أسبانيا من مصارعة الثيران إلى مصارعة الاستبداد والفقر(1)
أسبانيا من مصارعة الثيران إلى مصارعة الاستبداد والفقر
كيف نهضت أسبانيا من كبوتها
عاشت أسبانيا فترة حرب أهلية طاحنة انتهت عام 1939م ومنذ ذلك الحين حكمها الجنرال "فرانكو" حكما عسكريا استبداديا شموليا،وظل متشبثا بالسلطة حتى ضاق الناس به وملوا وجوده إلى أن مات عام 1975م،وفي فترة حكمه عانت أسبانيا من الاستبداد والفقر والتخلف والفساد الإداري والاجتماعي بكل ألوانه،وكان الناس قد يئسوا من الخلاص منه ويئسوا بالتالي من إنصلاح أحوالهم وعاشوا سنوات طويلة من القهر.
وفي عام 1978م (أي بعد ثلاث سنوات من موت الدكتاتور المستبد) تم التحول الديموقراطي حيث وضع دستورا جديدا أصبحت إسبانيا بموجبه دولة قانون اجتماعية وديمقراطية تحت نظام ملكي برلماني. والملك منصبه فخري،ورئيس الوزراء هو الحاكم الفعلي للبلاد. البرلمان الإسباني (Cortes Generales) مقسم إلى مجلسين واحد للأعيان (Senado) وعدد أعضاءه يبلغ 259 عينا وآخر للنواب (Congreso de los Diputados) وعدد أعضاءه يبلغ 350 نائبا.
ينتخب الأخير مباشرة من الشعب كل 4 سنوات، بينما يعين 51 عضو من مجلس الأعيان وينتخب الباقون من الشعب أيضاً. رئيس الوزراء والوزراء يتم تعيينهم من قبل البرلمان اعتماداً على نتائج الانتخابات النيابية. أهم الأحزاب الإسبانية:
1. حزب الشعب (PP)
2. حزب العمال الاشتراكي الأسباني (PSOE)
3. اتحاد اليسار (IU)
4. التحالف الديمقراطي لكاتالونيا (CiU)
5. الحزب الوطني الباسكي (EAJ-PNV)
6. اليسار الجمهوري لكتالونيا (ERC)
وفي عام 1981م حاولت مجموعة من قوات الأمن التمرد والانقلاب على الديموقراطية الوليدة وتشكيل حكومة موالية للجيش ولكن الملك خوان كارلوس أحبط هذه المحاولة من خلال نفوذه الشخصي كملك للبلاد ومن خلال قيادته للقوات المسلحة،وقد ساعده على ذلك أن غالبية قطاعات الجيش لم تستجب لهذه المجموعة المتمردة.
وفي أكتوبر 1982م فاز حزب العمال الاشتراكي الأسباني في أول انتخابات برلمانية حقيقية بقيادة "فيليب جونزاليز ماركيز" واستمر هذا الحزب في الحكم من خلال انتخابات حرة ونزيهة لمدة 13عاما شهدت فيها أسبانيا تحولات إيجابية هائلة، حيث بدأ سن مجموعة من القوانين المنظمة لحركة المجتمع في كافة المجالات،وتشييد بنية تحتية قوية،ووضع برامج تعليمية جادة ومتطورة في كل مراحل التعليم.
كما تم تطوير قطاعي الصحة والعمل،وتحررت التجارة بشكل كبير عبر قوانين سهلت الاستثمار كما سهلت التواصل مع حركة التجارة الأوروبية والعالمية،وتراجعت معدلات الفساد السياسي والإداري،وشعر الناس بأن التغيير يأتي لصالحهم ويغير حياتهم للأفضل فأصبحوا أكثر انتماءا وتعاونا وتجاوبا مع طموحات الحكومات المنتخبة منهم.
إذن فهي ثلاث عشرة سنة من العمل الحقيقي الجاد شهدت تحولا جذريا وهائلا في كل مناحي الحياة في أسبانيا،وأصبحت بعدها دولة حرة حديثة،وانتقلت من مصاف الدول النامية إلى الدول المتقدمة،وواكب هذا تحولا ثقافيا واجتماعيا حيث أصبح المجتمع أكثر انفتاحا وتواصلا مع العالم.
