هي مغامرة لا ريب أن يُحاول المرء تعليق عنوان على جدار السنة الجديدة، إلا أن لديَّ أسباباً قوية للمجازفة بذلك، وترشيح كلمة "الخوف" لتكون ذلك العنوان، متمنياً على الله تعالى أن تُثبت الأيام بطلان هذه النبوءة.
لا أستطيع أن أذهب في المجازفة إلى حد تعميم العنوان على كل الأقطار العربية، ذلك أنني أزعم أن النشوة ستظل عنواناً للدول الخليجية النفطية؛ أولاً لأن شبح الضربة العسكرية الأمريكية لإيران تراجع أو تأجل، وثانياً لأن أسعار النفط لا يُتوقع لها أن تنخفض في الأجل القريب.
أزعم أيضاً أن القلق السياسي سيظل عنواناً لدول شمال إفريقيا، بسبب تزايد أنشطة الجماعات الإرهابية من جهة، وعدم الاستقرار السياسي من جهة ثانية. ورغم أن مظلة الخوف يُنتظر لها أن تُغطي مساحة الشرق بما يشمل السودان واليمن، ويتجلى في بقية الدول خصوصاً العراق ولبنان، فإن الأسباب القوية التي أشرت إليها قبل قليل تنسحب بصورة أوفى على بلدين أساسيين هما مصر وفلسطين؛ الأولى هي عاصمة العرب المركزية، والثانية هي قضية العرب المركزية، أو هكذا عرفنا الاثنتين على الأقل.
عام 2008 فيما يخص الشأن الفلسطيني أخطر بكثير، لأن الذي قد يحدث في مصر ـفي أسوأ فروضهـ يظل عرضاً يُصيب الجسم ويؤثر على عافيته ومناعته، في حين أن الذي يلوح في الأفق الفلسطيني هو خطر يُهدد الوجود ويُنذر بتصفية القضية بكاملها. ومن مفارقات الأقدار أن يبرز ذلك الخطر في العام السـتين للنكبـة الذي يحتفل فيه الكيان الصهيوني ليـس فقط بذكرى تأسـيـس الدولـة، وإنما أيضا بما حققته على صعيد طمـس آثار الجريمـة التي ارتكبتها.
أحدث محطات التصفية كانت مؤتمر (آنابوليس)، الذي دعت إليه الولايات المتحدة واشتركت فيه كل الدول العربية، إلى جانب ممثلي السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني بطبيعة الحال. وكان أسـوأ ما في ذلك المؤتمر أنه جعل "خريطـة الطريق" هي المرجعيـة الوحيدة لحل القضيـة، مسـتبعداً أيـة مرجعيـة أخرى بما في ذلك قرارات الأمم المتحدة والمبادرة العربيـة. ليـس ذلك فحسـب، وإنما نصت وثيقـة التفاهم التي أُعلنت أن الولايات المتحدة هي التي سـتُشـرف على تسـويـة القضيـة بين الطرفين. أي أن المرجعيـة سـتكون أمريكيـة والإشـراف على التطبيق كذلك، والمدهـش في الأمر أن كل الدول العربيـة كانت شـاهدة على ذلك.
بعد أيام قليلة من مؤتمر (آنابوليس) عُقد في باريس مؤتمر الدول المانحة التي وافقت على أن تُقدم إلى السلطة الفلسطينية أكثر من 7 مليارات دولار على ثلاث سنوات، بمعدل 2.5 مليار دولار كل سنة. وأخطر ما في ذلك المؤتمر أنـه تعامل مع القضيـة بحسـبانها مشـكلـة إقتصاديـة وأمنيـة، في تجاهلٍ تامٍ للاحتلال الذي هو جوهر الموضوع وأصل البلاء.
وبالتالي فإن المبالغ التي قُدمت للسلطة الوطنية أُريد لها أن تُمول المشروعات الاقتصادية وأن توفر احتياجات الأجهزة الأمنية، بدعوى التمهيد لإقامة الدولة الفلسطينية. ولكن الأمر ليـس بهذه البراءة، لأننا لا نحتاج إلى دليل لكي نعرف أن الولايات المتحدة أو الدول السـائرة في ركبها ما كانت حريصـة يوماً ما على تنميـة المجتمع الفلسـطيني ولا على أمنـه، والحصار الشـرس الذي فرضـه هؤلاء على الضفـة والقطاع بعد إعلان نتائج الانتخابات التشـريعيـة في أوائل عام 2006 يؤكد هذه الحقيقـة.
