مارس العديد من الحكام عبر التاريخ وما زال بعضهم يمارسون لعبة العبث بالتاريخ، محوا أو إضافة أو حتى اختلاقا، وتحمل الآثار الفرعونية القديمة العديد من الأدلة المادية على ولع الفراعنة بمحو الفرعون الجديد لاسم الفرعون السابق ولكل ما يمكن أن يشير إليه. لقد صارع تحتمس الثالث الملكة حتشبسوت ونجح في إزاحتها من على العرش ومن الحياة، ثم لم يلبث أن حاول محو وجودها من التاريخ؛
فأقدم على محو اسمها من حوائط المعابد، وتهشيم صورة وجهها من على التماثيل، وتحطيم مسلاتها، وحين استعصت عليه واحدة من تلك المسلات، أحاطها بجدار عال يحجبها عن الرؤية، وظن أنه بذلك قد محى ذكر حتشبسوت من التاريخ؛ ومضت السنوات وأزال مكتشفو الآثار تلك الجدران لتظهر مسلة حتشبسوت شامخة، وتبقى إلى يومنا هذا مقصدا للزوار من كافة أنحاء الأرض يسمعون حكايتها وحكاية محاولة محوها بكافة اللغات.
ورغم كل ذلك فإن أحدا لم يستوعب الدرس، واستمرت المحاولات حتى يومنا هذا للعبث بالتاريخ سعيا إلى اصطناع تاريخ جديد يتفق مع أهواء صناعه مهما كان ابتعاده عن الواقع.
لقد شهدنا محاولة محو اسم محمد نجيب أول رئيس لأول جمهورية في بلادنا، كما شهدنا لفترة طويلة عقب هزيمتنا عام 1948 محاولة محو اسم إسرائيل من خرائطنا وأحاديثنا باعتبارها "دولة مزعومة"، ونجحنا في ذلك تماما فاختفى اسم إسرائيل من خرائطنا ومناهجنا الدراسية، وظلت إسرائيل غائبة رسميا عن وعينا حتى هزيمة 1967 حيث بدأنا الوعي بوجودها والتعامل معه حتى تحقق انتصار 1973، ثم شهدنا محاولة إخفاء صورة الفريق الشاذلي من الصور التاريخية لأبطال حرب أكتوبر، وما زلنا نرى شوارع عاصمتنا تحمل لافتات مستجدة تحاول أن تخفي أسماء فاروق وفؤاد وسليمان باشا والملكة نازلي والملكة فريدة إلى آخره فضلا عن لافتة بحيرة السد التي تخفي لافتة بحيرة ناصر، وما زلنا نشاهد في بعض أفلامنا القديمة آثار محاولة محو صورة الملك فاروق، بل ومحو أسماء من خرجوا على الخط السياسي من الممثلين.
ولا يقتصر الأمر بطبيعة الحال على بلادنا، فالظاهرة متكررة في عديد من البلدان حيث تحاول السلطة فرض تاريخ معين على الشعوب، بل وتحريم مجرد مناقشته كما هو الحال على سبيل المثال في حرص إسرائيل على تحريم مجرد "التشكيك" في تفاصيل جرائم الإبادة التي ارتكبها النظام النازي وطالت يهودا كما طالت غيرهم والأمثلة تجل عن الحصر، فثمة جماعات سياسية اصطنعت لنفسها تاريخا موغلا في القدم لا أساس له من الواقع، أو حاولت عبثا أن تمحو حقبا كاملة من تاريخها كأنها لم تكن.
ولكن يبقى السؤال: ترى ما تفسير ذلك الإصرار على تكرار ممارسة نفس السلوك الذي ثبت فشله عبر التاريخ؟ إن الأمر أشبه بذلك السلوك الطفلي المتعلق بسحر الكلمات لدي الأطفال، ولعلنا نستطيع لو تأملنا تصرفات أطفالنا خلال طفولتهم المبكرة أن نكتشف حقيقة أن الطفل يرى الغياب معادلا للاندثار حتى ولو كان غيابا لحظيا، بحيث أن غياب الأم عن عينيه يعني أنها ذهبت ولن تعود.
لقد وقف علماء التحليل النفسي أمام هذه الظاهرة، وفسروا من خلالها ما يلجأ إليه الطفل من لعبة "الإخفاء والإظهار" بمعنى أن يلجأ عامدا إلى إخفاء لعبته والتظاهر بالبحث عنها ثم الابتهاج بالعثور عليها، أو بأن يغرينا بمشاركته اللعبة بأن نخفي وجوهنا عنه ثم نظهرها بغتة مستمتعين بضحكاته السعيدة، باعتباره تدريبا على تقبل حقيقة أن الغائب قد يعود وأن الاختفاء أو الإخفاء لا يعني العدم.
ولعلنا نلحظ في سلوكنا نحن الكبار أيضا آثارا لذلك السلوك القديم حين نبادر تلقائيا فنغمض عيوننا إذا ما وقعت على ما يثير الفزع كما لو كنا بذلك ننفي ذلك الوجود المفزع من الواقع، أو حين نحجم عن الانصياع لأوامر الأطباء فيما يتعلق بإجراء الفحوص الدورية خوفا من اكتشاف مرض خطير؛ كما لو كنا نعتبر أن ما لا نعرفه لا وجود له، وأنه إذا كان ثمة ما يصعب مواجهته واقعيا من التحديات المزعجة، فليس على المرء سوى أن يتجاهله فيتناساه فينساه فيختفي من وعيه، ومن ثم يختفي معه ما يسبب له الألم.
إنه الخوف من احتمال اكتشاف "الحقيقة"، وعدم الثقة في القدرة على مواجهتها. إنها حيلة الإنكار التي يمارسها الأطفال، ويلجأ إليها العديد من المرضى النفسيين، أما إذا انتقلت الظاهرة إلى مجال السياسة وتطبيقات علم النفس السياسي، فإن الإقدام على اصطناع وعي زائف للشعوب، وهو ما ثبت فشله على مدى التاريخ، يصبح مقامرة خطرة ساذجة.
إن التاريخ شأن الحاضر عرضة دوما لتعدد القراءات، بل وحتى للتحريف والتشويه، ولكن في ظل الانفجار الإعلامي الذي لا يكاد يترك شاردة ولا واردة إلا أحصاها من أكثر وجهة نظر، أصبح مستحيلا ممارسة تلك اللعبة القديمة: لعبة العبث بالتاريخ إخفاء أو إضافة أو اصطناعا.
أخذا عن الشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضاً:
الإعلام، وصناعة تاريخ بديل / الإعلام وصناعة تاريخ بديل 15/10/2006 / صفحات مشرقة من التاريخ العربي