وعلى الرغم من كل هذه النجاحات التي حققها حزب العمال الاشتراكي الأسباني إلا أن الناخب الأسباني أراد مزيدا من التغيير فأعطى غالبية أصواته في مارس 1996م لحزب الشعب بقيادة "جوزيه ماريا أزنار"،وقام الحزب بمزيد من الخطوات لتحرير الاقتصاد،حيث تبنى برنامجا طموحا ومنضبطا للخصخصة وإصلاح سوق العمل وتشجيع المنافسة في أسواق بعينها وخاصة في مجال الاتصالات. وفي تلك الفترة من حكم حزب الشعب تأهلت أسبانيا لتصبح عضوا في الإتحاد الأوروبي وتدخل في منظومة العملة الأوروبية الموحدة.
وكان لهذا التحول الديموقراطي أيضا أثرا في السياسة الخارجية لأسبانيا إذ استعادت دورها الخارجي من خلال مشاركتها مع حزب الناتوا في العمليات العسكرية المشتركة في يوغوسلافيا وصربيا والبوسنة وكوسوفا وأفغانستان والعراق.
وفي عام 2004 م فاز حزب العمال الاشتراكي الأسباني مرة أخرى بقيادة "زاباتيرو"،وتشكلت حكومة نصف عددها من الرجال والنصف الآخر من النساء. وفي هذه الفترة واصل الاقتصاد الأسباني نموه الضخم تواكبه قوانين اجتماعية وثقافية متطورة ودور سياسي فاعل.
ثاني أكبر دولة في العالم سياحيا
أما السياحة فهي قصة أخرى تستحق الإعجاب حيث يزور أسبانيا كل عام خمسون مليون سائح (وتعداد أسبانيا أربعون مليونا) لتصبح أسبانيا الدولة الثانية في العالم من حيث عدد السائحين بعد فرنسا والتي يزورها خمسة وستون مليون سائح (لاحظ أن مصر يزورها سنويا في أحسن الأحوال ستة ملايين سائح على الرغم من وجود 40% من آثار العالم لدينا ووجود جو معتدل وشمس ساطعة أغلب شهور سنة – هذا قبل ظهور السحابة السوداء).
وأسبانيا لا تملك الكثير من الآثار فغالبية آثارها تعود إلى الحقبة الإسلامية العربية،وأشهر تلك الآثار قص الحمراء في غرناطة،ومع هذا استطاعت توظيف ما تملكه لجذب كل هذه الأعداد الهائلة من السائحين كل عام.
والمرشدون السياحيون يعرفون تاريخ بلدهم جيدا،وحديثهم عن الفترة الإسلامية يتسم بصراع داخلي يبدو في كلماتهم،فهم يسمون تلك الفترة: "فترة السيطرة العربية على الأندلس" (Arabic Influence)،وحديثهم عن انتهائها لا يخلو من شماتة وشعور بالانتصار.
وهم يدّعون في كثير من أحاديثهم أن الآثار الإسلامية والعربية شيدها مهندسون وعمال أسبان استلهموا الأنماط العربية السائدة في العمارة في ذلك الوقت ليرضوا أذواق الأمراء العرب الذين كانوا يحكمون أسبانيا في ذلك الوقت.
وفي منطقة الأندلس ترى آثارا مسيحية وآثارا إسلامية،كما ترى آثارا مختلطة حيث يمتزج الفن الإسلامي بالمسيحي فيما يعرف باسم "مودخا".
ولا ترى في أسبانيا ما تراه هنا في مصر من متطفلين على السائحين يضايقونهم ويحاولون ابتزازهم أو خداعهم أو النصب عليهم،بل ترى مرشدين محترفين تابعين لمؤسسات سياحية محترمة.
الثقافة الأسبانية
يعود الفضل في انتشار الثقافة الإسبانية إلى فترة التوسع الإسباني في القرون الأخيرة من الألفية السابقة. حيث يتكلم معظم سكان قارة أمريكا الجنوبية اللغة الإسبانية، جاعلين من الإسبانية أحد أكثر لغات العالم انتشارا.
