"الصّفاد" –بفتح الصاد وكسرها- مرض جديد... لم تكتشفه "الأعاجم" كما هي العادة؛ بل اكتشفه العرب هذه المرة، حيث نجحوا في توفير أكبر قدر ممكن من الطحالب اللولبية المتجرثمة التي تشكّل البيئة المواتية لنمو وتكاثر الفيروسات المسبّبة للمرض الذي ُأطلق عليه أسم "الصفاد"، وهو اختصار لكلمة "صداع الفساد"، ومرض "الصفاد" هو عبارة عن صداع حاد وقد يكون مزمناً؛
يبدأ عادة بما يشبه "دوار البحر" مع ألم خفيف في مفاصل الذهن وعضلات الوجدان، ويأخذ الألم بالزيادة حتى ُيصاب الإنسان بألم حارق لا ُيطاق، وذلك اللون من الصداع ُيصيب كل من يعيش في بيئة تصل فيها معدلات الفساد إلى مستويات عالية والتي يستحيل عندها إلى "نظام فساد مقنّن" يولّد ذاته تلقائياً ويعمل بشكل منتظم ويحمي نفسه بنفسه من دون تدخل من أحد.
ويشير علماء العرب المتخصصون في مرض "الصفاد" إلى أنهم استطاعوا تتبع وقياس كميات الفساد في المجتمعات العربية بوحدة "الفيمتو فساد" Femtocorruption –مع الاعتذار الشديد لـ "كيمياء الفيمتو" وأحمد زويل-، وقد أظهرت النتائج المخبرية والتجارب المعملية أن هناك تطوّراً دراماتيكياً للمرض "الصفاد"، فقد رصد الخبراء حالات متكاثرة تؤكد على نجاح "إلكترون الفساد" في الدوران حول نواة كل "معاملة /مناقصة ثقيلة" وذات قيمة، بل ُرصدت حالات متزايدة تبرهن على دورانه حول "معاملات المساكين" و"مناقصات الغلابة"...
ولعل من المثير للاستغراب أن الدول العربية خصّصت "أجهزة بيروقراطية" كبيرة من أجل اكتشاف حالات "الصفاد"، بل إن بعض الدول العربية بدأت بتبني "أنظمة الحكومة" في القوانين والإجراءات، ليس ذلك فقط فالدول العربية تجهد لأن تعتمد حزمة من الاتفاقيات القانونية والتي منها مشاريع: (الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد والقانون العربي الاسترشادي لمكافحة الفساد والقانون العربي الاسترشادي للتعاون القضائي الجنائي في المسائل الجنائية)، فضلاً عن تمكين الدول العربية لكافة مؤسسات مجتمعاتها المدنية من الكشف عن الفساد ومحاربته؛
ومع ذلك كله لم تعلن تلك الدول –عبر أجهزتها العظيمة- إلا عن حالات قليلة جداً ارتكبها بعض "المفسدين الصغار" المارقين عن أخلاق المجتمع... ليس ذلك هو ذنب الدول العربية، فهذا هو حجم "الفساد العربي"!!، وجلي بأن الحالات "المكتشفة" لا تبرّر بأي حال المصروفات الكبيرة على تلك الأجهزة البيروقراطية، وترتسم في ذاكرة الإنسان العربي صوراً كثيرة ُانتدب فيها بعض كبار الموظفين في تلك الأجهزة البيروقراطية من أجل التحقيق في قضية فساد صغيرة قد لا تعادل واحد بالألف من تكلفة ذلك الانتداب!
وغني عن الذكر أن تلك الأجهزة العربية لا تؤمن بالتعريف القانوني العالمي للفساد، كما تتبناه "منظمة الشفافية الدولية" –تمتلك فروعاً عاملة في أكثر من 100 دولة- والتي ترى بأن الفساد هو "سوء استغلال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية"، والتي تؤكد على أن حجم "الفساد العربي" يلامس 300 مليار دولار، أي ما يعادل 30% من حجم "الفساد العالمي" مع أن العرب لا يمثلون سوى ما نسبته 4,8% من عموم سكان الأرض؛
أما اقتصادهم فهو يشكّل فقط 3% تقريباً من حجم الاقتصاد العالمي... غير أنه "التميز الفاسد"، والأخطر من ذلك أن تلك المنظمة "تزعم" بأن الفساد هو الأشد خطراً على حركة النهضة والديموقراطية في العالم العربي... ومن ذا الذي يقول بأن "عالمنا العربي جاهز للديموقراطية... كلا فالشعوب لم تجهز بعد"، كما هو لسان حال ومقال الأنظمة العربية وبعض "المثقفين" العرب!!
