تعذيب... كالماء والهواء
تعبير مُبتكر عن انفصالهم النفسي عنا، لكنه مُهين للكرامة الوطنية.. بفُجر.
على اليوتيوب يصطف طلبة الشرطة في مدرج بأكاديميتهم، وفق مشهد رسموه مُسبقاً. يؤدون التحية العسكرية، مع بسمة ساخرة.. تصبح ضحكات مُستهزئة مع نغمات "بلادي، بلادي، لك حبي فؤادي"، وسرعان ما "ينقلب" (النشيد الوطني) إلى نغمات/ نهيق الحمار، مع رقص يُذكرنا بـ "شعللها.. شعللها".
مع عزف نشيد ورفرفة علم أي "وطن"، تهتز مشاعر وأبدان.. من تربى على الانتماء لهما. درست بحقوق عين شمس.. كما درس طلبة الشرطة، منهجا واحدا على أيدي ذات الأساتذة. ما الذي وضعهم في خانة من يستبيح أجساد وأعراض "أهله"؟ وربى من تلاهم على إهانة مقدسات الوطن، لينضموا إلى من نحت الخال عبد الرحمن الأبنودي ملامحهم بدقة.. "ويهين المعنى الضابط / ويدوس بالجزمة على الحلم/ ربنا رازجه بجهل غانيه عن كل العلم".
لم يترب اللواءان حبيب العادلي وإسماعيل الشاعر، الأعلى بالجهاز، في ذات المناخ. هما، ومجايليهما، "تربوا" على ثقافة شرطية مناقضة لما يُشرفان على تنفيذه الآن، لم تكن قد تحولت لما أسماه الراحل د.محمد السيد سعيد (عنصرية اجتماعية)، تعليقاً على الوحشية التي عومل بها ضحايا كارثة الدويقة، ومعايرة ضباط لهم: لو عائلتي مثلكم كنت قتلتها. في سبتمبر 2008، بالزميلة (البديل)، كتب المُفكر الراحل: "في الستينيات قد يُفصل من يصف الناس بهذه الطريقة، حتى لو كان ضابطاً كبيراً. كان الضباط يدركون أنهم ينتمون للشعب، وللمشروع الوطني الذي مس الكل، فالأمة كلها تتطلع للنهضة والتقدم". ثم يرصد، رحمه الله، ميلاد.. فتطور نظرتهم العنصرية، من "خدم" إلى "أسياد" للشعب. نظرة "طالت أقلية ضئيلة بالسبعينيات، كبرت بالثمانينيات، هي اليوم أغلبية".
يتذكر من حول الخمسين عاماً، أن المعاملة بأقسام البوليس كانت مختلفة تماماً، لكن "المسافة بين الستينيات والآن ليست مجرد زمن، بل انقلاب شامل بالثقافة المهنية للشرطة"، وفق توصيف د.السيد سعيد. الذي، بدقته العلمية، يُشرّح عنصرية ثقافة أغلبيتهم. فهم يرون أنفسهم "جنس مختلف عن الفقراء والفلاحين وصغار الموظفين"، ونظرتهم إليهم "لا تختلف عن تصور البيض، القديم، لزنوج أمريكا".. و"الفقراء ـ خاصة بالعشوائيات ـ ليسوا سوي حيوانات".
أجواء كليب إهانة النشيد تفضح "جهل يُغني عن كل العلم"، سيليه عجز مهني مُريع. بيومية (العربي) قبل 12 عاماً، نقرأ مانشيت إقالة مدير أمن القليوبية لتستره على واقعة تعذيب بقسم قليوب، ثم التراجع عن القرار تحت ضغط البيت الرئاسي. بالطبع لم يكن العادلي ضد التعذيب كمبدأ، كان ضد تفشيه بما يُهدر "كل" مهنية وزارته، أو ضد فشل الضرب "الكُتيمي"، أو ضد فوضى مدرسة "تعذيب جسد شرير"، التي يقنع بعضهم ضميره بها. حتى بهذا المنطق يبدو مثيرا لـ"الغيرة المهنية"، لمن "تأسسوا" في أجواء مختلفة، أن تقتصر "كل" المهنية.. على البطش، كما نرى الآن. فالداخلية هي إحدى وزارتين لا يمكنها التحجج بغياب الإمكانيات التي تُحيي دورها كجهاز مهني حقيقي، فبـ"سهولة" تضخم أفراد الشرطة من 150 ألفاً عام 1974 إلي أكثر من مليون، ومن 9% من العاملين بالدولة إلي 21%. يعلم اللواءان أن أداء الجهاز الذي "ينتمون" إليه كان أكثر مهنية عام 1974.