سطع نجم إسبانيا في الفن وخاصة الرسم من خلال الرسامين الأسبان: بابلو بيكاسو (Picasso)، سلفادور دالي (Dalí)، فرانسيسكو دي جويا (Goya) وغيرهم. كما أن الأدباء الأسبان كأمثال: ميجيل دي سيرفانتيس (de Cervantes) وروساليا دو كاسترو (do Castro) أضافوا الكثير للأدب العالمي.
متحف ديل برادو في مدريد هو أحد أهم المتاحف على مستوى أوروبا إذ يحتضن العديد من الكنوز الفنية. الدوري الإسباني في كرة القدم هو الأشهر عالمياً لكثرة نجوم الكرة العالمية الذين يلعبوا ضمن صفوف الفرق الإسبانية.
وقد نجحت أسبانيا الحديثة في استثمار الامتداد العرقي واللغوي لها في أمريكا الجنوبية حيث أن هناك 400 مليون يتحدثون اللغة الأسبانية في العالم وهؤلاء يشكلون امتدادا ثقافيا هائلا لهم يساعد في الامتدادات السياسية والاقتصادية.
الاقتصاد الأسباني
تحول الاقتصاد الإسباني من اقتصاد يعتمد بالدرجة الأولى على الزراعة إلى اقتصاد متنوع ذو أهمية في أوروبا خلال العقود الأخيرة. دخل الفرد مقارنة مع الناتج الإجمالي للدولة هو رابع أعلى دخل في أوروبا. ساهم الاتحاد الأوروبي، منذ دخول إسبانيا الاتحاد عام 1986، في تنمية الاقتصاد بشكل كبير.
أهم الصناعات هي المنسوجات والمواد الغذائية والمعدنية والكيميائية والسيارات والسياحة. فرنسا وألمانيا هم أكبر الشركاء التجاريين. أهم المنتجات الزراعية هي الشعير والخضروات والفاكهة والزيتون والعنب والشمندر السكري والحمضيات. تملك البلاد ثروة حيوانية وسمكية ضخمة.
وفي أسبانيا صناعة سيارات مزدهرة وصناعة أسلحة متطورة،وتكنولوجيا علمية هائلة خاصة في موضوع الدراسات الجينية. ولم يكن مستغربًا، أن يبلغ الناتج الإجمالي لـ22 دولة عربية مجتمعة، يقطنها 280 مليونًا من العرب، 531 مليار دولار أمريكي بينما يبلغ الناتج لإسبانيا وحدها 595 مليار دولار بزيادة 64 مليار دولار مقارنة بالأمة العربية وعدد الأسبان سبع من أعداد العرب!!.
إن سكان إسبانيا الذين يبلغ تعدادهم 40 مليونًا كانوا حتى بداية الثمانينات من القرن العشرين من بين أقل الدول نماءً في أوروبا الغربية، كما كان معظم السكان مزارعين فقراء. ودون تعامل مع الشعارات الرنانة بدأت إسبانيا صعودها الاقتصادي بعد الإصلاح السياسي والتحول الحقيقي من حكم الفرد الشمولي إلى الحياة الديموقراطية السليمة.
وقد أعطى الأسبان اهتماما خاصا للتعليم،ففي عام 1900م كانت نسبة الأمية 60%، انكمشت لتصبح اليوم 3% لسن الخامسة عشرة فما فوقها. وامتلكوا 30 جامعة تضم أكثر من 700.000 طالب، يكدون لنيل معرفة عصرية وتقنية تقيم لبلادهم مكانة مرموقة بين الأمم.
ودون ضجيج إعلامي زائف بلغ الناتج القومي عام 1985م (292) مليار دولار أمريكي، وتجاوز في عام 2000م (595) مليار، أي بزيادة (300) مليار دولار متجاوزًا الناتج العربي كله بأكثر من (60) مليار دولار.
الشعب
الشعب الأسباني له خصائص شعوب جنوب البحر الأبيض المتوسط،فعلى الرغم من المسحة الأوروبية في اللون والملامح إلا أنه يحمل بعض الصفات التي هي خليط من العربية والإيطالية.
