمية السلوك وأنها أساس تصرفاتنا، فسلوكنا من منظور هذه المدارس جبري يأتي كردة فعل لابد من حصولها لظروف وأحوال تفرض حتمية نتائج سلوكية، أو مثيرات وتنشئة كما في المدرسة السلوكية. وفي المقابل ترى مدرسة علم النفس الإنساني أو المدرسة الوجودية أن الإرادة الحرة هي ما يميز سلوك الإنسان، فمهما كانت الظروف والمحيط والمثيرات، يبقى الإنسان مالكاً حقيقياً لنفسه وتقرير طبيعة ردات فعله وسلوكه ككل، فلا نتائج حتمية، ولا اعتبارات نهائية لسلوك الإنسان، فهو الذي يحدد هويته وذاته وماهيتها وكيف يريدها أن تكون، وكيف يرى الحياة ويمنحها المعنى.
إن منظور الحرية مقابل الحتمية الجبري وهو بالمناسبة من ثنائيات أفلاطون في الأصل التي كان يمارس خلالها رفاهه الفكري الفلسفي، إلا أنها لم تعد للرفاه في أيامنا هذه، ودخلت في باب الأُحادية فقد غاب عن أذهان الكثيرين أهمية معرفة منطلق المدارس النفسية بين الحرية والحتمية، والذي بحد ذاته لو تم توضيحه لتسبب ذلك بحل إشكال كبير حاصل في سوء فهم حقيقة المدارس النفسية، وتطبيقاتها العلاجية على وجه التحدي، وخاصة في الأوساط العلمية العربية.
إن تأثير (الحرية – الحتمية) السلوكية يقع في النقطة المرجعية للمذاهب النفسية، فحين نعود للمدرسة الحيوية في علم النفس والتي خرج نتيجة فرضياتها ونظرياتها وأبحاثها ودراساتها تطبيقات الطب النفساني وعلم النفس السريري، نجد أن ردائها الأساسي هو الحتمية السلوكية المعتدلة، وترى ذلك من خلال المنظور الذي تحمله اتجاه السلوك المرضي تحديداً، فهي تعتدل من خلال رؤيتها بأن السلوك السوي يقع ضمن إرادة حرة في غالبه مع محدودية أيضاً، بينما يقع السلوك المرضي المضطرب ضمن حتمية وجبرية، لطبيعة ما يتسبب به السلوك المرضي من آثار سلوكية تجعل له عوارض ومظاهر مميزة، وهذا ما يجعل هذه المدرسة تبحث في الأعراض المميزة لكل اضطراب نفسي، كون الاضطراب بشكلٍ حتمي يتميز بعوارض تتشابه في غالبها بين المصابين بهذا الاضطراب ويتمايز بشكله إن كان اكتئاباً أو قلقاً أو غيرها من الاضطرابات النفسية. أما في حال الإرادة الحرة وهي مذهب حرية الاختيار والسلوك الذي يشكل نقطة مرجعية للمدرسة الإنسانية وحتى الوجودية والتي للأسف لا تتميز باعتدال المنظور كما في المدرسة الحيوية في علم النفس، فهذه المناهج متطرفة في مذهبها المعتقد بالإرادة الحرة، والتي صارت تشكل الآن الإطار الفلسفي للفكر السيكولوجي الغالب، فنجد أن المدرسة الإنسانية تنظر إلى الإنسان على أنه حر الاختيار، وأن المرض حتى جاء خياراً للإنسان، مع عدم اعتراف المدرسة الإنسانية بالاضطرابات النفسية كزملات ومحاور ومعايير تشخيص، حيث أن منظورهم وصفي عام للمزاج بأن يوصف الشخص بأنه مكتئب أو قَلِق، لكنهم يرفضون التشخيص أصلاً، ويرفضون الوصف بالمرضي جملة وتفصيلاً، وينظرون للإنسان من خلال ذاته التي تعتبر المركزية في منظورهم وعملهم، وبالتالي فالذات قررت واختارت بإرادتها الحرة.
