هناك في تلافيف الدماغ تنمو وتتطور مفاهيم وتصورات، ومقاييس ومقاسات، وصفات ومواصفات لفتاة وفارس الأحلام، وللحياة الطيبة كما ينبغي أن تكون، وحين نشرع في الارتباط بعلاقة حب أو نختار للزواج فإننا نرى الشريك ونحكم عليه من خلال هذه المقاييس والمواصفات، وحين تغمرنا العاطفة قد ننسى أو نتغافل عن بعض هذه المواصفات، لكنها سرعان ما تعود بعد وقوع الفأس في الرأس لنبرر "أخطاءنا" بأن مرآة الحب عمياء! وحقيقة الأمر ببساطة أن المقاييس والمعايير التي وضعتها في رءوسنا التنشئة في البيت والمدرسة وغيرها هي مقاييس ومعايير خيالية.. غير إنسانية، وغير واقعية!
التنشئة حجر الزاوية:
ففي البدء كانت تنشئة الطفل صفحة بيضاء ناصعة تكتب فوقها المعاني والقيم والمحددات؛ الأب يكتب والأم تكتب، والعائلة، والمدرسة، والإعلام، والأفلام، والإنترنت، وجماعة الأصدقاء.. فتتكامل جزيئات الصورة، صورة الذات بما هي، وبما تحب، وما تكره، ما تستحسن وما تستقبح.
وغالبا ما تتضمن التنشئة عندنا قدرا كبيرا من التنميط والقولبة؛ فالعالم بسيط واضح، والأشياء بيضاء أو سوداء، والناس طيبون أو أشرار، والاختلاف مذموم مستنكر لأن صاحبه بالتأكيد يمارسه من باب: "خالف تعرف" وهناك نقدنا للشريك المخالف!
والوحدة حلمنا الدائم وطموحنا المتجدد، وهي في أذهاننا أن نكون واحدا. ولم نأخذ من معاني التواصل والتعاضد في حديث "المؤمن للمؤمن كالبنيان..." إلا أننا فهمنا -تقريبا- المطلوب منه بأن نصبح قوالب من أحجار متشابهة صماء تتراص في صفوف، أو تتعالى في جدار!
الاختلاف قيمة مذمومة في ثقافتنا الشائعة، ورؤية الغير المختلف إذا حدثت أصلا فهي مقدمة للشقاق، للتوجس، أو للتجاهل في أحسن الأحوال!
والشر في فهمنا بسيط، والخير بسيط، والفارق بينهما واضح، وممارسة الخير أو الشر لا تحتاج إلا إلى نية صادقة حسنة، والتفريق بينهما سهل ميسور وواضح ظاهر.
والتنشئة تكون على الطموح دائما إلى أخلاق مثالية وهمية لا يمارسها أحد، ولا حتى الآباء والأمهات الذين واللائي يصدعون ويصدعن رءوس الصغار بمواعظ وحكم وخطب عصماء لو أنهم سمعوها وطبقوها -أو حتى نصفها- على أنفسهم لكانوا ملائكة تمشي على الأرض!
أفلام.. روايات.. فضائيات:
ليت الإعلام يقوم بإصلاح ما أفسدته التربية، لكنه يستكمل هنا مسيرة الإفساد والتشويه بخلط الأمور وعدم تصحيح الوعي؛ فالحب عالم وردي، والزواج السعيد جنة الله على الأرض، والزوج الصالح مسئول عن منح زوجته كل شيء ماديا ومعنويا، جسديا وعاطفيا، وهذه هي "القوامة"!
والزوجة الصالحة هي ينبوع الرحمة والحنان، ومصدر الإغراء والإثارة، والإشباع الجنسي والعاطفي لزوجها، وهي عمود بيتها ترعى شئونه، وتقوم عليه في كل حاجاته من نظافة وتغذية ورعاية أطفال.
