سحرة فرعون:
عرض الأستاذ الفاضل خالد السرجاني على صفحات الدستور على مدى حلقتين لحالات أطلق عليها "حالات نفسية" في الوسط الصحفي المصري تمثل تشوهات بشرية وانحرافات مهنية واستغلال للسلطة في مجال تكمن أهميته في أنه مصدر تشكيل الوعي والضمير ومصدر التوجيه للعقول ومصدر الرصد والتنوير للمجتمع، وطالب المتخصصين في العلوم النفسية بتفسير تلك الحالات أو التعليق عليها. وللإيجاز نجمل الحالات في:
0 صحفية تخلو من أي موهبة مهنية تتصدى للكتابة تحت سقف حماية من زوجها
0 صحفي لا يكتب مقالاته بل تكتب له
0 كتبة ينتمون للجنة السياسات ويكتبون في كل الصحف كتابة خشبية تخلو من الأفكار، ولكنهم مفروضون على الناس فرضا بقوة وهيمنة لجنة السياسات
0 كتّاب عينوا في مناصب صحفية مهمة وهم ليسوا أهلا لها ومع ذلك اعتلوا كراسي صحفية كان يجلس عليها عمالقة الفكر والأدب في يوم من الأيام، ولا يوجد تفسير لوجودهم في هذه المناصب الحساسة غير أنهم على ولاء لجهات معينة
0 كتّاب عابرون يكتبون في كل الصحف (القومية والمستقلة والحزبية) ويلونون كتاباتهم حسب مزاج الجريدة التي يكتبون فيها: وهم على ثلاثة أقسام: قسم يسعى للتواجد في كل المنابر استعدادا لاقتناص فرصة وظيفية عليا، وقسم متنطع يعرض نفسه على كل الصحف لمجرد الظهور، وقسم من الكتّاب المطلوبين بسبب عمق أفكارهم أو سلاسة أسلوبهم أو طرافة ما يكتبون ولكنهم أصبحوا متاحين في جميع الصحف أكثر من اللازم لدرجة جعلت القرّاء يزهدونهم، وهم في سبيل البقاء والانتشار طول الوقت يستسهلون ويكتبون أي شيء بل ربما يعاودون نشر المقالات نفسها التي نشرت من قبل.
وهذه الحالات لا تصنف على أنها أمراض نفسية بالمعنى الطبي ولكنها أقرب إلى التشوهات النفسية، وبعضها ربما يوضع تحت مظلة اضطرابات الشخصية.
فنحن مع هذه النماذج أمام احتماءات بأسقف عائلية أو أسقف سياسية أو أسقف أمنية، وأمام حالات انتهازية براجماتية، وأمام نماذج من الشخصيات الاستعراضية الأنانية النرجسية الهشة التي تبحث عن الشهرة وعن البريق وعن الأضواء بأي ثمن وتركب قطار الصحافة للوصول إلى أطماعها دون أن يكون لديها بضاعة صحفية أو فكرية حقيقية توصلها للناس.
ونظرا لتنامي قوة الإعلام وهيمنته اندفع كثيرون من الناس لاعتلائه، وأصبح مسرحا تظهر عليه كل الكفاءات والمواهب من ناحية وتظهر عليه أيضا كل النقائص والتشوهات والأطماع البشرية، وهو عاكس بدرجة كبيرة لكل مواصفات المجتمع السلبية والإيجابية يراها ويحسها المتابع للنشاط الإعلامي بشكل واضح نظرا للضوء المسلط عليها بقوة.
وجانب من الصحفيين والإعلاميين عموما يشكلون ما يشبه سحرة فرعون الذين سحروا أعين الناس واسترهبوهم، فهم يقومون بترويج أفكار حزبية أو الدفاع عن ممارسات معينة أو اللعب بالعقول وفي العقول أو تزييف الوعي أو تضخيم الإنجازات أو تهوين الأخطاء. وهذه الشخصيات غالبا تفتقر إلى الموهبة وتعرف أنها لن تصل إلى الشهرة والقوة عبر العمل الجاد المثابر، لذلك تعوض نقص الموهبة ونقص القدرة بالتقرب إلى السلطة (أي سلطة) وإعلان الولاء المطلق والوعد بتنفيذ المطلوب، ومن هنا يأخذ شرعية سلطوية وليس شرعية مهنية.
وللأسف الشديد أصبحت تعيينات صحفية كثيرة تتم بناءا على معايير الولاء ولهذا جاءت بأشخاص تتضاءل قاماتهم أن تصل إلى أرجل الكراسي التي يجلسون عليها، تلك الكراسي التي جلس عليها هيكل وأحمد بهاء الدين ومحمد التابعي وطه حسين وتوفيق الحكيم ومصطفى أمين وعلي أمين وغيرهم.