إذاً يكمن أهم أسباب تشتت أراء المتخصصين في المجالات النفسية في المذهبية النفسية للمدارس النفسية، والنقطة المرجعية الأساس في ذلك هي ثنائية الحرية - الحتمية السلوكية، فبينما نرى تصور المذهبية الحتمية للمرض النفساني واضح ومعياري ويسير ضمن محكات تشخيصية مفهوم فيها أن المرض ما كان اختياراً، وحتى لو أدى سلوك الإنسان لحدوث حالة مرضية فهو الآن كمن وقع وكسرت قدمه، وستحتاج كمعالج للتعامل مع القدم المكسورة بطريقة علاجية تتفهم خلالها أنها حالة مرضية جادة، يأتي أصحاب مذهب الحرية السلوكية بمنظور يساوي بين القلق التكيفي والقلق المرضي، والاكتئاب الاستجابي والاكتئاب الأساسي، وغيرها من المظاهر النفسية، وبالتالي لا يوجد تصور للحالة المرضية النفسية، فتحمل الحالة النفسية على أنها حالة من نقص في الإرادة أو توفر النية أو الدافع المناسب أو المعنى، وكل ذلك يتعزز بسبب إحباط أو سوء تقدير أو غيره مما يجعل الاضطراب وكأنه حالة صنعها الإنسان وضمن إرادة الإنسان الحرة، ولولا ذلك لما صعد كارل روجرز بذاته واعتلى منبر الخطابة في الجمعية الأمريكية لعلم النفس وهو يقدح في الطب النفساني بعد انتحار إحدى المريضات المشهورات (آلين ويست) حيث يظن أنها انتحرت لأنها لم تراعى في حرية خياراتها وإنسانيتها، بالرغم من أنها كانت تعاني من اكتئاب ذهاني حاد.
قبل أيام قمت بتجربة هدفها رصد طريقة المتخصصين المتصدرين للإرشاد والعلاج النفسي في التعامل مع المعضلات العلاجية، وهو شيء أقوم به مع طلابي في برنامج العلاج المعرفي السلوكي التطبيقي والإشراف السريري، ولكن هذه أول مرة أقوم به على العام، لقد كانت المفاجئة الكبرى أن المستجيبين على المعضلة العلاجية قام غالبهم بإعطاء توجيهات ونصائح مباشرة لما يجب عمله وكيف يجب التعامل مع الحالة، لكن الأغرب أنه لم يسأل أحد عن التشخيص المرضي للحالة المعروضة، أي أن الجميع تعامل مع بعض المظاهر المذكورة عن الحالة واكتفى بها لكي يعطي وجهة نظر كيف يجب أن يتم التعامل والعلاج، والمعضلة العلاجية كانت لحالة اكتئاب حاد مرافق بمعالم ذهانيه طفيفة، وهذا النوع من الحالات سيتعرض لتفاقم المعالم الذهانية في حال خضع للعلاج النفسي قبل أن يخضع للعلاج الدوائي الذي يعتبر خط العلاج الأول لستة أشهر على الأقل، قبل أن يبدأ أي علاج نفساني أو تأهيلي جاد، وما يمكن أن يقدم لها الآن هو علاج داعم فقط بعد الشهر الأول من العلاج الدوائي.
لقد صار مذهب الحرية السلوكية يطغى على تصور حالات الاضطراب والمرض النفساني، وهذا بحد ذاته يحمل توجهاً مسيئاً وقد يكون مؤذياً للمرضى بشكل حاد، علماً أن القاعدة العلاجية النفسية الأولى (لا أذى No Harm )، لأنك حين تمارس أي اشكال من التدخلات العلاجية في غير مكانها فسيكون ذلك سبباً في عوارض جانبية، هذا إذا لم يكن مؤذياً بالكلية، ولو عدنا لخطاب كارل روجرز عن (آلين ويست) وأخذنا فعلاً برأيه في طريقة العلاج لوجدناها انتحرت قبل خمس سنوات من التاريخ الذي انتحرت به، في حال تركت بدون علاج دوائي، وتم إجراء علاج نفساني إنساني بطريقة كارل روجرز.
خلاصة الموضوع هنا، أن المذهبية النفسية بين حرية وحتمية السلوك تجعل المنظور السلوكي مختلف جداً، إضافة إلى أن هنالك فرق كبير بين العلاج النفسي حين يكون ذو مرجعية علمية بحثية رصينة، مقابل العلاج النفسي الذي تحكمه الفلسفة والمنظورات الفلسفية، وهذا سيكون بإذن الله عنوان مقالي القادم ضمن هذه السلسلة، والموسوم (العلاج النفسي وأثر الإطار المرجعي الحاكم للنظرية والتطبيق) بإذن الله.
واقرأ أيضاً:
تبليغ الأخبار المزعجة في الأزمات الوبائية3 / يحدث معنا يا زميلي.. تجارة تطوير الذات