وقد قام مجموعة من الباحثين العرب بإجراء دراسات مسحية لإعداد تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في العالم العربي في 2004م، وقد كشفت نتائج الدراسات التي أجريت في خمس دول عربية كبيرة أن 90% من العرب يعتقدون بأن الفساد السياسي والاقتصادي قد تفشى بشكل كبير، والتذمر الأساسي الذي يبديه الناس هو: "أن الناس الموجودون في السلطة يحتكرون القطاعات الاقتصادية الأساسية, سواء كان ذلك بشكل مباشر أو عن طريق شركاء من رجال الأعمال الناجحين" (كلفة الفساد في الوطن العربي وما وراءه، جون كولي كريستيان، ساينس مونيتور، ترجمة: قسم الترجمة في مركز الشرق العربي ، 29/10/2007).
وتشير التقديرات إلى أن المصابين من العرب بـ "الصفاد" في تزايد مستمر، وتتمثل أهم أعراض المرض بالآتي:
0 الشعور بـ "العتمة الذهنية" والتي يصاحبها انقباض غير مخطط في عضلات القلب وانكماش في "القفص الفكري" مع خمول متقطّع في الجهاز المعرفي.
0 الإصابة بـ "الاكتئاب الخانق" والذي يكون مصحوباً بنظرات سوداوية لكل المسئولين المتنفّذين والأغنياء الذين يستبدون بالسلطة ويجمعون الأموال ويراكمون الثروات بطرق بشعة وقوالب احتكارية وبلطجة مكشوفة أو غير مكشوفة، لاسيما أن الإنسان العربي لم تعد تنطلي عليه حيل المفسدين, لا الكبار ولا الصغار، الذين يتظاهرون بالصلاح والشرف والتواضع، بل يمارسون "صنعة" الإنفاق على أوجه الخير ويدعمون "برامج خدمة المجتمع"، إيماناً منهم بـ "المسئولية الاجتماعية"!
0 الرغبة في "القيء النفسي" –بغثيان وبدون غثيان- للتخلص من كل ما تحمله ذاكرة الإنسان العربي المتخمة بحالات الفساد التي رصدها دماغه طيلة السنوات التي كانت رئته تلفظ أنفاسها "الدائخة"!... ويتذكر مقولة موجعة –لعبد الرحمن منيف– "الذاكرة... لعنة الإنسان المشتهاة ولعبته الخطرة، إذ بمقدار ما تتيح له سفراً نحو الحرية، فإنها تصبح سجنه... وفي هذا السفر الدائم يعيد تشكيل العالم والرغبات والأوهام!!".
0 الشعور بالحاجة إلى "الفقد المؤقت للوعي"، فالإنسان العربي الذي يكابد الفساد في كل مكان يشعر بأن "وعيه" جحيم لا ُيطاق، مما يدفعه إلى الهروبية النفسية والانقطاع عن واقعه، والأخطر حين يتحول ذلك إلى قطيعة مزمنة.
0 "القلق المطبق"، حيث ُيصاب الإنسان العربي بنوع قاتل من الخوف من مصادر تهديد متنوعة، معروفة له وغير معروفة، داخلية وخارجية، آنية ومستقبلية.
0 "التشاؤم المعمّم"، حيث يكسو التشاؤم الثقيل نظرات الإنسان العربي وتقييماته للخطط والبرامج والمشاريع، حتى تلك التي تتوفر على بعض المؤشرات الإيجابية.
0 "التشكيك المطلق"، فلا يكاد الإنسان العربي يثق بشيء حوله، لاسيما ما يتعلق بالإطار الرسمي بأي شكل كان، حتى لو كانت الوعود من النوع الثقيل، عدا حالات قليلة يشعر بأن ثمة طرفاً خارجياً / دولياً في هذا المشروع أو ذاك، بصفته شريكاً أو ممولاً أو مستثمراً أو مستغلاً!
0 "الكذب القهري"، حيث يشعر الإنسان العربي بأنه ُيدفع إلى الكذب "الأبيض أو الأسود" في كل صغيرة وكبيرة، بل إنه يُراد له أن يغتال صدقيته للحصول على حقوقه الأساسية التي يكفلها له القانون والدستور، إن كان ثمة قانون أو دستور!
0 "الإحباط المؤلم"، فالإنسان العربي يشعر بأن طموحه مقعد وأن همته مصابة بحالة تشبه الشلل، حتى لو كان مجال عمله وإنتاجه بعيداً نوعاً ما عن الفساد الكبير، فرشقات الفساد تكاد تطال كل أحد.
