لا شك أن أمتنا تمر بمنعطف خطير، فهي بين تآمر الأعداء عليها من الخارج، وبين تمزق الصفوف وتشرذمها من الداخل، ولولا اليقين بأن الغلبة للحق وجنده بمقتضى وعد الله سبحانه وتعالى في غير آية من كتاب الله عز وجل لملك اليأس قلوبنا ولأغلق المرء على نفسه باب بيته حتى تأتيه منيته، ولكن بقية الخير في هذه الأمة التي بشر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- تطمئن القلوب ببزوغ فجر تمتلئ فيه الأرض بالحق والعدل ويندحر فيه الفجور والطغيان.
وتكالب الأعداء على الأمة أمر لا يثير الدهشة والعجب، فهو من مقتضيات سنة التدافع "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" فلا بد أن يوجد الخير والشر، الحق والباطل، الهدى والضلال، حزب الرحمن، وحزب الشيطان.
أما الذي يبعث في القلب الحسرة والألم فهو هذا التشرذم داخل صفوف الأمة، وعدم القدرة على أن يتحد الصوت في وجه العدو الذي لم يختلف اثنان على كراهيته وعدائه!! ومع ذلك تنافرت الأصوات واختلفت الألحان، فلم نسمع إلا الصخب والضجيج الذي جعل الناس في حيرة من تمييز صوت الحق، وشاهدي على ذلك يعرفه القاصي والداني وهو "أزمة لبنان الجريح" فما أن استبشرت الأمة بهذا الخير الذي ساقه الله على أيدي جند حزب الله في لبنان، ولكن سرعان من خرج ليفسد على الأمة فرحتها بتبدد شبح الخوف من هذا الشيطان الرجيم الذي أوهم العالم أنه إله أكبر لا يهزم ولا يقهر، فإذا بأقدار الله تسوق قذائف حزب الله لتبدد هذا الوهم وتنزع القناع عن الأسطورة الكاذبة، وتبعث الأمل في الأمة من جديد، ومن أوهمنا أنه إله أكبر إذا به شيطان رجيم ووسواس خناس.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان التوقيت مناسبا لإعادة نشر فتوى سماحة الشيخ ابن جبرين –حفظه الله-؟ وهل كان التوقيت مناسبا للحديث عن خلافنا العقدي مع الشيعة وعن مخططاتهم – في غير مجالس العلم- وأي ثمرة تعود على الأمة من وراء ذلك؟
والجواب عن هذا السؤال يتطلب إعادة قراءة التاريخ لمعرفة فقه سلفنا الصالح في التعامل مع مثل هذه المواقف، فالذي يقرأ التاريخ يعرف أن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم كان لهم نظر ثاقب، وفقه الأولويات والمآلات لم يسطروه في مدوناتهم، ولكن سطروه في أرض الواقع بمواقفهم وجميل فعالهم، فالخليفة المأمون كان جهمياً معتزلياً، وكذلك المعتصم والواثق كانوا جهمية ضُلاَّلاً، ومع ذلك لم يفت أحد من أئمة الإسلام بعدم جواز الاقتداء بهم في الصلوات والقتال تحت رايتهم في الجهاد، فلم يفت أحد مثلاً بتحريم القتال مع المعتصم يوم عمورية، مع توافر الأئمة في ذلك الزمان كأمثال أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأضرابهم من كبار أئمة القرن الهجري الثالث. ولم نسمع أن أحداً منهم حرم التعامل مع أولئك القوم، أو منع الاقتداء بهم، أو القتال تحت رايتهم. فما أحوجنا أن نسير على درب سلفنا الصالح وأن نتأسى بهم..
والرجوع إلى عقيدة الولاء والبراء كان كافيا لحسم مادة النزاع حول هذا الأمر، فقد قرر العلماء أن الذي يجمع بين محاب الله ومساخطه يُوالى من وجه ويُعادى من وجه، فيوالى باعتبار أصل إيمانه وعلى قدر ما فيه من البر والطاعة، ويعادى على قدر ما فيه من الفجور أو البدعة، فالذين هم على بدعة في اعتقادهم لهم نصيب من الموالاة باعتبار أصل إيمانهم بالله ورسوله، فلا يسلمون إلى الكفار، ويغاثون عند الشدائد، ويدعى لهم بالهداية في الحياة، ويترحم عليهم بعد الممات، وباعتبار ما هم فيه من البدعة أو الضلال يحذر من بدعتهم، ولا يعانون في مقام يزدادون به قوة في نشر هذه البدعة وتمكنا من فتنة الناس بها. وفي جميع الأحوال يجب الحرص على عدم إغراء العداوة والبغضاء بين المنتسبين إلى القبلة في واقع حرج دقيق تمس الحاجة فيه إلى التآلف والمداراة وتراص الصفوف واجتماع الكلمة.
ولكن للأسف ميدان القول غير ميدان العمل، فمع أن القاعدة السابقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكن ما زلنا نتخبط، وبدلا من أن نخلص الدعاء وينشط كلٌ في ميدانه لإغاثة هذا الشعب المنكوب -الذي لم تأت قنابل الأعداء إلا على أطفاله ونسائه وشيوخه-، لم نسمع إلا جدلا لا ينقذ جريحا ولا يمسح دمعة على وجه طفل لم يستيقظ إلا على صوت القنابل وقد مزقت أجساد أمه وأبيه وإخوته!!
فهل آن الأوان أن تتفق الأمة على أجندة مشتركة تحدد فيها نقاط الالتقاء فنتشبث بها ومواطن الخلاف فنتركها للعلماء والحكماء – في مجالسهم الخاصة- فيحسموا مادة النزاع حولها، ولا نشغل عوام الناس بقضايا كلية أو جزئية تعجز عن استيعابها عقولهم، ولا نجني من وراء ذلك إلا مزيدا من الفرقة والشتات أم أن الكل معجب برأيه ويرى أن الحق المطلق معه، ويضيق صدره ويصم أذنيه عن سماع أصوات الآخرين، وأصبح شبه مستحيل أن نتفاهم أو نتفق على عمل مشترك أو برنامج مشترك.
وأخيرا إلى كل إخواني من طلاب العلم الشرعي وعلى رأسهم من أثاروا هذا الضجيج من طلاب الشيخ ابن جبرين أقول: لا شك أن تراث سلفنا الصالح مفخرة للأمة على مر العصور والأزمان، ولا غنى للأمة عنه، ونحن بحاجة ماسة إلى فهمه والوقوف عليه حتى نستفيد من جهود أسلافنا ونبني عليها، ولكن إذا كنا بحاجة إلى الوقوف على هذه الثروة الغالية فإن حاجتنا أشد إلى أن نملك أدوات التفكير التي بها يمكن فهم الواقع واستشراف المستقبل.
اللهم وحد صفوفنا واجمع على الحق كلمتنا، واستعملنا لنصرة دينك ولا تستبدل بنا.. اللهم آمين.