مع المليون ومائتي ألف، وأقاربهم وأصدقائهم المستفيدين من سلطتهم، سندرك مع الأبنودي أننا "شعبين.. شعبين.. شعبين". الأول تدعمه ثقافة مُعادية للدستور، الذي ألزم الشرطة بأن تكون "في خدمة الشعب وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن". وتُناقض المادة الثالثة من قانونهم التي أوجبت عليهم "حماية الأرواح والأعراض والأموال". ثقافتهم، هي"تطبيق عملي" لتوصيف شاعر الشعب: "في ميدان الدنيا فكيتوا لباسها/ بانت وش وضهر/ بطن وصدر". كان الخال يفضح تعذيباً سياسياً، يظل جريمة بشعة، لكنه اقتصر على السياسيين كما كتب فهمي هويدي. لم يتوقع الأبنودي حين كتب، أن "تعرية البطن والصدر" ستصبح أمراً واقعاً.. لا تعبيراً مجازياً.
فهتك الأعراض أصبح سياقاً مهنياً، يفضح تشوهاً نفسياً لدى ممارسيه. وكما فعل الضابطان إسلام نبيه وأحمد عثمان، فعل مئات الضباط مع آلاف المواطنين. لا فرق عندهم بين شارع أو قسم، صغير أو كبير، ذكر أو أُنثى، صعايدة أو فلاحين، بدو أو قاهريين. أصبح التعذيب كالماء والهواء، ورسالة تصفية (خالد سعيد) حاسمة: لا أحد بعيد عن بطشنا.
ثقافة مُعاداة الدستور، تتجلى في كمائنهم المنصوبة، فهي مع تقيدها حرية التنقل، تحول 84 مليون مصري إلى "مُشتبه بهم" في "جريمة ما". ببرنامج (بلدنا بالمصري) ليلة التعديل الأخير للطوارئ، عقب مدير أمن سابق على تمنيات حمدين صباحي بأن "يخف شوية الاشتباه المفتوح"، بأن الشرطي يحق له إيقاف أي مواطن وفق القانون العادي وتفتيشه. قواعد الاشتباه محددة قانوناً، وليس منها ما يفعلونه بالشوارع والكمائن، لكن مدير الأمن تصرف لعقود خارج الدستور، و"ربى" المئات من تلاميذه على ذات الثقافة.
لكليب إهانة النشيد الوطني وجهاً إيجابياً، فمنظومة القهر تتآكل ذاتياً، بالتوازي مع بشائر نبوءة الأبنودي عن تحرك المقهورين: "أكيد فيه جيل/ أوصافه غير نفس الأوصاف/ إن شاف.. يوعى/ وإن وعي.. ما يخاف".
واقرأ أيضاً:
أغنية راب مصرية للشهيد خالد سعيد من حاتي مصر/ لو كان خالد ابن وزير.. كانت رأس العادلي تطير/ شهيد الصمت
التعليق: أنا لا أتفق معك فهؤلاء الضباط ليسوا من كوكب آخر بل هم من هذه البلد مثلك فمنهم والدك ومنهم أخوك ومنهم صديقك هم نتاج هذا المجتمع فإذا أخطئوا فالعيب عيب مجتمع وليس عيبهم.
وأعيب كل العيب علي منهم يقولون أن الضباط سيئون لأنهم يحكمون علي الضباط جميعهم بذلك مع العلم أنهم ليسوا جميعا هكذا فالأغلبية العظمي من الضباط شرفاء يضحون بأنفسهم من أجل هذا الوطن لماذا لا نذكر هذه النماذج المشرفة وننظر لهذه النماذج السيئة مع العلم بأنهم قلة؟