0 "السفر الوجداني" عبر لحظات مرتبكة يشعر فيها الإنسان العربي باختلاجات غريبة وتموجات نفسية تطوّح به بعيداً عن سربه... حيث يمتزج خياله الجميل بواقعه البئيس، مما يجدّد حالات الشرود والنفور من كل ما يذكّره بمجتمعه، بما في ذلك الرغبة بالسفر إلى حيث لا يعلم – ربما إلى "كوستاريكا" مثلاً! -
ذكرت المجلة العلمية المتخصصة بالصفاد "صفاد ريفيو" في العدد العاشر من السنة الأولى أن العلماء العرب قد خلصوا إلى نتائج هامة بخصوص المقياس المعتمد والموحّد للصفاد، حيث أبان البحث أن الصفاد يُقاس بجهاز تشخيصي مبسّط، وُيعطي هذا الجهاز قراءةً عشريةً، أي من واحد إلى عشرة، وقد اختار العلماء "المقياس العشري" بسبب أن أعراض المرض هي عشرة بالتمام والكمال؛
مما يجعل الإنسان العربي "المصفود" يقيس درجة إصابته بالمرض بشكل ميسّر وسريع، من خلال التعرف على الأعراض التي يجدها في نفسه، فإن وجد -مثلاً- تسعة أعراض، فإن ذلك يعني أنه ُمصاب بالصفاد من الدرجة التاسعة، وُيرمز لها اختصاراً بـ (ص 9)، علماً بأن التقديرات الأولية لمتوسط الصفاد في العالم العربي تشير إلى أنه قد يصل إلى (ص 7) في بعض المناطق و(ص4) في مناطق أخرى، وثمة نتيجة أخرى أدهشت العلماء حيث وقف بعضهم –بشكل سري- على نتائج تحليل عينة لبعض "كبار المفسدين" فوجدوا أنها بالسالب وبالضبط كانت (ص -8)...!!
وتفيد بعض التقارير الإخبارية بأن بعض العرب وخصوصاً من الفئات الشابة بدءوا يشيرون بأصابع أيديهم حين يوجّه إليهم السؤال التقليدي: كيف هي الأحوال؟... فبعضم يضع قبالة وجهك سبعة أصابع، أما البعض الآخر فيضغط بكلتا يديه إلى الأمام ولعدة مرات!!... ويتساءل العلماء في حيرة منهجية: هل يوجد ثبات في النتائج على مستوى الشخص الواحد أم أن هناك إمكانية لتذبذب النتائج؟ ولماذا؟ وما هي العوامل المؤثرة؟ وكيف يمكن التحكم بها؟
عثر بعض العلماء على قصاصات ورقية تعود لأسئلة امتحانات في إحدى المدارس العربية، جاء في إحداها السؤال التالي: أشرح مع التعليل والتمثيل العبارة التالية: "أنا مصفود، إذن أنا مهدور"، في حين وجدوا سؤالاً مشابهاً في منطقة عربية أخرى يتمحور حول عبارة تقول: "أنا مصفود، إذن أنا مقهور"... ووجدوا في منطقة ثالثة سؤالاً ُرصدت له درجة عالية ُيطالب بعقد مقارنة تحليلية بين العبارتين السابقتين مع إعطاء أمثلة واقعية.
وسيقوم العلماء بتحليل عينة من إجابات الطلاب للخلوص إلى نتائج ُيتوقع أن تكون ذات دلالة هامة في فهم خارطة الصفاد في العالم العربي.. وقد تسربت أخبار أن بعض الطلاب أشاروا في معرض إجابتهم إلى أطروحة الدكتور مصطفى حجازي حول "الإنسان المهدور" و"الإنسان المقهور"، في حين ذكر بعضهم نصاً يقول: (تعمل آليات القهر على ترسيخ مفاهيم الإذعان والخنوع في وجدان الإنسان المقهور من أجل شل حركته المضادة، كما تعمل حالة الشعور بالتهديد المتواصل وعدم الاستقرار إلى جعل الإنسان المقهور في موقف الدفاع الدائم والحذر الشديد من أي شيء يمت بصلة إلى السلطة) وأرجع الطالب ذلك النص إلى كتاب بعنوان: (سلطة الاستبداد والمجتمع المقهور لمؤلفه صاحب الربيعي)!
