من سبت الغفران إلى سبت الطوفان21
نيران صديقة
أكتب هذه السطور بعد مجزرة صلاة الفجر في مدرسة التابعين، وبعد سلسلة اغتيال قيادات عليا في المقاومة.
أكتب والحسرة والدهشة تضغط على أعصابي، وأنا أرى المنشورات والخطابات على الفيسبوك، أو مما تصلني شظاياه، ويبدو وكأنه مشاركة أصحابه في المعارك الدامية الدائرة ونصيبهم من مساندة أهلنا تحت النار والحصار والإبادة والدمار!!
*يبرز خطاب ما يسمى بالصهاينة العرب الذين ترددوا في مناصرة المقاومة أو يهاجمونها، ويشتبك معهم جمهور واسع من مناصريها في عملية استنزاف هائلة للطاقات والجهود في معارك طواحين الهواء حيث لا طائل من مناقشة بديهيات وثوابت المناصرين مع انتقادات وشبهات الكارهين.
خطاب آخر ما يزال تائها في تفاصيل الخرائط والانحيازات والأيدولوجيات بحثا عن الموقف السليم من مقاومة ذات خلفية أيدلوجية مرفوضة من قطاع من النخب والنشطاء، والسعي ما يزال حثيثا للفصل بين الخصومة الأيدولوجية والمناصرة للمقاومة المسلحة مبدأ وممارسة، وتنتهي جهود هذا الخطاب بإعلان موقفه الأخلاقي النظري!!
*وخطاب آخر منخرط في البكاء والعويل ونقل وقائع الإبادة والحسرة على الخسائر البشرية والمادية والتعبير عن أقصى درجات الألم إزاء الفظائع الجارية تحت هتافات من قبيل: لن ننسى ولن نعتاد المشهد، وهو خطاب يبدو موجها للذات والأصدقاء، ويبدو قليل الجدوى أو عديمها، بل ربما هو خطاب ضار يسمم النفوس بحزن يقعد عن العمل.
*خطاب آخر يستلم زاوية استنكار ولوم الأنظمة والحكومات وانتقادها وكأن النقد يحركها، وهو إذا عاتب الناس أو جلد الذات فلا يرسم خرائط عمل، ولكن يصرخ بكلام عام، أو يشير إلى أهداف كبرى، وطموحات مشروعة، لكنها تظل مجرد خيالات ومطالبات بلا برامج حقيقية لتحقيقها!!
*أما خطاب المقاطعة للمنتجات والبضائع فيبدو وقد انحبس فيها يتوهمها السلاح الوحيد الممكن والفعال، ومثله خطابات الدعاية للقضية تشبه الخطابات الغربية التي تقدمها لمجتمعات خالية الذهن أو مخطوفة لصالح دعاية صهيونية مكثفة طوال عقود
فمن يخاطب جماهيرنا المؤمنة بعدالة القضية المحبوسة في أوهام قلة الوعي وتوهم العجز؟؟ ومع مرور الوقت تعالت خطابات جديدة انضمت إلى ما سبق.
*خطاب ذهب في تمجيد وتقديس المقاومة وأهل غزة وملاحم الاشتباك والصمود دون أن يشتبك أصحاب الخطاب في أية معارك، فيكون دورهم هو التمجيد بديلا عن الفعل.
المديح والإشادة ببطولات وأساطير حية،لكن ماذا عساه أن يضيف هذا الكلام أو يمنع أو يردع؟؟
*خطاب يشبه العويل المتجدد على الحسين الشهيد، فهو يرتدي السواد ويواصل اللطم والتطبير رغم أن الحسين/الحالي ما زال وسط الميدان يخوض معركته ويبحث عن نصرة فعلية ومناصرين فاعلين!!
*خطاب يقدم نوعا من النقد الذاتي والمراجعات من موقع يبدو مؤيدا للمقاومة، ولا يقدم هذا الخطاب أي برامج عمل غير ضرورة النقد والمراجعة، ويحذر من تصنيم المقاومة ورفعها فوق النقد
*وفي غياب العمل والفعل الشعبي الممكن والذي سبق وتطرقت لذكر أمثلة متعددة له برز خطاب من المقاومة نفسها وكأنها تخوض المعركة نيابة عن أمة ساكتة غيبت نفسها عن الفعل، فصارت المقاومة تقول: نحن لها، سنحرر ونحطم، ونمرغ وندمر وندحر، رغم أننا جميعا نعرف أن إمكاناتها محدودة، وإن استخدمتها ببراعة مبهرة فإنها لا تكفي لحسم معركة تدور أكثر من ٩٠٪ من وقائعها خارج أرض غزة- أصلا
هي معركة تدور في كل عقل وفي كل بيت ومؤسسة ومنظمة ومساحة أكاديمية أو سياسية أو مجتمعية أو إعلامية.... حول العالم.
وهي معركة أمة مستقيلة من الفعل لأسباب متعددة، وفي تقديري أن أي خطاب غير خطاب الإفاقة وتعبئة الوعي والجهود، خطاب يقول أن وقف العدوان ممكن إذا تعاظمت الضغوط وتغيرت خرائط القوة، وتغييرها لم يكن ممكنا كما هو اليوم!!
هذا الخطاب مفتقد الذي يشرح كيف فتح الطوفان أبوابا وفرصا وعقولا وأفئدة كانت موصدة وصدئة، وكيف نثر بذور غراس يمكن أن تثمر لو وجدت من يتتبعها ويتعهدها بالرعاية والري، وهذا ممكن جدا، إذا توافرت إرادتنا وجهودنا.
لا يجدي أن نبالغ أو أن تبالغ المقاومة في دورها ولا قدراتها ولا مآلات صمودها الأسطوري، فإنه مهما بلغ لم ولن يوقف العدوان، ولا يفرمل عجلة الإبادة، والخسائر مروعة، والأنظمة متواطئة، وهذه معركة الأمة منوطة بها، ولو تخلفت عنها!!
أي خطاب غير خطاب التوعية والتعبئة، خطاب التفهيم والتدريب على الحوار والتفاوض الاجتماعي والضغط السياسي، خطاب تغيير الذات، ورفع القدرات والمهارات، وثورة العقول، والتمرد على أنماط حياة كسيحة مشلولة مدجنة مكبلة بإفقار مصنوع، أو ترف مصنوع!!
أي خطاب غير خطاب تنشيط الوجود الإنساني بأشكاله وتفعيل طاقات الناس، محليا وفي المنافي والمهاجر وضبط الحياة والحركة على بوصلة فلسطين!!
أي خطاب غير الحض على التواصل مع كل معلومة تصلح لتتحول فضيحة للقتلة تصل لكل إنسان، والتواصل مع كل بادرة مناصرة وتنمية هذه البذور المتناثرة والبدايات الواعدة بتكوين وتطوير مجموعات إسناد ومناصرة أهلية.
أي خطاب لا يتوجه للناس بوصفهم الأمل وجهة المسؤولية وليسوا جهة الفرجة والانتظار، أي خطاب لا يترك البلاغات اللفظية، والاكتفاء بالمواقف النظرية والأخلاقية، والبشارات السماوية، ويعتبر ما تقدم بديلا لخطط العمل وبناء الجهود وخوض المعارك في الميادين كلها.
أي خطاب غير هذا الخطاب الواضح المركز المباشر العملي هو عندي مجرد «نيران صديقة» تؤخر النصر والردع، وهي تساهم في تمرير العدوان، ومضاعفة الخسائر، واستمرار الدمار، وهو خطاب ضار -رغم نواياه- ولا يعول عليها!!!
د. أحمد عبد الله Facebook