الحكمة السريرية: الحكمة السريرية مقابل العلاجات المعيارية (3)
توصل باحثون لعلاقات إيجابية بين الحكمة والصحة، فمثلا لها فوائد بعيدة المدى للصحة الجسدية (Ardelt، 2000) والصحة النفسية (Ardelt, 2003; Thomas et al., 2017) ، مثل الرفاه الشخصي (Ardelt & Jeste, 2016; Etezadi & Pushkar, 2013) والرضا عن الحياة (Ardelt, 1997; Ferrari, Kahn, Benayon, & Nero, 2011; Zacher, McKenna, & Rooney, 2013) والصمود النفسي Roháriková et al., 2013; Thomas et al., 2017) والأهم من ذلك، أن الحكمة تخفف أيضًا من التأثير السلبي للضيق النفسي الاجتماعي على الصحة النفسية والرفاهية (Ardelt & Jeste, 2016)، مما يشير إلى أنها قد تكون بمثابة عامل وقائي للأفراد الذين يتعاملون مع الشدائد (in:Van Patten et al., 2019) ويرى بالتس واستودنجر Baltes & Staudinger,2000)) أن الحكمة قوة يمكن أن يكون لها فوائد علاجية، وأن الكثير من العمل في علم نفس الحكمة كان مفاهيميًا ولم يطبق إكلينيكيًا. على الرغم من ندرة الأبحاث السريرية حول الحكمة، إلا أن هناك فحوصات حول كيفية ارتباط الحكمة بالمرضى والعملاء فيما يتعلق بقدرتهم على تحقيق أهداف العلاج، أو التغلب على نوبات الاكتئاب، أو التخلص من الإحباط الوجودي.
واستكشف فيرونيكا روهاريكوفا وزملاؤه العلاقة بين مستوى الحكمة والصمود النفسي (الصلابة) والعديد من الأعراض النفسية المرضية باستخدام قائمة الأعراض (SCL-90). ووجدوا أن هناك فروق جوهرية في الصمود النفسي والحكمة لصالح الأصحاء مقارنة بالمرضى الذين يعانون من أعراض نفسية جسدية، وأن للحكمة قيمة تنبؤية سلبية تجاه الأعراض النفسية وقيمة تنبؤية إيجابية تجاه الصمود النفسي. مما يشير لإمكانية أن يكون لها إمكانات potential وقائية و / أو علاجية و / أو إعادة تأهيل. (Roháriková, Špajdel, Cviková & Jagla, 2013).
ما إمكانية استهداف الحكمة في العلاج النفسي تجريبيا؟
قدم ليبيري وليندن تصورًا نحو ما أطلق عليه العلاج بالحكمة (2011) واستخدمه في مشكلات مشاعر المرارة بعد حدث صدمي لا يمكن تغييره Posttraumatic Embitterment Disorder (PTED) في دراسات تجريبية (Linden, et al., 2011; Linden, 2008.).
إن علاج المرضى الذين يعانون من اضطرابات التكيف وحتى الذين لديهم شعور بالتنغيص والمرارة PTED نتيجة أحداث معينة لا يستطيعون تجاوزها لا يكون سهلا، لأنهم يأتون بفكرة أن سبب مشكلتهم هو البيئة أو بعض الأحداث السلبية في الحياة، وبالتالي، ليس عليهم أن يتغيروا ولكن يريدون التغيير في الآخرين. من وجهة نظرهم، يجب أن يتغير العالم، وليس المريض. كذلك المرضى الذين واجهوا تجارب حياة غير عادلة في كثير من الأحيان يرفضون بشكل صريح المساعدة وغالبًا ما يكون العلاج معقدًا بسبب الموقف العدواني القهري للمرضى، مما يعيق تطوير وجهات نظر جديدة للحياة، أو وجهات نظر جديدة لما حدث(Lieberei & Linden, 2011, p.212).
ويركز هذا المنحى على التعامل مع أعباء وصعوبات الحياة التي لا مفر منها، وأن هناك حاجة إلى الصمود تجاه تلك الأعباء وكفاءات الحكمة هي أهم عوامل الصمود النفسي. كذلك يختلف الأشخاص في تفاعلهم مع نفس الحدث. وتساعد بعض ردود الفعل على حل المشكلة أو التغلب عليها، وفي حالات أخرى يتسبب رد الفعل في مشكلات أكثر من الحدث الأصلي. وإذا كان هناك العديد من المهارات النفسية التي يمكن تلخيصها تحت عنوان حل المشكلات. لكن هناك بعض الأحداث السلبية في الحياة التي لا يوجد لها حل واضح وصريح وصحيح، أو أحداث لا يمكن تغييرها أو لا يمكن التراجع عنها. يمكن أن تكون هذه مشكلات يومية أو أحداثًا شديدة وتغير الحياة. في مثل هذه الحالات تكون الحكمة مطلوبة. لأن الحكمة تعتبر القدرة على التعامل مع مثل هذه المواقف أو "حل المشكلات غير القابلة للحل" كما ترتبط الدرجات في كفاءات الحكمة بزيادة الرفاهية والنجاح في الحياة. ويمكن تعلم الحكمة وتدريبها، حتى من خلال استراتيجيات بسيطة. والعلاج بالحكمة شكل من أشكال العلاج المعرفي السلوكي المزود بتقنيات خاصة لتعليم كفاءات الحكمة. وهناك أدلة أولية على أنه قد يخفف من اضطرابات التكيف المستمرة. (Linden, 2014, p.87).
