بعض المقال فيما بين النفس والقرآن من اتصال1
التعـدد
أكدت بعض المدارس الأحدث في مجال علم وطب النفس على ما تلقيناه على يد أستاذنا من أن التركيب الداخلي النفسي إنما هو متعدد.
فمن مدرسة ترى هذا التعدد في حالات الذات: الطفل- الراشد- الوالد؛ وصولاً إلى المدرسة الأحدث التي تتصور هذا التعدد أجزاءً يتكون منها "النظام الداخلي" للنفس بحيث تتناغم هذه الأجزاء في حال الصحة، وفي حال المرض تتصارع وتتنافر، وقد يتمرد بعضها فيستولي على قيادة النظام الداخلي، فيحصل الاضطراب، والاعتلال النفسي.
وكم من مرة ذكرنا الأستاذ فيها بقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) وكان إصراره الدائم على أن معنى التزكية هو التنمية، وهي لا تكون إلا بالانتباه للفجور والتقوى داخلنا بمراقبة وجودهما، وتفاعلهما، بالاعتراف بأنهما فطرة من الله، ثم إدارة التفاعل الواعي بينهما في عملية جديدة توليفية متناغمة ومتوازنة.
يعني أن نفي أو رفض أو عطل جزء من الأجزاء الداخلية يعني اضطراب النظام الداخلي كله.
ويصبح العلاج هو تنشيط أو استعادة تحريك الجزء المعطل واستيعابه في النظام الداخلي بعد قبوله، ودوره، دون طغيان في المساحة أو الوظيفة.
وأتصور أن فهم النفس على هذا النحو سيحل مشكلة بعض الناس تجاه القرآن حين يفهمون أنه خطاب متعدد ومتنوع الإيقاعات والنظم ومستويات التكثيف ليناسب مخاطبة أجزاء النفس المختلفة، وحالات الذات المختلفة، ومكونات النظام الاجتماعي المختلفة من أقوام وطبقات وأعراق، وللعوالم المختلفة من إنس وجن، ولذلك منطقي جداً أن يتعدد ويتنوع ليكون مستوعباً لهذا الزخم.
ومن العادي جداً أن يشعر الإنسان في لحظة ما أن آية ما أو معنى بعينه موجه إليه، أو يتلامس معه بشدة، بينما لا يشعر بنفس القوة، أو الصلة بآيات أخرى، ربما تؤثر فيه بوقت آخر، أو مزاج آخر، أو تؤثر في غيره.
وربما تخف الانزعاجات من آراء يراها البعض جانحة أو شاذة، لكن مع التأمل، والحكمة، يمكن استيعابها وإدراجها داخل المجموع، والنظام الاجتماعي لمصلحة تطوره.
وربما نجد في كتاب الله مدونة شاملة لأحوال نفسية، وتراكيب شخصية متعددة، وربما متجاورة، وليست بالضرورة متناقضة، وربما أمكن التوليف والحوار بينها، وهذه العملية يسميها الرخاوي أو يدرجها، "ضمن الجدل".
الجـدل
الجدل عند الرخاوي هو تفاعل بين مختلفات يؤدي إلى إنتاج جديد عن هذا التوليف، ومثال هذا: التفاعل الواعي بين التقوى الداخلية والفجور، فهو يشمل التأليف بينها بوضع كل منهما في موضعه وعند حده، ويكون ذلك برد الفجور إلى أصله، وهو القوة والجرأة والشجاعة.
وهو ما إذا فقده إنسان ذل، وإذا استسلم لطغيانه ضل، فالتقوى دون قوة ضائعة، والقوة دون تقوى مدمرة، ورأينا معه في حالات واقعية: كيف يضمر جزء داخلي، أو يتخثر، فيكون العلاج متضمناً لمحاولة تنشيطه، وتحريكه ليعود نابضاً مع استيعابه في النظام.
كما رأينا: كيف يتمرد جزء داخلي ليفسد تناغم النظام، ويكون نشازاً يلزم تهذيبه، وإعادة الانضباط إليه ليندرج في النظام متوازانًا فاعلاً.
ورأينا: كيف يمكن أن ينفصل جزء تحت ضغوط أو صدمات فيكون الفصام حلاً مرضياً يحتاج إلى معالجة ضامة تقبل، وتستوعب، وتستعيد إدراج الجزء الضال المنشق المتمرد إلى هارمونية التعددية المتكاملة المتناغمة في النظام الداخلي السليم.
ورأينا أن العلاج غالباً ما يكون بإحياء الجدل الفاعل لاستئناف النمو- المتعثر أو المتجمد أو المعوج في حالة المرض!!
