على الرغم من حرص الأديان كلها على رباط الزوجية وعلى الحفاظ على الأسرة وتماسكها، إلا أنه مع ذلك شرعت الطلاق ووضعت له نظاما حتى يتم بأقل قدر من الخسائر ولكي تعطي فرصة للطرفين لحياة جديدة أكثر توافقا، لكي يؤدي كل منهما وظيفته في ظروف أفضل. ومما يروى عن سيدنا إبراهيم أنه حين زار ولده إسماعيل ورأى زوجته على حال لم يسره ترك له رسالة بأن يغير عتبة البيت، وهو يعني الطلاق، ثم جاء الإسلام امتدادا لشريعة إبراهيم عليه السلام (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا)، وقد كانت الأديان والتشريعات السماوية وغير السماوية تقر الطلاق مع اختلاف التسميات والطرق المؤدية إليه، وما زال هذا الأمر قائما باستثناء بعض الطوائف الدينية التي وضعت قيودا شديدة على الطلاق بناءا على تفسيرات بعض علماء الدين أو المؤسسات الدينية، وكان لهذا التقييد أو المنع آثارا سلبية هائلة نتيجة استبقاء علاقة مضطربة بين زوجين يكره كل منهما الآخر وينفر منه، ومن هنا ازدادت الصراعات والمشاحنات داخل البيت وعاش الأطفال في جو مسموم وربما اتجه كل من الزوجين إلى التعويض العاطفي والجنسي خارج إطار الزواج، وأدى أيضا إلى عزوف الناس عن الزواج حتى لا يقعوا في هذا المأزق.
ويقول ابن قدامة في هذا المقام "فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة، وضررا مجردا بإلزام الزوج النفقة والسكنى، وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه"
والحكمة من تشريع الزواج هي بناء الأسر على أساس سليم من السكن والمودة والرحمة، ذلك البناء الذي يسمح بإشباع احتياجات الزوجين ويجعلهما في حالة من الراحة والطمأنينة وينعكس ذلك على الأطفال الذين ينعمون معهما بثمار تلك العلاقة السوية، فإذا تعذر قيام هذا الأمر كان الطلاق هو الحل لكي يفسح الطريق للطرفين أن يتحررا من علاقة مرضية ويعطيهما الفرصة لبناء حياة جديدة لكل منهما بعيدا عن الآخر، حياة تتوافر فيها علامات التوافق والارتياح.
إن الطلاق مكروه رغم مشروعيته لأن عقد الزواج في الإسلام يهدف إلى الدوام والأبدية بين الزوجين لكي تتكون الأسرة وتعيش في بيت هادئ مطمئن يحتضن الأطفال حتى يكبروا، ولهذا كانت الصلة بين الزوجين من أقدس الصلات، وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بالميثاق الغليظ (وأخذن منكم ميثاقا غليظا)، وأحاطها بكل ما يحفظ استمرارها ودوامها، وجعل كل ما يفصم هذه العلاقة مكروها ومحرما.
فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله –عز وجل – الطلاق" (رواه أبو داوود والحاكم وصححه). ويقول صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من خبب (أي أفسد) امرأة على زوجها" (رواه أبو داوود والنسائي). وعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة".
الذي دوّن في الشريعة عند اليهود أن الطلاق يباح بغير عذر، كرغبة الرجل بالتزوج بأجمل من امرأته، ولكنه لا يحسن بدون عذر، والأعذار عندهم قسمان:
الثاني: عيوب الأخلاق، وذكروا منها: الوقاحة، والثرثرة، والوساخة، والشكاسة، والعناد، والإسراف، والنهمة، والبطنة، والتأنق في المطاعم، والفخفخة. والزنا أقوى الأعذار عندهم، فيكفي فيه الإشاعة، وإن لم تثبت.
المذهب الكاثوليكي يحرم الطلاق تحريما باتا، ولا يبيح فصم الزواج لأي سبب مهما عظم شأنه، وحتى الخيانة الزوجية نفسها لا تعد في نظره مبررا للطلاق، وكل ما يبيحه في حالة الخيانة الزوجية، هو التفرقة الجسمية، بين شخصي الزوجين، مع اعتبار الزوجية قائمة بينهما من الناحية الشرعية، فلا يجوز لواحد منهما قي أثناء هذه الفرقة أن يعقد زواجه على شخص آخر، لأن ذلك يعتبر تعددا للزوجات، والديانة المسيحية لا تبيح التعدد بحال. وتعتمد الكاثوليكية في مذهبها هذا على ما جاء في إنجيل مرقص على لسان المسيح، إذ يقول: "ويكون الإثنان جسدا واحدا، إذن ليسا بعد اثنين، بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان" (مرقص، إصحاح 10 ، آيتي 8، 9).
والطلاق هو من حق الرجل فقط، أما المرأة فإذا كرهت زوجها فقد أباح لها الإسلام أن تتخلص من الزوجية بطريق الخلع، وذلك بأن ترد على الزوج ما كانت أخذت منه باسم الزوجية لينهي علاقته بها، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: ".... وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (البقرة: 229).