أ- الافتراضات والأسس التي يقوم عليها العلاج المستند للحكمة:
- ينظر للحكمة في هذا المنحى باعتبارها قدرة معقدة متعددة الأبعاد، تشبه القدرات النفسية الأخرى مثل التوكيدية assertiveness أو الذكاء وهي عدة أبعاد فرعية تتضمن الحكمة هي: نظرة خاصة إلى العالم (المعرفة الواقعية، والسياقية، والنسبية القيمية)، ولدى الأشخاص الآخرين (تغيير المنظور، والتعاطف)، وإلى الشخص نفسه (إضفاء الطابع النسبي على المشكلات والمطالب، والنسبية الذاتية، والمسافة الذاتية)، وللتجربة الخاصة (إدراك وقبول المشاعر، الصفاء)، وإلى المستقبل (التسامح وقبول الماضي، تحمل الشك، الاستدامة أو الاستمرارية). يمكن أن تكون هذه الأبعاد الفرعية بمثابة أساس للتدخلات العلاجية (Arnold & Linden, 2022, p.209-210).
- اعتبار أن هدف العلاج النفسي هو تحصين الفرد بمزيد من الحكمة، وبالتالي فمكوناتها وعناصرها متداخلة في عملية العلاج الناجح. ويفترض كل من ليبيري وليندن، أنه إذا كانت الحكمة يمكن أن تساعد في التغلب على مشكلات الحياة الصعبة، فإن الأشخاص غير الناجحين في هذا الصدد قد يعانون من نقص كفاءات الحكمة (Lieberei & Linden, 2011, 209). وهذا يذهب بنا نحو استهداف تنمية الحكمة كناتج علاجي أبعد من مستوى إدارة الأعراض والحد منها.
- إذا كانت الحكمة هي القدرة التي يمكن أن تساعد في التعامل مع أو "حل مشكلات الحياة غير القابلة للحل" وإذا كان من الممكن تعلم الحكمة وتعليمها، فإن الفكرة التالية هي، ما إذا كان يمكن استخدام هذا بشكل منهجي في سياق علاجي. واستنادًا إلى المفاهيم المذكورة سابقًا لعلم نفس الحكمة وعلى النظريات حول مسببات اضطرابات التكيف والشعور بالمرارة بعد حدث صدمي PTED، تم تطوير العلاج النفسي بالحكمة (Schippan et al. 2004; Linden et al. 2006, 2007; Linden 2008; Baumann and Linden 2008; Baumann et al. 2009).
- أن الجميع يحتاج إلى الحكمة، وخاصة من هم عالقون في مواقف صعبة أو يواجهون قرارات صعبة. وهذا ينطبق على الأشخاص الذين يعانون من مشكلات نفسية واضطرابات نفسية. وغالبًا ما يُفترض – على غير الدقة- أن الأشخاص ذوي الذكاء المعرفي العالي قادرون أيضًا على التعامل بشكل أفضل مع المشكلات في الحياة. ومع ذلك، فإن الذكاء باعتباره القدرة على التفكير المنطقي وحل المشكلات المجردة لا يرتبط بالضرورة بالنجاح أو التعامل مع الحياة (Clayton, 1983). الشخص الموهوب في الرياضيات أو الذي قرأ العديد من الكتب ليس بالضرورة أن يكون ناجحًا في الحياة. الحكمة لها بعض الروابط للذكاء العملي والوجداني (Mayer et al., 2004)
- ويفترض هذا المنحى أيضا أنه يمكن تدريب الحكمة. حيث يعطي علم نفس الحكمة والعلاج بالحكمة بعض الأفكار حول ما يجب التركيز عليه. هناك بعض الأدلة التجريبية وكذلك التجارب السريرية على أن هذا نهج مفيد في العديد من المواقف السريرية والعلاجية. لذلك يمكن اعتبار مفهوم علم نفس الحكمة wisdom psychology في العلاج النفسي التطبيقي تطورًا جديدًا واعدًا. (Arnold & Linden, 2022, p.217).