وهو شعب باحث عن حقوقه ومنشغل بحياته،ويبدو غير ودود في أغلبه،وهناك حساسية ظاهرة في التعامل مع العرب بوجه خاص،وكأنها نتاج عقدة تاريخية لم تحل بعد،فعلى الرغم من مرور مئات السنين على خروج العرب والمسلمين قهرا من الأندلس فما زالت هناك مخاوف لدى الأسبان من عودتهم مرة أخرى،وربما يجعلنا هذا نفهم سر تمسك أسبانيا بسيطرتها على جزء من الساحل المغربي وعلى بعض الجزر في مضيق جبل طارق وفي المحيط الأطلنطي وكأنها تأخذ مسافات أمان بينها وبين العرب.
وهم يعيشون فجوة تاريخية إذ يحاولون استبعاد ثمانمائة سنة من وعيهم التاريخي. والأسبان مثل باقي الأوروبيين لا يهتمون كثيرا بالأيديولوجيات بل يعمدون مباشرة إلى البرجماتية التي تيسر لهم حياة رغدة ونمو اقتصادي كبير،لذلك فهم حسيون ومقبلون على الحياة والمتع والرفاهة.
وهم مغرمون بأكل الخنزير،حيث توجد أعداد هائلة من أفخاذ الخنزير معلقة على واجهات المطاعم والسوبر ماركت واستراحات الطرق السريعة،ولا ينافس لحم الخنزير المعروض هناك إلا زجاجات الخمر في كل مكان. ويبدو أن أسبانيا تعتمد في جزء من اقتصادها على تصدير لحم الخنزير وعلى تصدير الخمور المستخرجة من العنب والذي يزرع بكميات كبيرة هناك.
ومن العجب أننا هنا في مصر مرعوبين من أنفلونزا الخنازير على الرغم من القضاء على مزارع وحظائر الخنازير بالكامل،وهم هناك لا يعيشون هذه الحالة من الهلع الخنزيري على الرغم من وجود عدد أكبر من الحالات عندهم ووجود هذه الأعداد الهائلة من مزارع الخنازير.
تحويل المساجد إلى كنائس
كثير من المساجد (إن لم يكن كلها) التي أنشئت في الحقبة الإسلامية في الأندلس قد تم تحويلها إلى كنائس،على الرغم من أن الكنائس هناك غالبا مهجورة لا يرتادها إلا عدد قليل من الناس. وتبدو عملية التشويه حيث استبدلت المآذن الإسلامية بأبراج يعلوها الصليب في مشهد يعكس ذلك الصراع الذي جرى على هذه الأرض والرغبة المحمومة في إخفاء آثار فترة تاريخية امتدت ثمانية قرون.
ولم أجد خلال إقامتي هناك مسجدا في أشبيلية وفي الأماكن التي تحركت فيها في غرناطة،وقد حاولنا الصلاة (الظهر والعصر) جمعا وقصرا فوجدنا صعوبة في ذلك إذ نصحنا المرشد السياحي بأن لا نصلي في أي مكان في قصر الحمراء ولم نفهم سر إصراره فحاول بعضنا أن يصلي في أحد أركان الحدائق الملحقة بالقصر ولكننا فوجئنا بالمرشد السياحي يطلب الأمن ليمنعنا من الصلاة وقد شرح لنا رجل الأمن سبب هذا المنع فقال بأنه يخشى علينا من المتطرفين الدينيين الذين لا يحتملون رؤية مسلم يصلي في مكان مفتوح وربما يصيبنا منهم سوءا لا يعرف أحد مداه.
وهناك فوبيا شديدة من الإسلام في أسبانيا ومشاعر سلبية تجاه العرب والمغرب العربي على وجه الخصوص،فهم يبدون حساسية شديدة حين يتذكرون أنهم كانوا تحت السيطرة العربية في يوم من الأيام.
وتعبير السيطرة هنا أستخدمه لأنه هو الشائع على ألسنة المرشدين السائحين هناك فهم لا يقولون فتحا إسلاميا أو غزوا أو احتلالا وإنما يفضلون كلمة سيطرة. وعلى الرغم من وجود حوالي ثلاثون ألف مسلم في غرناطة إلا أن الزائر لا يرى مظاهر تدل على وجودهم هناك. وهذا يعكس الموقف شديد التعصب تجاه الإسلام والمسلمين والعرب والذي أدى إلى استبعادهم من أسبانيا بشكل يسميه القانون الدولي الحديث "تطهيرا عرقيا".