آداب الطلاق
والشريعة الإسلامية لم تترك الأمر غامضا أو مفتوحا للاجتهادات وإنما وضعت التفاصيل الدقيقة لذلك حتى تغلق الباب أمام الأهواء وأمام محاولات استغلال طرف للطرف الآخر أو محاولات الظلم التي تظهر في مثل هذه الأحوال. فالناس في ظروف الطلاق يخرج منهم أسوأ ما فيهم، حيث تتملكهم مشاعر الكراهية والغضب، وتستحوذ عليهم رغبة في الانتقام من الطرف الآخر أو إذلاله أو استغلاله أو الضغط عليه أو لي ذراعه، ولهذا نجد اتهامات متبادلة وسب وقذف وانتقاص لكل طرف من الآخر، ونجد في المحاكم قضايا تحفل بالمغالطات وشهادات الزور والاتهامات الباطلة ومحاولات الابتزاز، وهذا كله ليس من آداب الإسلام وليس من الخلق القويم وإنما يعكس دناءة في النفس وتلوثا في الضمير.
ولهذا وجب أن نورد آداب الإسلام في الطلاق، تلك الآداب التي تحمي الطرفين من الظلم والاستغلال والتشويه، وتحمي الأطفال من الوقوع تحت أقدام الطرفين المتصارعين اللذين كان من المفترض أن يكونا لهم أبوين رحيمين عطوفين راعيين. من هذه الآداب ما ذكره الأستاذ/ سلمان نصيف الدحدوح في كتابه: "الإسلام أدبه وآدابه":
* أن يكون الطلاق رجعياً، أي طلقة واحدة فلا يجمع بين الثلاث لأن الطلقة الواحدة بعد العدة تفيد المقصود ويستفيد بها الرجعة إن ندم في العدة وتجديد النكاح إن أراد بعد العدة أن يقع الطلاق في حالة هدوء لا غضباً فيه ولا شقاق
* لا تغلظ لها القول بل تلطف في النطق بالطلاق والتمس الأعذار المسببة له واطلب به سعادة الطرفين
* لا تخرجها من بيتك إلا إذا أتمت العدة وتبين لك من نفسك بانقضائها صدق رغبتك في طلاقها والإصرار على فراقها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾(الطلاق:1)
* أن يتلطف في التعليل بتطليقها من غير تعنيف أو استخفاف والإبقاء على ودها وتطييب قلبها بهدية على سبيل الإمتاع والجبر لخاطرها لما فجعها به من أذى الطلاق، يقول الله تعالى: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾(البقرة:236)
* أن لا يبخسها أي حق من حقوقها، يقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ (النساء:20)
* أن يكون رجلاً في موقفه منها وأن يكون شهماً في معاملته لها بعد الطلاق فلا يلوكها بلسانه بما يسيء إليها بحق أو بباطل ولا يلجئها إلى المحاكم في سبيل الحصول على حقوقها من نفقة أو حضانة امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿..... وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (البقرة:237)
* ألا يفشي سرها لا في الطلاق ولا عند النكاح، فقد روي عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: {إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه} رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، وروي عن بعض الصالحين أنه أراد طلاق امرأته فقيل له: ما الذي يريبك فيها؟ فقال: العاقل لا يهتك ستر امرأته، فلما طلقها قيل: لم طلقتها؟ فقال: مالي لامرأة غيري، وروي أيضاً أن رجلاً طلق زوجته فسأله أحد الناس عن السبب في طلاقها فقال: كنت أصون لساني عند ذكر عيوبها وهي زوجتي فكيف أستبيح ذلك وقد صارت أجنبية عني؟"
أن لا يطلق الزوج وهو في حالة غضب، وللأئمة آراء مختلفة في حكم وقوع طلاق الغضبان من عدمه، نورد منه قول الإمام ابن القيم رحمه الله:
القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته، بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة فلا يعلم ما يقول ولا يريده. فهذا لا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه. والغضب غول العقل، فإذا اغتال الغضب عقله، حتى لم يعلم ما يقول، فلا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة.
القسم الثالث: من توسط في الغضب بين المرتبتين، فتعدى مبادئه ولم ينته إلى آخره بحيث صار كالمجنون – فهذا موضع الخلاف ومحل النظر. والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه (إغاثة اللهفان ص 14).
أن يقع الطلاق في طهر، وذلك لتكون هناك فرصة في اللقاء الزوجي في تلك الفترة، مع احتمالات أن يبدد هذا اللقاء ما في النفوس من وحشة وغضب، وأيضا لنتجنب فترة الحيض وما يكون فيها من نفور لدى بعض الرجال ومن عصبية لدى بعض النساء. ووقوع الطلاق في طهر لم تحدث فيه علاقة زوجية يستبعد وجود الحمل.
وعلى الزوج أن يراعي حقوق العشرة بينه وبين زوجته فيتلطف معها في القول، ولا يجرح مشاعرها بكلمات قاسية، ولا يخرجها من بيته قبل أن تنتهي عدتها، ولا يفشي ما يعرفه عنها من أسرار، ولا يشوه صورتها أمام الناس ولا يهينها أو يظلمها، ولا يبخس حقوقها، ولا يضغط عليها بهدف إذلالها أو استغلالها، وأن يتعامل معها بالفضل لا بالعدل.
ويحرس هذه الآداب كلها قوله تعالى: "وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة:227)، أي أن الله يسمع ما يقال في مثل هذه الظروف ويعلم بالنوايا إن كانت حسنة أو سيئة، وهذا السماع وذلك العلم من الله تحذير للطرفين حتى لا يجور أحدهما على الآخر، وأن يتقوا الله في بعضهما، وأن يتذكرا بأن الله رقيب عليهم.
واقرأ أيضًا: