في عالم يتقن فيه الجميع ارتداء الأقنعة الاجتماعية، يقف العصبي وحيدا عاريا من كل تصنع، يرتفع صوته فجأة كرعد صيفي، تحمر وجنتاه في ثوان، وينفجر غضبه أمام الملأ دون خجل أو مواربة، فيسارع الناس لوضعه في خانة «صعب المراس» أو «سيئ الطباع»، لكن الحقيقة التي غابت عن كثيرين أن هذا العصبي الصاخب قد يكون أطيب من عشرة هادئين مجتمعين!
السر يكمن في طبيعة العصبي النفسية الفريدة، فهو ببساطة لا يملك تلك الخزائن السرية في أعماق نفسه حيث يخزن الآخرون أحقادهم وضغائنهم لسنوات طويلة، إنه مثل نهر جارٍ لا يعرف السدود، ما إن يشعر بالغضب حتى يفيض به فورا، صافيا شفافا دون تلوين أو تزييف، يخرج الغضب من صدره ساخنا طازجا، ثم يتبخر في الهواء كأنه لم يكن، تاركا قلبا نظيفا خاليا من أي رواسب سامة.
تأمل معي هذا المشهد اليومي، العصبي يثور لدقائق معدودة، صوته يملأ المكان، عيناه تقدحان شررا، ثم فجأة وبلا مقدمات تجده يبتسم ويمازحك كأن شيئا لم يحدث، قلبه الذي كان بركانا قبل لحظات عاد بحيرة هادئة صافية، بينما ذلك الهادئ المبتسم دائما يحمل في صدره دفترا أسود يسجل فيه كل إساءة صغيرة أو كبيرة، ينتظر اللحظة المناسبة ليخرج كل ما جمعه من سموم دفعة واحدة قاتلة.
المدهش في شخصية العصبي أنه أسرع الناس ندما وأولهم اعتذارا، بعد كل عاصفة غضب تمر به، يعود كطفل خجول يتلمس الصفح والغفران، «والله ما قصدت» يقولها بصدق من قلبه، لأنه فعلا لم يقصد الإيذاء، كل ما في الأمر أنه لا يعرف طريقة أخرى للتعامل مع مشاعره غير إطلاقها حرة في الفضاء، مثل بالون منفوخ لا يحتمل الضغط، إما أن يُفرغ الهواء منه أو ينفجر.
الفرق بين العصبي وغيره كالفرق بين كوب زجاجي شفاف وآنية خزفية مطلية، الأول تراه على حقيقته، بكل ما فيه من صفاء أو عكر، والثانية قد تبدو جميلة من الخارج لكنك لا تعرف ما تخفيه في باطنها من سموم متراكمة، حتى يأتي يوم تنفجر فيه دون سابق إنذار، فتكتشف أن كل تلك السنوات من الهدوء الظاهري كانت مجرد قناع يخفي بركانا من الأحقاد.
لهذا كله أقول لك، إذا صادفت في حياتك عصبيا صاخبا، لا تحكم عليه من صراخه العابر أو غضبه اللحظي، انتظر قليلا وراقب، ستجده في الغالب أنقى قلبا وأصفى نفسا من كثيرين يتقنون فن الابتسام بينما قلوبهم تغلي حقدا، ستجده أول من يسامح وينسى، وآخر من يحمل الضغينة أو يخطط للانتقام.
في عالم أصبح الجميع فيه يرتدون أقنعة محكمة، يبقى العصبي إنسانا حقيقيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، قد يزعجك صوته العالي لحظة، لكن صدقه النادر يستحق أن تغفر له ألف صرخة، فهو في النهاية لا يعطيك إلا ما في قلبه، صافيا نقيا، دون تجميل أو تزييف!
واقرأ أيضًا:
حياتنا على الـ«Autopilot»! / نهايات حزينة... لا بد منها!