بين الفلامنكو والرقص الشرقي
كلمة الفلامنكو يحتمل أن يكون معناها الفلاح المنكوب،وحسب "بلاس إنفانتي" فإن مصطلح فلامنكو يرجع إلى (fallah mengo = فلاح منجو) وهم الفلاحين الموريسكيون (المسلمون واليهود المضطهدون من السلطات الأسبانية) الذين أصبحوا بلا أرض، فاندمجوا مع الغجر وأسسوا ما يسمى بالفلامنكو كمظهر من مظاهر الألم التي يشعر بها الناس بعد إبادة ثقافتهم. والبعض يربط اسم هذه الموسيقى بطائر النحام الوردي.
إذن فقد ولد فن الفلامنكو كتعبير للمضطهدين والمسحوقين،ففي سنة 1492م سن الملك فرنارد وملكته إيزابيلا قانونا جديدا ينص على أن كل سكان مملكة إسبانيا لابد وأن يعتنقوا المسيحية الكاثوليكية،وبالتالي على المسلمين واليهود والغجر والمسيحيين غير الكاثوليك التحول للدين الكاثوليكي. وكانت عقوبة الرفض للكاثوليكية هي الرمي بالطلق الناري حتى الموت.
الكثير من المضطهدين هربوا إلى مدينة غرناطة قبل أن تسقط في أيدي الأسبان المتعصبين. وهناك اجتمعوا خائفين ينتظرون هجوما وشيكا من فرنارد وزجته إيزابيلا وبدأوا يعبرون عن مشاعرهم برقص وغناء الفلامنكو،ومن هنا جاء هذا الفن مركبا ومكثفا وحزينا في أغلبه،وقويا ومليئا بالمعنى والإصرار في ذات الوقت. الفلامنكو يتكون من عناصر أساسية هي:
1 - الغناء: ويتميز غناء الفلامنكو بالنغمات الحزينة المأساوية وصرخات تكاد تشبه العويل.
2 - الجيتار: وظيفة الجيتار هو مصاحبة أصوات المغني وحركات الراقص.
3 - الرقص: ووظيفة الراقص (أو الراقصة) أن يعبر عن المشاعر التي في الأغنية من خلال حركات الجسد. والراقص هو الذي يتحكم بسرعة الإيقاع عن طريق سرعة خطوات الرجل.
والمغني وعازف الجيتار يحاولون تتبع الراقص وليس العكس. ويتميز رقص الفلامنكو بالدقات القوية والمتسارعة التي يصدرها الراقص عن طريق خبط الأرجل بأرضية المسرح ومن هنا تكمن صعوبة رقص الفلامنكو لأن الراقص لا يرقص فحسب بل هو الذي يتحكم بالإيقاع ويصدر جزء مهم من الموسيقي برجله أثناء الرقص. إذا على الراقص أن يكون موسيقي بارع ولا يكفي أن يعرف الحركات فقط.
4 – المصفقين،وهم عنصر هام في عروض الفلامنكو،والتصفيق المصاحب للفلامنكو له قوانين معينة يجب الالتزام بها ،فالمصفقين يعطون الدعم للراقص في تحديد النغم عبر تصفيقات متتابعة وسريعة وقوية بنفس قوة طرقات الأقدام على المسرح. ورقصات الفلامنكو التقليدية تتم في أغلبها بشكل حي وتلقائي غير مفتعل،حيث تلتقي العناصر الأربعة،وينتج عن هذا اللقاء تلك الحركات والأصوات السحرية دون سابق تخطيط.
بعد أن ولدت بذرة الفلامنكو في مدينة غرناطة أنتقل إلى مدينة هريز في جنوب إسبانيا وهريز كان اسمها شريش أيام الحكم الإسلامي. وهناك نمي هذا الفن وتطور،ثم نقله الغجر أثناء تنقلاتهم في أنحاء جنوب إسبانيا إلى مدن أخرى ومنها مدينة أشبيلية. واليوم تعتبر شريش وأشبيليا وغرناطة من أهم مراكز الفلامنكو.
في بدايته كان الفلامنكو يعتبر فن محتقر وغير راقي لأن معظم الذين كانوا يقومون به هم الغجر الفقراء في الشوارع مقابل القليل من المال يرميها لهم المارة،ولكن مع الوقت أصبح الفلامنكو من الفنون الشعبية الراقية التي تميز أسبانيا وتعرض على أفخم المسارح.
