مقدمة:
هذا بحث يستطلع بعض مساحات التلامس والترابط والتقاطع بين النفس والقرآن في مساحتي الفهم النظري، والممارسة العلاجية، تحت عنوان: "بعض المقال فيما بين النفس، والقرآن من اتصال"
يتكون من مقدمة، ومبحثين، وخاتمة، ثم قائمة المراجع.
يتناول المبحث الأول: مساحة الفهم والتنظير.
يتناول المبحث الثاني: مساحات ومستويات وأنواع التأثير العلاجي النفسي للقرآن الكريم..
كما تشتمل الخاتمة على بعض الملاحظات المتممة للبحث.
المبحث الأول: في الفهم والنظرية
يتعلم الطبيب في بداية تخصصه بالطب النفسي أن الإنسان كائن ذو أبعاد ثلاثة: بيولوجي، ونفساني/سيكولوجي، واجتماعي، وتدور نقاشات ساخنة خلال السنوات الأخيرة حول إضافة البعد الروحاني الذي تم تهميشه منذ اختزال البعد النفسي، ونبذ المكون الروحاني، وقد جرى هذا على الرغم من أن جذر الاشتقاق الأصلي للاسم الإفرنجي للعلم، وهو Psych إنما يعني الروح، وهو هكذا في المعاجم - حتى وقت قريب.
ولعل هذه النقاشات تعني إلى حد كبير أن انسلاخ علوم النفس عن الروحانية مؤذن بزوال، وسواءً دخل البعد الروحاني عاجلاً وصراحة ضمن تركيب الإنسان المعتمد أو المعترف به في التيار العام لطب النفس تنظيراً وممارسة، أو تأخر هذا الدخول - بعض الشيء، فإن الروحانية حالياً تدخل مجال العلاج النفسي من أبواب شتى - غير رسمية، وحتى المكون النفسي المتداول حالياً يتضمن الروحانية من عدة جوانب كما سنرى.
وغالب الأفكار التالية إنما هي استخلاصات وأفهام وصلتني من صحبة العالِم الجليل، وأحد مؤسسي طب النفس الحديث في مصر أستاذي الراحل الدكتور يحيى الرخاوي- طوال أربعين سنة، رحمه الله تعالى.
يقول: "أستطيع القول الآن أن مفاتيح ما كتبته وأكتبه وما أمارسه طوال هذا العمر هي هذه الكلمات الخمس: الوعي- التعدد- الجدل - الإبداع - التطور".
ويهمني أن أتوقف خاصة عند الكلمات الثلاث الأولى لما أرى من علاقة وثيقة بالقرآن، كما سأحاول الشرح.
الوعي
يتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات ليس فقط بتركيب متميز متطور للدماغ يمكنه من إجراء عمليات عقلية مركبة ومبدعة، ولكن أيضاً بقدرة متفردة على مراقبة نفسه، ومراجعة عمل دماغه، ونقد أداءه، وتحسينه في ضوء هذا النقد الذي يجريه، ويزداد هذا التطوير والتحسين في ظل التواصل، والممارسات الجمعية، والاجتماعية.
والرخاوي يربط بين ما يتصوره ويصوره دوائر للوعي تبدأ من دائرة الوعي الذاتي الداخلي (الوعي بالوعي)، ثم الوعي العلاقاتي(البين – شخصي)، ثم الوعي الجمعي للمجموعات، ثم الوطني القطري العام، ثم الإنساني الأعم، ثم الكوني إلى المطلق اللامتناهي، واعتاد أن يسمى هذا المطلق اللامتناهي بـ "وجه الله".
والقرآن يمثل شكلاً وربطاً للوصل بين هذه الدوائر من الذاتي الداخلي إلى المطلق اللامتناهي. والقرآن عند الرخاوي "وعي خالص"، وبالتالي فإن ربط "الوعى الخالص" بدوائر الوعي الإنساني، وانفتاح المحدود على المطلق، وانفتاح الناقص على الخالص يفتح أمام البشر آفاقاً رحبة للتأمل والتعلم والاستلهام، والتعافي- أيضاً.
وكم كانت للأستاذ من تأملات واستلهامات لطائف قرآنية سنحت له من نشأته الأولى في كتاب القرية، ثم ملازمته للنظر في القرآن، والتدبر فيه.
وقد رأيت معه في محاضرات التعليم، وفي جلسات العلاج الجمعي مع الحالات كيف يمكن أن تعتل النفس التي قد تقتصر على حفظ الآيات والأوراد دون فهم ولا تدبر، إنما الترديد، والتقليد -دون وعي!! كما رأيت كيف يمكن تحفيز وتحريك الوعي في مستوياته لتتصل وتتواصل دوائره وتتكامل.
ومن مستويات التواصل بين النفس والقرآن ما يراه الرخاوي من أن النفس هي "نص بشري"، والعلاج إنما هو اتصال وعي بوعي، ونص بنص.
هذا التناص بين نفس/ نص المعالج، ونفس/ نص المتعالج ليس هو التناص الوحيد المؤثر في نفسية المتعالج.
فالإنسان يولد وينشأ كمنتج وبوتقة تفاعل بين نصوص أسلافه والثقافات والمؤثرات التي تعتمل داخل وعيه، وكذلك تواصله مع نصوص الآخرين، وتفاعله معها أخذاً وتركاً وتقليداً وتطويراً وإبداعاً، وكل هذا يتجلى في تكوينه، وتفاعل الإنسان مع النص الإلهي يندرج ضمن نفس المنظومة، والتواصل بين الوعي الإنساني، والوعى الخالص له تأثير كبير، وبخاصة مع درجة أعلى من التقديس والتأثر والاحتفاء، والمشاركة مع جمهور المؤمنين.
وهو يتأمل في أشكال من التحقق والتجلي لهذا التفاعل والتواصل، فكم من مرة توقف بنا أمام "كان خُلقه القرآن"، وأمام قول علي بن أبي طالب- كرَّم الله وجهه- عن "عمار بن ياسر" -رضي الله عنه- حين سئل عنه، فقال: "ذاك امرؤ خلط الله الإيمان بلحمه وعظمه ودمه، وشعره وبشره، لا يفارق الحق ساعة، حيث زال زال معه، لا ينبغي للنار أن تأكل منه شيئاً!!
وهو نفس الوارد في حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن عمار، قال: "عمار خلط الله الإيمان ما بين قرنه إلى قدمه، وخلط الإيمان بلحمه ودمه، يزول مع الحق حيث زال، وليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئاً".
والجسد عند الرخاوي: "وعي متعين"، وعليه فإن الرخاوي يعتبر العلاج تناصاً، هو من جهة المعالج نوع من قراءة وتفسير ونقد للنص البشري، وتعديلاً إلى الافضل من انفتاح وعي على وعي يتطورا معاً.
وبناءً عليه يصبح منطقيًا أن نستخدم النص الإلهي، وننفتح على "الوعي المطلق" أو "الخالص"، نفتح به وعليه: النص المضطرب، والوعي الناقص لإصلاحه وتكميله.
ويتبع>>>>: بعض المقال فيما بين النفس والقرآن من اتصال2