ورغم أنه يُنظر إلى الحكمة أحيانًا على أنها شيء غامض، يُمنح لشخص أم لا. إن فكرة أن الفرد يمكن أن يتعلم الحكمة تكاد تكون مفارقة، لأنه غالبًا ما ثبت أن الحكمة لا ترتبط بالتعليم الرسمي. ومع ذلك، يبدو أنه من السهل جدًا تحسين كفاءات الحكمة. فقد أشار بالتس وآخرون (2002) إلى أنه يمكن للمرء تحسين الحكمة عن طريق (1) أخذ 5 دقائق للتفكير في مشكلة قبل البدء في التعليق عليها، (2) التحدث عن المشكلة مع شخص آخر، (3) التحدث عن المشكلة مع شخص آخر والسؤال عما قد يقوله هذا الشخص أو يفعله، (4) وضع المشكلة في سياق مختلف، سواء كان ذلك عبر الثقافات أو مدى الحياة. يوضح هذا أن الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات ونسبية السياق هي قدرات حكمة أساسية يمكن تطبيقها بسهولة.
ب- استراتيجيات العلاج المستند إلى الحكمة:
باختصار العلاج بالحكمة أو العلاج المستند إلى الحكمة هو أحد أشكال العلاج المعرفي السلوكي (CBT) ويستخدم جميع الاستراتيجيات العلاجية لتغيير المواقف والانفعالات وتحسين سلوك حل المشكلات (Dobson & Dozois, 2019). وهذا يشمل تعديل الإدراك المشوه، وإعادة صياغة المشكلات، وتحسين الكفاءة الذاتية، والعلاج بالتعرض، وإعادة بناء الصلات الاجتماعية (Arnold & Linden, 2022, p.210; Linden, 2014, p.85).
ويستهدف العلاج بالحكمة محاولة تحسين قدرات الحكمة، لا سيما فيما يتعلق بأحداث الحياة المرهقة. فهو لا يهدف إلى حل مشكلات محددة ولكن إلى تعليم مهارات كيفية التعامل مع المواقف والمعضلات الصعبة في الحياة بشكل عام. ولذا فقد تم تحديد استراتيجيات تقليدية في العلاج المعرفي السلوكي واستراتيجيات خاصة جديدة موجهة بشكل خاص نحو تعليم وتعلم كفاءات الحكمة، وهي طريقة مشكلات الحياة التي لم يتم حلها. تعرض عليهم دون أن يحصل المرضى على مساعدة مباشرة في التعامل مع مشكلتهم الحالية، كما هو الحال في علاج حل المشكلات، لكنهم يتعلمون كفاءات جديدة.
هذه الاستراتيجيات التي تستهدف كفاءات الحكمة، تتضمن استخدام الملصقات أو كروت صغيرة تصف مشكلات خطيرة لم يتم حلها في الحياة، والتي يمكن أن تحدث للجميع، مثل الطلاق، والوفاة، وفقدان الوظيفة، ومرض عضال مثل السرطان وما إلى ذلك.
تتضمن هذه المقالات القصيرة للمشكلات ثلاث شخصيات رئيسية: (1) الضحية، (2) الجاني، (3) شخص ثالث أصبح جزءًا من الموقف دون التورط عن قصد (Linden, 2014, p.85).
من أمثلة تلك المشكلات:
لقد أعطى السيد "أ" كل شيء للشركة، ونحى حياته العائلية جانبًا، بل وتنازل عن طلب زيادة في الراتب، لأن الشركة في مأزق مالي. في أحد الأيام، أخبره رئيسه أن ليس له مكان بالعمل وتم توظيف مدير آخر بزعم أنه سيكون أكثر كفاءة.
عاشت السيدة "ب" مع رجل لسنوات وراعته في عامه الأخير عندما كان مريضًا بشدة وبحاجة إلى المساعدة. علمت بعد وفاته أنه ورّث جميع ممتلكاته لزوجته التي كان لا يزال متزوجًا منها.
يتم اختيار الأمثلة دون الإشارة مباشرة إلى المريض. وإذا كان المريض رجلاً، يتم استخدام الأنثى كضحية، وإذا كانت المشكلة التي أبلغ عنها المريض في العمل، يتم استخدام مثال عائلي. يتم ذلك للتخلص من المشكلات الحالية والسماح للمريض بالعثور على بعض المسافة المعرفية والانفعالية عند التفكير في حلول المشكلات. ثم يُطلب من المرضى التعليق على ما حدث من منظور الضحية، للتعبير عن آرائهم وعواطفهم وشرح ما سيفعلونه في حالة من هذا القبيل. في الخطوة التالية، يُطلب منهم سرد نفس القصة، لكن هذه المرة من منظور الجاني أو الطرف الثالث. يعلم هذا النهج المرضى مراقبة عواطفهم وإدراكهم وقيمهم، ولتغيير المنظور، وتقبل الظروف والسياق، وتعلم التعاطف، إلخ.