ذهبنا لتناول العشاء في أحد صالات الفلامنكو،وبدأ العرض بمجموعة من الفتيان والفتيات يضربن بأرجلهن بقوة وعنف وإيقاع مؤثر مع حركات شديدة الرمزية والإيحاء،ثم ينفصل الجمع ويحدث رقص تناوبي فردي أو ثنائي يفصله تجوال لأحد الراقصين كالطاووس ثم تنتشر المجموعة محيطة براقص أو راقصة (تبادل الرقص والراقصين بشكل تناوبي وانسيابي ذكرني بتبادل السلطة في سهولة ويسر).
وهو فن جميل يجمع بين القوة والجمال والالتزام والانضباط والمعنى وليس فيه ميل للتعري بل تلبس الراقصات غالبا ثيابا طويلة،وليس فيه مخاطبة للغرائز بل يخاطب مستويات متعددة من الوعي الإنساني في تناوب انسيابي رائع.
وهو يمزج بين الفردية والجماعية ويعطي لكل راقص وراقصة فرصة متساوية للتعبير وتظهر الفروق الفردية واضحة جلية ثم تندمج القدرات الفردية في سيمفونية جماعية متناغمة،وهكذا ذهابا وإيابا.
وأكثر ما يميز رقصات الفلامنكو الجدية الشديدة،إذ يبدو الراقص أو الراقصة في حالة تركيز شديد ويؤدي الحركات بقوة وإتقان وتفان،وكل رقصة بها من الرمزية والغموض ما يتيح الفرصة لإسقاطات واستنباطات عديدة تستكشف مستويات النفس وجنباتها.
أن هذا النوع من الرقص فيه قوه وتعبير وكبرياء وإحساس وجمال اللحن إضافة إلى أنه بعيد عن التمايل الأغوائي للأجساد وبعيداً عن هز الخصر بالتحديد كالرقص الشرقي.
وعلى عكس الرقص الشرقي الذي يظهر الراقصة كمسلية وممتعة للمشاهد فإن راقصة الفلامنكو تعبر عن كبرياء وعنفوان ضد الظلم، وتعتمد على حركة الأطراف أي حركة الأيدي والأرجل وهذه الحركة لا تتجه نحو الهدوء والرومانسية بقدر ما تتجه نحو التصعيد الحركي النشط والمتناوب والمفاجئ أحيانا.
وحركات الراقصين تبدوا أحيانا كأنها حركة ذاتية غريزية لا تنتظر أوامرها من الدماغ،حركة بدائية من طبقات المخ الأقدم يتبعها حركات تتصاعد في رقيها عبر مستويات النفس حتى لتصل إلى مستويات روحية غاية في السمو.
وهوس موسيقى الفلامنكو يتصاعد تدريجياً وهو ينتشر في جميع أنحاء العالم بعد انتهاء الديكتاتورية السياسية والثقافية بعد رحيل الجنرال فرانشيسكو فرانكو عام 1975م.
ولو قارنا هذا بالرقص الشرقي فربما نصل إلى فروق بين الشعوب لها دلالاتها السلوكية،ففي الرقص الشرقي تقوم راقصة واحدة غالبا بالرقص الشرقي تتركز عليها وحدها الأضواء بشكل نرجسي طول الوقت،فليس فيه روح الجماعية،وتعتمد الراقصة في الأغلب على أداء فني يبرز مفاتن جسدها،وعلى الرغم من الإيقاع والحركات الانسيابية (والتي لا تخلو من إغواء متعمد أو غير متعمد) إلا أن الرقص الشرقي يخلو من المعنى العميق،فهو أقرب إلى الفن الترفيهي الاستمتاعي الفردي النرجسي.
ويعود التساؤل حول سر انتشار مصارعة الثيران ورقصات الفلامنكو في أسبانيا،وكلاهما يجمعهما جمال الحركة وعنفها ومخاطرها وجديتها... بينما ينتشر في بلادنا العربية رقصا شرقيا استمتاعيا منفردا؟؟!!.