الهدف الحقيقي للتنميـة الموعودة هو محاولـة إنعاش الحالـة الاقتصاديـة في الضفـة لتحقيق أمرين: أولهما إلهاء الناس عن موضوع الاحتلال، وثانيهما تحويل الضفـة إلى منطقـة جذب تسـتوعب اللاجئين المشـردين في الخارج، على النحو الذي يُشـجعهم على صرف النظر عن حقهم في العودة إلى ديارهم التي طُردوا منها في عام 1948 أو 1967. أما الهدف الحقيقي لتعزيز قدرة الأجهزة الأمنيـة فهو تمكينها من القضاء على حركات المقاومـة الفلسـطينيـة، وذلك كلـه يصب بامتياز في المصلحـة الصهيونيـة.
في وثيقة التفاهم المشترك أن الطرفين تعهدا ببذل كل الجهد للتوصل إلى معاهدة سلام تكفل إقامة الدولتين الفلسطينية والصهيونية قبل نهاية عام 2008. وكانت تلك هي الجزرة التي صدقها أبو مازن حتى راح يُبشرنا بتحقيق الحلم في ذلك الأجل.
في حين أن الصهاينة عصفوا بذلك الحلم بعد أيام قليلة من انتهاء مؤتمر المانحين في باريس، فمن ناحية أُصيب المفاوضون الفلسطينيون بخيبة أمل حين أُبلغوا بتقويم أمريكي يقول إن السلطة في رام الله بحاجة إلى خمس سنوات على الأقل لتنفيذ الاستحقاقات الأمنية التي نصت عليها المرحلة الأولى من "خريطة الطريق"؛ (صحيفة الشرق الأوسط11/27)، ومن ناحية ثانية لأن حكومة الكيان الصهيوني أصدرت تعليماتها بالمُضي في مشروعاتها الاستيطانية، عبر بناء 730 بيتاً جديداً في جبل "أبو غنيم" ومستوطنة (معالي أدوميم).
وحين احتج الفلسطينيون المفاوضون على ذلك قائلين إنه تم الاتفاق في (آنابوليس) على وقف الاستيطان، فإن الجانب الصهيوني رفض كلامهم وقال إنه لا يوجد أي اتفاق على تجميد الاستيطان في القدس، التي هي العاصمة الأبدية للكيان الصهيوني. وذكر (رافي إيتان) وزير شؤون القدس أن بحوزة الكيان رسالة من الرئيس (بوش) تحتوي على ضمان بأن التجمعات الاستيطانية الكبيرة ستبقي بيد الكيان في أي مفاوضات.
وفي تصريحات صحفية اعتبر ممثلو السلطة في رام الله أن التوسع في الاستيطان يُجهض ما تم الاتفاق عليه في (آنابوليس) وهددوا بوقف التفاوض مع الجانب الصهيوني، بعدما فشلت ثلاثة لقاءات معه، أحدها بين أبو مازن و(أولمرت)، في الاستجابة للمطلب الفلسطيني. ولكن الصحف التي صدرت في 12/19 أعلنت تراجع الفلسطينيين عن مقاطعة المفاوضات، حيث أصبحوا بلا حيلة وليس أمامهم خيار آخر.
وتحدثت الصحف عن لقاء جديد بين الطرفين في الأسبوع المقبل يستمر فيه الجدل حول المستقبل، في حين يستمر الكيان الصهيوني في فرض الحقائق الجديدة على الأرض، محتمياً في ذلك برسالة الرئيس (بوش)، ومطمئناً إلى أن ميزان القوة العسكرية والسياسية في مصلحته.
فحين يسـتمر الكيان الصهيوني في التمدد على الأرض، ويسـكت الجميع على اسـتمرار الاحتلال، ويُغلق باب الحديث عن حق العودة، فما الذي يبقى من القضيـة!!؟؟
وحين يُسـلم الملف بالكامل للأمريكيين، فهل يكون ذلك سـبباً للاطمئنان أم باعثاً على الخوف!!؟؟
نقلاً عن جريدة الأهرام بتاريخ 01/01/2008
اقرأ أيضاً:
الحرية قبل الديمقراطية وليس بعدها/ هل نندم على الانسحاب من غزة؟