وهذه الفئة المتسلقة المحتمية بالسلطة والمستقوية بها تشكل نواة يتجمع حولها الطامعين والانتهازيين -وهم كثر في مجتمعنا الحالي– فتكبر الكتلة يوما بعد يوم حتى لتكاد تبتلع الصحافة وتضيق المساحة على أساتذة عظام في الصحافة وصحفيون شباب يفيضون بالحيوية والموهبة.
أما الكتّاب العابرون الذين يركبون الحصان الصحفي للوصول إلى المناصب فهم يستغلون المناخ العام الذي لا يلقي بالا للعلماء والمثقفين والمتخصصين الحقيقيين وينخدع بالطبّالين وأصحاب الأقلام الملونة والكلمات البرّاقة والأكاذيب المعسولة.
وهؤلاء المتلونين يفتقدون لأي رؤية سياسية أو اجتماعية أو ثقافية ، وكل ما يفعلونه هو إرضاء الزبون وخداع المستهلك، فلا توجد لديهم عقيدة أو قاعدة فكرية ينطلقون منها بقدر ما توجد لديهم شراهة هائلة في نشر صورهم وآرائهم على صفحات الصحف والمجلات ثم استدعائهم بعد ذلك على شاشات الفضائيات ليقولوا كلاما سطحيا مستهلكا يغيرونه من قناة لقناة حسب المزاج العام للمكان الذي يتواجدون فيه، فهم أشبه بجرسون في مقهى أو كوفي شوب يقدم للزبائن ما يروقهم وعينه في النهاية على رضا صاحب المحل وعلى البقشيش يتقاضاه من الزبائن.
وفي هذا الجو غاب المفكرون والمبدعون أو تواروا خلف أكوام من المتسلقين والانتهازيين والمنتفعين والمستأجرين والباحثين عن الشهرة والتوّاقين إلى الوظائف العليا والسفلى.
من الصحافة إلى المجتمع الأوسع:
وقد نظلم الصحافة إن قلنا أنها وحدها تعيش هذه الأزمة بل المجتمع كله يعيشها، ففي كل مكان تجد نوعيات غير مؤهلة وغير موهوبة تصدرت الصورة واعتلت المراكز القيادية وسحبت معها أمثالها وسدت الطريق على المؤهلين والموهوبين الحقيقيين فهربوا خارج البلاد، وبعضهم عاش يجتر إحباطاته وأحزانه، والبعض الآخر انتحر، وفريق رابع قرر أن يعيش في المجتمع بنفس قوانين اللعبة فتنازل عن كل مبادئه ومواهبه وقدراته الحقيقية وتدرب على أدوات اللعبة الجديدة حتى تمكن منها ودخل في المنظومة القائمة بشروطها التي كان يرفضها في يوم من الأيام فتشوه وأصبح مستعدا لأن يشوه غيره، وهكذا تتسع دوائر الفساد والإفساد وتتمكن مع كل شخص غير مؤهل يعتلي منصبا لا يستحقه.
أزمة الأنا الأعلى:
وبلغة علم النفس التحليلي نقول أنه يكمن وراء كل هذه التشوهات والأعراض مرض خطير أصاب "الأنا الأعلى" للتركيبة النفسية، وهو ما يطلق عليه مجازا الضمير، ذلك الضمير الذي يوجد في أعماق النفس وهو بمثابة رادار كاشف للصواب والخطأ وما يصح ومالا يصح والحلال والحرام، هو منبع الميزان الأخلاقي السليم، هو البوصلة الهادية للسلوك. فنحن لدينا أزمة في الضمير العام (الأنا الأعلى) جعلت هذا الضمير يتقبل الغش في الامتحانات ويتقبل تزوير الانتخابات ويتقبل الرشوة ويتقبل الانتهازية ويتقبل النفاق ويتقبل الكذب.
ومن كثرة ما تلوث الضمير أصبح فاقدا للرؤية وفاقدا للقدرة على التمييز بين الصح والخطأ، وكأن برنامج ذلك الضمير أصابه فيروس أفسد ملفاته فأصبح يعمل بطريقة مشوهة، وقد انتشر هذا الفيروس بحيث لا يكاد ينجو منه إلا القليلون من البشر الذين احتفظوا بقدرتهم على الرؤية ولكنهم مع ذلك يعانون بشدة في كل لحظة لأنهم يتألمون لما يجري لبلدهم ولأهلهم وناسهم ويصرخون طالبين الإصلاح، ولكن الضمير العام المريض لا يشعر بجدوى ذلك أو ضرورته وإذا شعر لا يستجيب، ولهذا تضيع دعوات الإصلاحيين في الهواء.
