ألاحظ في الآونة الأخيرة كيف أصبح الكثيرون منا مهووسون بالأرقام، لا أقصد أرقام الحسابات المصرفية، بل أرقاماً من نوع آخر، أرقاماً تخبرنا كم خطوة مشينا، وكم ساعة نمنا، وكم كوب ماء شربنا، وكم سعراً حرارياً حرقنا، وحتى كم مرة تنفسنا بعمق في اليوم الواحد؟!
هؤلاء الناس يستيقظون كل صباح ليتفقدوا «تقرير الليلة الماضية» الذي ترسله لهم ساعاتهم الذكية، كم ساعة من النوم العميق حصلوا عليها؟ كم مرة استيقظوا؟ وما مستوى الأكسجين في دمهم أثناء النوم؟ فأصبحوا مع الوقت لا يعتمدون على شعورهم بالراحة أو التعب لمعرفة جودة نومهم، بل على تقييم جهاز إلكتروني صغير لا يعرف شيئاً عن أحلامهم أو همومهم!
تتواصل المعركة مع الأرقام خلال النهار، حيث تكون الخطوة الأولى هي المشي لعشرة آلاف خطوة، وشرب ثمانية أكواب من الماء هي المهمة الثانية، وممارسة النشاط الرياضي المكثف لثلاثين دقيقة هي المهمة الثالثة، وهكذا تتحول الحياة إلى قائمة مهام رقمية يجب إنجازها قبل النوم وإلا فاليوم «فاشل» صحياً!
الأعجب أن هؤلاء الأشخاص يشعرون بالذنب إن لم يحققوا الرقم المطلوب، حتى لو كانوا يشعرون بالراحة والعافية، وبالمقابل يفتخرون بتحقيق الأرقام حتى لو كانوا متعبين أو مرهقين، وكأن الأرقام أصبحت أهم من الشعور الفعلي بالصحة، ولعلني لست الوحيد الذي بات أصدقاؤه يقارنون أرقامهم كما كنا نقارن درجاتنا في المدرسة، فهذا شرب عشرة أكواب ماء اليوم، «وآخر حرق ألفي سعر، وثالث يتباهى أن نومه البارحة كان عميقاً بنسبة خمسة وثمانين بالمئة، وبهذا تحولت الصحة من حالة شخصية خاصة إلى مسابقة جماعية تُقاس بالأرقام!
الطريف أن البعض طوّر إستراتيجيات للتلاعب بهذه الأرقام، فيشرب كميات مفرطة من الماء ليحقق الرقم المطلوب حتى لو لم يكن عطشاناً، ويمشي في المكان أثناء مشاهدة التلفزيون ليزيد عدد خطواته، ويأكل أقل من حاجته ليحافظ على الرقم المحدد من السعرات، كل هذا لإرضاء تطبيق في الهاتف، ومشاهدة الرقم السحري من الخطوات أو السعرات مسجلاً فيه!
هذا الهوس بالأرقام قد يخفي حاجة نفسية عميقة للسيطرة في عالم مليء بالغموض، إذ نريد أن نحول كل شيء في حياتنا إلى معادلات رياضية واضحة يمكن قياسها ومراقبتها، حتى في أكثر الأمور شخصية وحميمية مثل الصحة والعافية، لكن المشكلة أن أجسادنا ليست آلات تعمل وفق معادلات ثابتة، فما يحتاجه جسدي اليوم قد يختلف عما احتجته أمس، وما يشعرني بالراحة قد لا يتطابق مع الرقم المثالي الذي يخبرني به التطبيق!
الصحة الحقيقية يا أصدقائي أعمق من الأرقام، فهي في قدرتنا على الاستمتاع بالحياة من دون قلق مستمر من عدم تحقيق حصة يومية من هذا أو ذاك، وأحياناً قد يكون أفضل ما نفعله لصحتنا هو أن نستمع لأجسادنا أكثر من استماعنا للأجهزة التي نحملها!
في النهاية، لنتذكر أن الحكمة القديمة كانت تقول إن «مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة».. لا بعشرة آلاف!
واقرأ أيضًا:
دفاعٌ.. عن اللحظات العادية / طقوس الهروب اليومية!