الشوارع والطرق
والشوارع دائما نظيفة،والحركة فيها سلسة حتى ولو كانت ضيقة،ولا توجد اختناقات مرورية،ولا ترى رجل مرور في الشارع في الأحوال العادية ولكن إذا وقع حادث تجدهم يظهرون فورا وكأنما انشقت الأرض وخرجوا منها. والطرق مرصوفة رصفا جيدا (كسائر بلاد أوروبا) وعليها كل علامات الإرشاد ومزودة بكل متطلبات الأمن والسلامة،ولا توجد كمائن مرورية تضيق على الناس الطريق أو تخنق سيولة المرور،ولا يوجد عساكر مرور أو أمناء شرطة يبتزون سائقي الحافلات،والإشارات هناك يحترمها سائقوا السيارات والمشاة على السواء. ولا تسمع كلاكس سيارة ولا ترى وقوفا في الممنوع ولا تعاني انسدادات مرورية.
ولا ترى في الشوارع أو الميادين أي صور للزعماء أو السياسيين،ولا ترى إعلانات جداريه عن إنجازات الحكومة الأسبانية.
وقد زرنا حي اليهود في مدينة أشبيلية،وقد هجره اليهود أو بالأصح طردوا منه حيث شملتهم عمليات التطهير العرقي التي جرت بعد سقوط الأندلس في أيدي الجيوش الأوروبية المدعومة والموجهة من الكنيسة الكاثوليكية. والحي يميزه شوارعه الضيقة وبيوته الأثرية،وهو يقترب من النموذج المعماري العربي.
والطريق من أشبيلية إلى غرناطة غاية في الروعة النظام والانضباط إذ لا يوجد فيه خطأ تقع عليه العين،والمرور عليه غاية في السيولة والسهولة واليسر.
كراكيب مصرية
ونعود إلى أرض الوطن لنجد أزمة النقاب مازالت مشتعلة،وإجراءات الحماية من أنفلونزا الخنازير وأنفلونزا العصافير وأنفلونزا الحمير تشغل الجميع عن سائر أمور حياتهم،والمدارس تعيش حالة طوارئ خادعة تنهي ما تبقى فيها من تعليم لحساب حماية النشء من وباء متوقع أو متوهم؛
والناس مرهقة في تدبير أموال الدروس الخصوصية ومصروفات التعليم الذي لا يغير شيئا في الناس ولا في حياتهم وينتهي بشهادة ورقية لا قيمة لها في سوق العمل،ولعبة التلفيق والتزوير على أشدها،والناس في ذهول،وبعضهم تسلل إلى الماضي باحثا عن عز قديم أو حل قديم لمشكلات مستحدثة،وقد غاب الحلم وضعف الخيال؛
وابتعد المستقبل أو اختفى،وأصبحت الرؤية ضبابية ومساحات المجهول تتسع وتتسع ثم تمتلئ بكل ما هو خرافي وسحري،وكمائن المرور تخنق الشوارع والطرق المخنوقة باحثة عن مجرمي الشعب،وتقلصت الأهداف الإستراتيجية وأصبح غاية منانا التخلص من القمامة التي تملأ شوارعنا ونفوسنا.
فالوطن الذي كان يوما جميلا يتحول إلى كراكيب بشرية وكراكيب سياسية واجتماعية وأخلاقية توازي تلك الكراكيب الموجودة بكثرة ملفتة للنظر فوق أسطح منازلنا،وهي ظاهرة ننفرد بها على شعوب العالم وربما تكون نوعا من عدم الأمان يجعلنا نحتفظ بالكراكيب عسى أن تنفعنا في أيام مقبلة.
وأحاول أن أنسى ما رأيته وسمعته في بلاد صرعت ثور الاستبداد وثور الفقر وثور الخوف ومارست رقصا تناوبيً على مسرح الحياة،وأتفرغ لمتابعة فعاليات مؤتمر الحزب الوطني السادس أو السابع أو المائة (لا فرق) لأرى ذلك الاجترار القومي الوطني الديموقراطي الجماهيري الشعبي العبثي يتكرر منذ ثلاثين عاما مع فارق بسيط يتلخص في تغيير الأقنعة وتغيير مواقع الممثلين وصبغ شعورهم.
واقرأ أيضا:
دمعة المحرومين من الحج / شوية مصريين ماتوا في حادثة وشويه أصيبوا! / شيخوخة الضمير