وهناك علاقة عكسية بين نشاط الأنا الأعلى (الضمير) وبين الهو (مركز الرغبات والدوافع، وأهمها الجنس والعدوان) ومن هنا نشطت الدوافع والرغبات البدائية والنزوية في المجتمع وأصبح كل شخص يبحث عن الوسائل التي تحقق له إشباع هذه الدوافع البدائية بصرف النظر عن مشروعيتها، وإذا فشل أو عجز عن ذلك انفجر عدوانه سبا أو دفعا أو سرقة أو قتلا. وهناك جزء ثالث في التركيبة النفسية يحاول أن يوجد صيغة توازن بين الأنا الأعلى وبين الهو، ذلك الجزء يطلق عليه "الأنا" وهو الجزء المتعقل في التركيبة النفسية لأته جزء منطقي عملي محايد وموضوعي، فهو يخفف من تعصبات وتحكمات الأنا الأعلى (الأخلاقية والقيمية) حين تشتد، ويضبط إيقاع الهو (المليء بالغرائز والرغبات)، ويوفق بينهما وبين احتياجات الواقع.
والضمير الشخصي يتكون على مراحل فيبدأ كضمير تقليدي يتبع ما عليه الأب والأم من قانون أخلاقي، ثم ضمير استدماجي يستدمج المبادئ التي تعلمها من الوالدين ومن رموز المجتمع (المدرس والواعظ والقادة الاجتماعيون)، ثم ضمير مستقل يبدأ تشكله في مرحلة المراهقة ويستكمل بناؤه عبر مراحل العمر.
أما الضمير الجمعي (العام) فهو يتشكل من عدة روافد أهمها المرجعيات الدينية والقواعد الأخلاقية السائدة والمتوارثة وسلوك النخبة. وتبدوا أهمية سلوك النخبة في أنه يستوعب المرجعيات والقواعد الموروثة ويخرجها في صورة فعل يومي حي، ولهذا تلعب النخبة في أي مجتمع دور الضبط والتوجيه والتصحيح واستعادة الوعي.
والخطر كل الخطر أن تتلوث النخبة أو يتم احتواؤها في منظومات انتهازية أو تتم رشوتها أو تشويهها أو شراؤها أو ترهيبها أو قمعها، ولو حدث هذا فإن المجتمع يعيش بلا ضمير أو بضمير مشوه، وهنا يغيب الدور الضابط لهذا الضمير على النزعات والشهوات والرغبات والاحتياجات فنراها تسرح في جنبات المجتمع وتنتشر بشكل سرطاني وتتوالد بسرعة مخيفة، وننظر يمينا ويسارا نبحث عن مخرج، وتتعدد التفسيرات والتنظيرات، ثم نكتشف أننا نسينا أن نصلح "الأنا الأعلى" وتلهينا بأعراض المرض عن المرض ذاته فندور في حلقات مفرغة تصيبنا باليأس فنستسلم للأمر الواقع أو يدمر بعضنا البعض في معركة البقاء وفي التصارع على المكاسب وتحقيق الرغبات وإشباع النزوات.
وفي محاولة للتغطية على ضعف الأنا الأعلى (الضمير العام) ومرضه نجد محاولات للتدين السطحي أو التدين المغشوش أو التدين الناقص أو التدين المشوه أو التدين الانتهازي، وهذا يجعلنا نستغرب هذا التناقض بين انتشار مظاهر التدين وانتشار الفساد أيض في ذات الوقت.
وقد يطفو على السطح من آن لآخر موجات أنا أعلى متشدد أو متطرف كرد فعل على الأنا الأعلى الضعيف أو المريض، وهنا تحدث هزات ومواجهات تنتهي بخسائر على الجانبين، وتصبح الأمور أكثر سوءا.
ترمومتر الضمير العام:
إذا أردت أن تعرف مدى صحة أو مرض الضمير العام في أي مجتمع إبحث عن معايير الصدق والكذب في هذا المجتمع، فإذا وجدت الصدق قيمة محترمة في هذا المجتمع فستجد بقية المنظومة الأخلاقية منضبطة وصحيحة، أما إذا وجدت الكذب ينتشر على لسان النخبة وعلى لسان العوام فاعلم أنك أمام ضمير عام مريض وربما ميت.