وتناقلت وكالات التحليل الاجتماعي ومراصد التشخيص الثقافي أخباراً مؤكدة ُتفيد بأن كثيراً من "خبراء الفساد" في العالم العربي وجّهوا دعوات تحذير مباشرة وغير مباشرة لكل من يستجلب طحالب الفساد ويوفّر مقومات تكاثر فيروساته في البيئة العربية وشدّدوا على أن الاستمرار في إهمال المرض الجديد وعدم المسارعة في البحث عن المواد والتركيبة اللازمة لتصنيع "نصل الإصلاح" –تفكيك الفساد سلمياً- سيؤدي إلى استفحال المرض وتحوله إلى حالة يسميها العلماء بـ "الجفاد" –بفتح الجيم وكسرها- أي "جنون الفساد"، حينها سُتصاب الرؤوس بحالة من الهستيريا التي قد تذهب بالعقلانية وتعيد "تثوير" الأذهان وبرامج الإصلاح؛ بما يؤدي إلى إرباك الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بكل ما تحمله من تهديدات قد تقوّض عرى الوحدة الوطنية/العربية وتمس بالأمن الوطني/القومي... في أوضاع تشابه ما يحصل في "جنون البقر"!!
وتذهب آخر النتائج إلى أن "الجفاد" يمتاز بالسرعة من حيث الانتشار، فهو لا ينتقل بشكل أفقي فقط، بل يمتلك خاصية الانتشار الرأسي عبر متواليات هندسية، الأمر الذي يجعل الخبراء يجمعون على أن آثاره سريعة ومدمرة ومخيفة... مما يجعلنا –كما يعبر أحد المثقفين العرب– نقول لكبار المفسدين: "كفاية.. ولو من أجل عيون أجيال ستأتي إلى الدنيا فتكتشف أننا الجراد الذي أكل الأخضر واليابس، ولم يبق لها سوى المجاعة والشقاء والعار" (محمد صادق دياب، الشرق الأوسط 6/7/2006).
لقد أصبح مرض "الصفاد" له شعبية كبيرة في رؤوس العرب، فالخبراء يقطعون بأنه لا يكاد يسلم منه رأس عربي، صغير أو كبير، متعلم أو أمي، والأهم من ذلك أن "الصفاد" يجعل العربي يدرك بأن الفساد الذي "يدوّخ" رأس نهضتهم ويهز عمود تقدمهم هو "فساد الكبار"؛
فالواحد منهم ينفق مليون أو عشرة ملايين "عربوش" –العملة العربية غير الموحّدة للفساد– بعد أن "يبتلع" مليارات "العرابيش"!... وهم -أي الكبار- وحدهم من يمتلكون القدرة على "تطوير" الفساد العربي وتحويله إلى "نظام فساد مقنّن" يولّد ذاته تلقائياً ويعمل بشكل منتظم ويحمي نفسه بنفسه من دون تدخل من أحد... أحسبكم تشعرون معي بأعراض "الصفاد"...!
والفقه الذي نحتاجه اليوم هو "فقه الفساد"، وهو "العلم" الذي به ُيصار إلى فهم أعمق لتركيبة الفساد وتحليل أدق لنظامه المقنن التلقائي بمؤسساته ورموزه وقواميسه وشفراته وتقنياته؛ عبر "نماذج تفسيرية" في ضوء ثقافتنا العربية؛ ُ
بغية التعرف على المفاصل التي يمكن الولوج منها لتفكيكه سلمياً، وأحسب أن خطوة الألف ميل في هذا المسعى النبيل تبدأ بأن يدون كل قطر عربي مظاهر الفساد ورموزه وآثاره، فالتدوين التفصيلي المنهجي هو بداية معركتنا الصعبة ضد "الصفاد"... نعم قد حان وقت تأسيس علم جديد، نقطع بأن النهضة العربية لن تتحرك من دون الاستعانة بأدواته المنهجية ونتائجه التطبيقية وهو "فقه الفساد"؛
مع ما يتطلبه ذلك التأسيس المنهجي من الإفادة الذكية من الأوضاع والتجارب الدولية المشابهة... ولعل بعضكم يعلق جرس البدء للحيلولة دون تحوّل "الصفاد" إلى المرض القاتل، أعني "الجفاد"!!!
واقرأ أيضًا:
السنة والشيعة ومفهوم الأمة الواحدة/ متى نشخِّص الثقافة؟/ القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية!/ حوار مع السيد العلامة: محمد حسين فضل الله/ وعينا متوعك!!/ المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون!/ ما وراء (التشخيص الثقافي)!/ الثقافة العربية المعاصرة.. (ثقافة قلقة)!/ أسئلة حول (الثقافة القلقة)!/ سمات عَشْر للثقافة القلقة!/ حول مكاشفات فضل الله/ مستقبلنا يخاطبنا يجب أن تكونوا عقلانيين ومتسامحين/ الممارسات الرديئة وفصل الدين عن العلم!/ خرافة المفكر - الروائي - الفنان (العالمي)!/ الهجرة نحو (الإنجليزي)... تهديد الهوية (2/2)!/ هل حقاً يمكننا فصل الدين عن العلم؟