ولا تقول لنا الروايات والأفلام مثلا كيف يكون الحبيب الزوج كذلك وهو مضغوط في عمله، محاصر بالمائلات المميلات اللائي يعرضن بضاعتهن وأنفسهن، ولا يرى أن حوله أيضا مثيلات زوجته من المرهقات الساعيات في أعمالهن وعلى شئون بيوتهن! ولا تشرح لنا مقاطع الفيديو كليب كيف تحتفظ الزوجة بقوامها الرشيق الممشوق بعد إنجاب طفل واثنين وثلاثة، ومتى ستمارس تدريبات الأيروبكس وسط الطبخ، وصراخ الصغار وحاجاتهم!.
ولا أحد يتكرم فيشرح للناس أن الرجال غير النساء في بعض نواحي التركيب النفسي والعاطفي احتياجا وتعبيرا، وهذا أساسي، ولا يتكرم أحدهم فيشرح للمشاهدين أن ما يرونه على الشاشة هو محض كذب مصنوع؛
بأصباغه وألوانه وأضوائه وبريقه، وأن هذه المذيعة لا تلمع هكذا في بيتها، وأن تلك العارضة أو الممثلة لا تتألق هكذا حين تمرض أو تحمل أو تلد، أو حتى حين تكون بلا أصباغ أو ابتسامات مجاملة.. لا أحد يتكرم بالشرح للسادة الغافلين عن أن الصورة غير الواقع، بل أجمل بكثير، أو أن الروايات الرومانسية غير حقائق الحياة من لحم ودم، وأن الثقافة واللباقة أو الأناقة أو النشاط لا ينشأ من عدم. وتتراكم في الذهن معايير ومقاييس، والمزيد والمزيد من المواصفات القياسية التي يحاكم بها كل شريك شريكه، وكأنها هي البديهي والطبيعي والمتوقع!
إحداهن تعودت منذ طفولتها ألا تدخل إلى فراشها إلا وهي مغتسلة تفوح منها روائح الصابون المعطر والشامبو، وهي تغضب حين لا يفعل زوجها مثلها -رغم أنها تلفت نظره- وترى ذلك من بديهيات النظافة، ومن الغريب المدهش ألا يفعله أحد! وأحدهم يضيق حين تنتقد زوجته طريقته في الحديث للأولاد حين يمازحهم متلاطفا ومناديا لهم: يا بنت الـ...، ويا ابن الـ...، كما كان يفعل أبوه معه ومع إخوته!
وملايين الزوجات غاضبات من أزواجهن لأنهم لا ينظرون إليهن مثلما ينظر "كاظم الساهر" إلى فتياته في مشاهد الفيديو كليب، أو لا يحتضنها من الخلف كما فعل ليوناردو دي كابريو في تيتانيك...! والرجال ثائرون لأن زوجاتهم لا يخطون في رشاقة نانسي، أو لا يتغنين مثل هيفاء أو أليسا أو الباقيات ممن تضيق الذاكرة عن حفظ أسمائهن!
والبعض يقول هذا صراحة، والأغلبية لا تقول، ولكن كله مخبوء هناك في "الأيزو".
خيبة الأمل:
لا تأتي خيبة الأمل هنا ببطء.. راكبة جملا، كما في المثل العامي المصري الشهير "خيبة الأمل راكبة جمل"، ولكنها تأتي أسرع من ذلك، فالزوجة التي تزوجت لتحصل على مدد لا ينقطع من العواطف، وسكن دافئ، وأحضان أمان، وقرة عين لا تنقضي ولا تنفد، تجد نفسها مسئولة عن زوج وبيت، ومطالبة بأن تعطي لتأخذ، وربما تعطي ولا تأخذ.
والزوج الذي تزوج حتى يفرغ شهوته، ويطفئ نار غريزته، ويفتح بيتا يستقر فيه وبه، يفاجأ بأن تكاليف هذا البيت أكثر من مجرد بعض الأموال ومن رعاية عابرة في المواسم أو أوقات الفراغ، ويندهش حين يجد زوجته قد اختلفت عن أيام الخطوبة والشياكة واللمعان، و"ظهرت على حقيقتها" كإنسان له عيوبه وحاجاته، يأخذ ويتطلب، ويعطي أحيانا، وقد لا يستطيع أو لا يريد أن يعطي أحيانا أخرى.