وينبني على الكذب ممارسات كثيرة تؤكد مرض الضمير العام أهمها الغش والتزوير، وهما يتمثلان بشكل واضح في الغش في الامتحانات وتزوير الانتخابات، وهذا لا ينفي أو يقلل من أهمية الغش في البضاعة والغش في البيع والشراء وتزوير الأوراق الرسمية وغير الرسمية. وتأتي الفروع الناتجة عن الكذب في صورة خداع واحتيال ونصب واغتصاب وبحث عن المغانم من أقصر طريق وبدون جهد، وغياب الإتقان، وشيوع قيم الفهلوة واللف والدوران.
وحين يتدهور الضمير العام تتدهور معه كل القيم والأخلاقيات، ويهبط الذوق العام، ويسود القبح في كل شيء، وتهبط لغة الشارع (لاحظ انتشار كلمات مثل: زبالة ومعفن في المجتمع المصري هذه الأيام)، ويهبط مستوى الفن (الأغاني الهابطة والكلمات السوقية والألحان الفجة).
وحين يتدهور الضمير العام تجد إهمالا متعمدا لحصتي الدين والتربية الفنية، إذ تقل أهمية القيم الدينية وتقل أهمية الذوقيات والجماليات
انهيار محضنيّ الضمير العام:
الأسرة والمدرسة هما مصدريّ ومحضنيّ الضمير الشخصي، وهما اللذان يجددان منظومة الضمير العام، وفي المجتمع المصري تعاني الأسرة مشكلات هائلة تجعل قدرتها على زرع الضمير ورعايته مهتزة إلى درجة كبيرة، فالأب إما مسافر يبحث عن لقمة العيش ويأتي على فترات متباعدة، وإما موجود ولكنه مستهلك في عدة أعمال مرهقة ولساعات طويلة للحصول على الحد الأدنى من احتياجات أسرته، وبالتالي ليس لديه وقت أو طاقة أو صفاء ذهن ليجلس مع أبنائه يزرع في نفوسهم الضمير، والأم كذلك مرهقة بأدوار متعددة تجعلها في حالة زهق وإعياء طول الوقت ولا تقوى على التفرغ للدور التربوي السليم، والأبناء يعيش كل منهم في جزيرة منفصلة أما كومبيوتر أو تليفزيون أو يسهر مع أصدقائه في الشارع حتى الصباح.
والمدرسة قد فقدت دورها التربوي تماما وهي على وشك لأن تفقد دورها التعليمي بعد أن انتقل التعليم إلى الدروس الخصوصية في الغرف المغلقة فوق أسطح المنازل أو البدرومات أو الشقق المفروشة، ولم يعد المدرس قدوة كما كان.
وفقد هذين المصدرين والمحضنين للضمير الشخصي يحرم الضمير العام من روافده الأساسية ويجعله عرضة للانهيار.
شيخوخة الضمير:
وعلى الرغم من أن مصر قد شهدت فجر الضمير، إلا أن أعراض الشيخوخة تبدو واضحة على الضمير المصري العام، وذلك مرتبط بشيخوخة السلطة وإصرارها الممل على البقاء بكل رموزها، فجرى عليها قانون الركود والجمود، وسرى في أوصالها السوس، ولم تفلح عمليات التجميل وصبغ الشعر وإيقاف الزمن وتزييف الواقع، لم تفلح كلها في إنقاذ الضمير الذي ترهل وشاخ وامتلأ بالثقوب التي تتسع يوما بعد يوم ليمر منها كل أنواع الفساد. وقد جالت في خاطري معاني شيخوخة الضمير المصري وأنا أزور بعض الدول الأوروبية، وأرى فيها عمليات تجدد الضمير مع كل انتخابات تأتي بقيادات شابة ومتجددة تمنح الضمير دماء نظيفة، ولا تكتفي بتغيير الشعارات أو الإيهام بالإصلاحات التي لا تأتي أبدا.
وشيخوخة الضمير لا تصيب فقط رموز السلطة المتشبثة بالكراسي لسنوات طويلة ومملة ولكن تصيب أيضا القاعدة الشعبية التي اعتادت الانحناء والخضوع فلم تعد قادرة على الإحساس بالخطأ أو الانحراف، فهي ترى أمامها كل عوامل الفساد والتردي وربما تشكو سوء الأحوال ليل نهار، ولكنها لا تستطيع أن ترفع رأسها وتقول أي شيء، وهنا يصدق عليهم قول الشاعر:
خمســون عامــاً أنحنـي
منــذ كنتُ يومــاً سيــدي
طفــــل رضيـــع
والآن تأمــرني لأرفـــع هامتــي
فبكــل أســف سيــــدي
لــــن أستطيـــع
والدليل على هذه الحالة من ضعف الضمير العام لدى عامة الشعب هو رؤيتهم للغش في الامتحانات وتزوير الانتخابات دون أن يفعلوا أي شيء لمنع ذلك، بل إنهم يتورطون في ذلك ويشاركون فيه بهمة ونشاط ويعتبرونه شيئا عاديا.