والخطوة التالية هي إدخال نماذج بأهداف مختلفة من أجل تعزيز نسبية القيمة، والمعرفة الواقعية والإجرائية، أو السياقية. على سبيل المثال: ماذا سيقول المحامي، من يريد أكبر قدر ممكن من المال؟ ماذا ستقول الجدة التي نجت من الحروب وتتذكر الحياة؟ كيف ترغب في تقديم تجربتك عندما تبلغ من العمر 70 عامًا وتكتب سيرتك الذاتية لأحفادك؟ ماذا سيقول رجل الدين، من يريدك أن تذهب إلى الجنة؟ ماذا سيقول عالم النفس الذي يفهم سبب قيام الأشخاص بأشياء غريبة؟ كما يتم تشجيع استخدام المفارقات، مثل: ما الذي يجب أن يفعله الضحية لتفاقم المشكلة وجعل الموقف أكثر إزعاجًا؟
أخيرًا، يمكن للمرء أيضًا تقديم "إطار مرجعي" أكثر عمومية من خلال الإشارة إلى الأمثال والحكم السائدة في المجتمع. حيث تعتبر معرفة من معارف الحكمة في شكل مركز للغاية ومعروفة لدى الناس كما أن لها درجة من التقبل والتصديق. ويمكن دمج هذا مع تحليل المشكلات غير القابلة للحل. ومن تلك الأمثال مثلا:
• تأمل طبيعة الأحداث أنها مؤقتة: "بعد المطر تسطع الشمس"
• إسقاط الوقت: "الوقت يداوي الجروح".
• تأمل جدلية القدر: "المشقة تعلّم السعادة".
• نسبية المشكلات السابقة: "ما من شيء أفضل من الألم الذي يتلاشى".
• نسبية المشكلة الحالية: "إذا كنت تعتقد أن هذا هو أسوأ ما يمكن أن يحدث، فانتظر الخطوة التالية".
• مشكلات تعتبر فرصة لبداية جديدة: "هناك فرصة في أي أزمة"
• التركيز على أهداف جديدة: "هناك أمهات كثيرات لديهن فتيات جميلات"
• التعامل مع الطموحات: "عصفور في يدك أفضل من حمامة على السطح"
• تأمل الغموض: "هناك جانبان لكل زاوية"
• تأمل المكاسب: "الطرق الوعرة تؤدي إلى النجوم".
• المشكلة كتحدي: "الله يختبر الصمود"
• قبول سوء السلوك: "لا أحد كامل" (Linden, 2014, p.86).
- Ardelt, M. (2003). Empirical assessment of a three-dimensional wisdom scale. Research on aging, 25(3), 275-324.
- Arnold, C., & Linden, M. (2022). Wisdom therapy in overcoming trauma and burdens of life. In Post-Traumatic Growth to Psychological Well-Being: Coping Wisely with Adversity (pp. 207-219). Cham: Springer International Publishing.
- Baltes, P. B., & Staudinger, U. M. (2000). Wisdom: A metaheuristic (pragmatic) to orchestrate mind and virtue toward excellence. American psychologist, 55(1), 122.
- Lieberei, B., & Linden, M. (2011). Wisdom psychotherapy. Embitterment: Societal, psychological, and clinical perspectives, 208-219.
- Linden, M. (2008). Posttraumatic embitterment disorder and wisdom therapy. Journal of Cognitive Psychotherapy, 22(1), 4-14.
- Linden, M., Baumann, K., Lieberei, B., Lorenz, C., & Rotter, M. (2011). Treatment of posttraumatic embitterment disorder with cognitive behaviour therapy based on wisdom psychology and hedonia strategies. Psychotherapy and Psychosomatics, 80(4), 199-205.
- Linden, M. (2014). Promoting resilience and well-being with wisdom and wisdom therapy. Increasing Psychological Well-being in Clinical and Educational Settings: Interventions and Cultural Contexts, 75-90.
- Roháriková, V., Špajdel, M., Cviková, V., & Jagla, F. (2013). Tracing the relationship between wisdom and health. Activitas Nervosa Superior Rediviva, 55(3), 95-102.
- Van Patten, R., Lee, E. E., Daly, R., Twamley, E., Tu, X. M., & Jeste, D. V. (2019). Assessment of 3-dimensional wisdom in schizophrenia: Associations with neuropsychological functions and physical and mental health. Schizophrenia research, 208, 360-369.
واقرأ أيضاً:
رسائل الله الغامضة / الأبعاد السيكولوجية لأسرة الطفل الذاتوي (التوحدي)