والقرآن يخاطب النفس بجميع أجزاءها فيحركها نابضة منضبطة متآلفة.
المبحث الثاني: كيف يعالج القرآن؟!
نزعم أن شفاء القرآن يتضمن المستويات التالية:
*العلاج النفسي المعرفي:
تقوم فكرة هذا العلاج على أساس أن معاناة المريض سببها مجموعة من الأفكار الخاطئة غير المنطقية، ويعتبرها المريض أتوماتيكيا مسلمات - دون مناقشة، بل وربما دون وعي بها!!
ودور المعالج في هذا العلاج هو تصحيح هذه الأفكار من خلال الجلسات العلاجية.
ومن خلال الممارسة وجدنا أن المعطيات الغربية في هذا العلاج قليلة الجدوى، وغير مناسبة لمجتمعنا، فليست هناك غيبيات، ولا قيم نبيلة في العلاج المعرفي الغربي، وهذا مما لا يتوافق معنا.
ومن الاتجاهات الحديثة نسبياً في هذا المجال ما بات يعرف بالعلاج المعرفي الديني، وتقوم فلسفته على استخدام الأفكار والنصوص الدينية المعتبرة عند المريض بحسب اعتقاده في تصحيح الأفكار المرضية المغلوطة المساهمة في حصول المرض.
وما تزال الأبحاث التي تستخدم القرآن في هذا النوع من العلاج في بداياتها، والبحث مطلوب لاستخراج المفاهيم الصحيحة، وتحديد النصوص التي تؤكدها، وبرمجتها في خطط وتقنيات علاجية معرفية.
يقول الإمام الطاهر بن عاشور: "للقرآن أثران: أحدها ما يشتمل عليه من المعاني المقبولة لدى أهل العقول السليمة، ويستوي في إدراكها العربي والعجمي، وهذا أثر عقلي"
*مدرسة العلاج بالمعنى:
طبقا لأطروحات هذه المدرسة فإن الإنسان يكون أكثر مقاومة للمرض النفسي، وأسرع تعافياً منه عند وقوعه، إذا كان للحياة وللمعاناة معنى، وإذا كان في حياته معنى ضام يشكل له هدفا وغاية، ويبدو الإيمان وتوابعه من أهم المعاني التي تمنح لحياة الإنسان معنى وجدوى وطعماً.
والقرآن في سرده يجيب على الأسئلة الكبرى مثل: من أين؟! وإلى أين؟!
ويعطي المعنى والقيمة والمآل لما يمر بالإنسان من تجارب وخبرات سواءً اعتبرها إيجابية أو سلبية، فكل حدث يحمل رسالة، ودروساً، والعبرة بالاستجابة التي تحدد النتائج والمآلات.
والقرآن يفيض في شرح المعاني الكامنة في الأحداث، وينبه إلى أن ظاهر الأمور قد يختلف عن باطنها: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ).
دراسات وأبحاث العلم الغربي الحديث تتركز حول دراسة المواد، والأنسجة، والهرمونات، والوظائف البيولوجية، والناقلات والوصلات العصبية في الإنسان، ولا تهتم بأسرار، أو غايات وجوده، أو استكشاف دوره في الكون، وليس مجرد خضوعه لنفس القوانين الطبيعية!!
وجود الله في الضمير والوعي يشيع نوعاً من الاطمئنان الوجودي، والنفسي بما يمنح مقاومة أكبر ضد عوارض المحن، واستدعاء معنى وجود الله سبحانه إلى الوعي هو تجديد لاستعادة المعنى والجدوى والسند والمدد اللانهائي: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ)
*العلاج بالإيحاء أو الاعتقاد:
إذا اقتنع المريض أن علاجا أو عقاراً ما يحمل شفاءاً ونفعاً فإن هذا الاقتناع في ذاته يؤدي إلى نتائج علاجية إيجابية بنسبة عالية.
هذا التأثير يمتد للأمراض العضوية، وهو حاصل حتى إذا لم تكن في العقار أية مادة علاجية فعالة!!
أي أن اعتقاد المسلم في تأثير القرآن وشفائه، واتفاق المعالج معه في هذا، وتقوية الثقة في قوة القرآن الشافية، وتأثيره المعنوي الكبير يمكن أن يكون مدخلاً لعلاج فعال.
وهذا هو نفس جوهر نظرية العلاج بالعقار المموه - بلاسيبو.
ويتبع>>>>: بعض المقال فيما بين النفس والقرآن من اتصال3