وقد نرى الفرق واضحا بعد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، واعتقاد الجماهير بأن ثمة شبهة تزوير في الانتخابات لصالح أحمدي نجاد، وهنا هبت الجماهير وخرجت إلى الشارع غاضبة لأن ضميرها العام لم يحتمل وجود تزوير أو حتى شبهة تزوير في الانتخابات.
هل من أمل:
هناك يائسون كثيرون من إمكانية انصلاح الأحوال في مصر، خاصة حين يرون أن النخبة الحاكمة وعموم الشعب متورطون جميعا في الأخطاء الناجمة عن ضعف الضمير العام، ولا توجد أية بوادر حقيقية للإصلاح، وإنما ما يجري هو أشبه بعملية "قلب الياقة" (وهي عملية يقوم بها الترزية والخياطون حين يهترئ وجه ياقة القميص فيقلبونها على الوجه الآخر لإطالة عمر القميص)، ومسرحية التوريث تقترب من فصولها الأخيرة مع عمليات تغطية وتمويه مكشوفة للجميع ولكنها مستمرة، والانشغال بنجاح تلك المسرحية يحظى بأولوية الاهتمامات بحيث لا يتبقى للتفكير في الإصلاح أي شيء.
وإذا نجحت مسرحية التوريث فإن المصريين يكونون أمام أربعين سنة أخرى من نفس أسلوب الحكم والحياة، بينما تتغير الدنيا حولهم وتتبدل وتتطور، وهنا يتحسس كل مصري قفاه، ويمشي منكسا، فقد عاد للوراء حيث النظام الملكي الذي توهم أن الثورة أنقذته منه.
وفقد الجميع الثقة في بعضهم وفي كل شيء، وأصبحت النتيجة كراهية بين الناس، وحالة إحباط وغضب شديدين ينفجران لأتفه سبب وينتج عنهما جرائم قتل بشعة ومتكررة، وربما تتجه حتى إلى أفراد الأسرة فيكون الجاني والضحية من نفس البيت، ويزداد العنف البيني حدة وتوحشا ويتحول إلى ظاهرة عنف مجتمعي يتزايد يوما بعد يوم، باختصار أصبح الناس يأكلون بعضهم البعض بعد أن كرهوا بعضهم وكرهوا أنفسهم.
إذن هل هناك مخرج وسط هذا الوضع الصعب، وهل هناك فرصة لإنقاذ ما تبقى من الضمير العام ومحاولة إحيائه قبل أن يموت؟
نعم ولكن بشرط أن تصحو النخبة الفكرية من العلماء والمثقفين والقادة الدينيين والاجتماعيين ممن عرف عنهم نقاء السيرة والمسيرة وصدق النوايا والتوجهات والانتماء الصادق للوطن والتفاني في خدمته، ويبدأ هؤلاء جميعا في الدعوة لشيء واحد وهو إصلاح الضمير العام (الأنا الأعلى) لدى الجميع، وتسليط الضوء على كل مظاهر الكذب والتزييف والخداع، واعتبار الغش في الامتحانات وتزوير الانتخابات خيانات عظمى لهذا الوطن لا تسقط بالتقادم بل تسقط الهيبة والشرف عن مرتكبيها وتجعلهم في قائمة سوداء لا ينساها الجميع بل يلاحقهم أدبيا وقانونيا حتى يهدر هيبتهم ويكشف خيانتهم للأمانة.
ولكن هذه النواة من النخبة قد تواجه مشكلات في تكوينها وفي إمكانية استمرارها، وستجري محاولات لإجهاضها واختراقها وتفتيتها أو قمعها، فإذا حدث ذلك ولم تتمكن هذه النخبة الشريفة والمخلصة من إنقاذ الضمير العام وبالتالي إنقاذ الوطن فقل على الدنيا السلام وانتظر احتمالات عشوائية للتغيير قد تأتي باحتمالات أشد سوءا. نسأل الله أن يحفظنا ويحفظ مصر من كل سوء، ويهدي الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يظنون (أو يوهموننا) أنهم يحسنون صنعا.
واقرأ أيضا:
لو لم أكن مصريا... لحمدت الله على ذلك / انتبه من فضلك: الجرّار يرجع إلى الخلف / بيّاع مصر يصيبنا بالنكد على بحيرة جنيف / حدوتة قبل الموت