وتكون الصدمة مضاعفة حين "يكتشف" أن زوجته ليست كما كان يعتقد من كمال و"التزام" و"دين"، وأن هذه الألفاظ والقيم حمالة أوجه، وفيها درجات وتنويعات، وربما يكون فهم زوجته لها وتطبيقها ليس لخلل فيها، لكنه راجع للاختلاف عما كان في رأسه هو، وفي تصوراته ومعتقداته وتوقعاته منها حين قيل عنها:
إنها "ملتزمة"، ففك هو شفرة هذه الكلمة على ما في رأسه ومواصفاته القياسية، بينما هي في الحقيقة تعبير عن مواصفات أخرى ومقاييس أخرى في رأسها هي، نتجت عن التنشئة وغيرها، كما نحاول أن نشرح هنا، ويبدأ في لومها أو يتهمها بغشه أو الكذب عليه.
وقد تصرخ هي -بينها وبين نفسها، أو لأسرتها وصديقاتها: خدعني، ويجرحني.. حين لا تجد زوجها مثلما تتصور أو "مثل زمان".. يلمس ويعطف ويجامل، وتجهل أو تغفل أو تتغافل أن الرجال أحيانا يزهدون... كما يطلبون الجنس أحيانا أخرى، وأنهم مثل كل البشر يمكن أن يكونوا أحيانا ثقلاء سخفاء متهربين من المسئولية، مستمتعين بالكسل، متضجرين من الملل الجنسي والحياتي، أو يكونوا مصابين بالجهل الجنسي أو العاطفي.
ولأن "الأيزو" هناك كامن ومسيطر تتحول صدمة الحقيقة –وكان ينبغي أن تكون فرصة لمراجعة الذات وتصحيح الأفكار والصور الذهنية والممارسات- تتحول إلى خيبة أمل، وإحساس بالمرارة، ورفض للشريك، وربما الزواج كعلاقة!
الحلول الشائعة:
إذا كانت النتيجة التي وصلت إليها العلاقة في تقدير أطرافها هي الفشل، فلماذا الاستمرار في تكرار الفشل؟ وإذا كان الزواج في بداياته أو كان بلا أطفال فإن الانفصال هو الحل الذي يسعى إليه أحد الطرفين سريعا أو كلاهما. أما في حالة وجود أطفال فإن الزوج غالبا ما يتجه إلى التفكير بالزواج الثاني ظنا منه أن الثانية ستكون خيرا له من الأولى.
ويندلع الجدل ولا ينحسم عن حق الرجل في أن يفعل هذا أو لا يفعل، وقد تكتشف الزوجة أنها كانت مبالغة في توقعاتها، وقد تكتشف بمجرد المقارنة أن زوجها -في أسوأ الاحتمالات- أحسن من غيره فتبقى في ظله لأنه أفضل من ظل حائط منزل أبيها، وأنه -أي زوجها- بكل ما فيه أفضل من فراش بارد أو بيت فارغ. وقد تتجه بعض الزوجات إلى علاقات خارج الزواج بأية درجة أو صيغة لتعويض الفشل أو خيبة الأمل، وبدلا من هدم البيت وتشريد الأولاد!
وتنتحل الأعذار والتبريرات والتكييفات لقلب الخطأ صوابا، والحرام حلالا، ولتبرئة الذات من الإثم إذا وقع، ولا يدري أحد أن الإثم الأكبر هو الإبقاء على هذا الصنم الرابض في الخفاء.. في قدس الأقداس الذهنية والقلبية.. قائم هناك في قائمة المواصفات القياسية والأحلام والتوقعات الوردية الرومانسية الخيالية المثالية.
من يجرؤ على المساس به وتعريته ونقده ومراجعته؟ من يجرؤ على الحديث الصريح عن الحاضر الغائب في حياتنا العاطفية والجنسية والزوجية؟ من يجرؤ على الحديث عن "الأيزو"؟!
واقرأ أيضًا:
أكذوبة الأيزو الإنساني: تصحيح مفاهيم / أيزو الزوجية ومشاركة حامية / نفس اجتماعي: أيزو الجسد