أصول الخلاف بين النفسانيين وثقافة مجتمعاتنا (2)
ثانيًا: مصدر العلوم النفسية الحديثة:
يدور الخلاف في الأصل الثاني حول مصدر العلوم النفسية الحديثة، حيث يرفض المجتمع هذه العلوم لاستمدادها من الغرب، من أناس بعيدين عن الإيمان، وبالتالي احتواؤها على آراء ونظريات مخالفة للمبادئ الإيمانية عمومًا، والإسلامية خاصة...
فمجتمعنا لم يعرف إلا العلوم النفسية المستوردة عن طريق من درس في الغرب -في القرن التاسع عشر- وأتى بأفكاره في قطع علاقة العلم بالدين وحصر طريق المعرفة بالعقل وحده، وذلك بعد أن تراجعت سائر العلوم في البلاد العربية والإسلامية للأسباب المعروفة في تلك الفترة وما سبقها...
ومجتمعنا مجتمع مؤمن، يؤمن بحقائق بيَّنها الله تعالى، تتناول النفس البشرية، وعلاقتها بربها، وكيفية تقويم سلوكها وتصحيح أفعالها...، لهذا من الطبيعي، بل من الواجب أن يرفضوا أي شيء يتعلق بالنفس البشرية، إذا لم يكن قائمًا على أسس ونظريات توافق إيمانهم بالله تعالى وما بيَّنه في شريعته.
ومن الواضح أن من لم يعرف حقيقة الشيء لا يمكنه علاجه وإصلاحه، فكيف يثق الناس بعلاجات علماء النفس الغربيين العلمانيين والملحدين، وهم لم يهتدوا لمعرفة نفوسهم بعد، ولم يؤمنوا بحقائق النفس البشرية الثابتة بالوحي الإلهي؟! لاشك أن ما يأتي من عند هؤلاء يفسد بدل أن يصلح، ويمرض بدل أن يعالج...
كيف يثق مجتمع مؤمن بالتحليل النفسي وواضعه فرويد العلماني اليهودي الأصل؟ كيف يثق بما يقوله وهو ينتهج نظرية مضحكة في تفسير السلوك الإنساني على أساس الشهوة الجنسية؟ أو هو يجعل الأمراض النفسية نتيجة الصراع بين الغرائز والمثل والأخلاق ثم يضع علاجاته على هذا الأساس؟ وكيف يثق بمن يحاول تطبيق نظرية داروين الإلحادية في النشوء والتطور على السلوك الإنساني؟
لهذا فخير طريقة وجدها المجتمع للتعامل مع هذه الثقافة الجديدة الوافدة –المرتبطة بالفلسفات الباطلة- أن يلغيها من أصلها، فلا فائدة في النظر في الفروع ما دام الأصل باطلًا، لأن ما بني على باطل فهو باطل...
مناقشة هذا الأصل وحل الخلاف:
لا شك أن المجتمع كان محقًا في نظرته الأولية تلك للعلوم النفسية، وذلك أن الاختصاص النفسي مهما كان تجريبيًا فإنه لا ينفك عن فلسفة سلوكية وأخلاقية ما يقوم عليها، فالجراح يمكنه أن يجري عملية جراحية في جسم المريض دون أي تدخل بمعتقداته، أما المختص النفساني فلا يستطيع علاج المريض ما لم يتدخل بأفكاره، ومشاعره...، أي بما يؤمن به ويعتقده...، حتى الطبيب النفساني الذي يعتمد العلاج الدوائي فقط، لا بدّ له من هذا التدخل ولو على سبيل النصح لا العلاج المنظم...
ومما زاد الطين بلة وجود مختصين نفسانيين ذوي ثقافة دينية محدودة، مما جعلهم يقعون فريسة كثير من الأفكار المغلوطة التي درسوها، ويقومون بترويجها والدفاع عنها دون أن يشعروا...، فعملوا على ترسيخ العداوة لهذا الاختصاص في المجتمع...، ونسمع أهلنا يتحدثون عن فلان الذي أصيب بالاكتئاب –مثلًا- فأمره الطبيب بألا يضغط على نفسه، وألا يصلي إذا كانت الصلاة تسبب له إرهاقًا ما، وغير ذلك...
وهذه النظرة سببت معاناة للمجتمع نفسه قبل أن تسبب مشكلة للاختصاص والمختصين النفسانيين...، ذلك أن كثيرًا من الناس يعانون من عوارض نفسية، وهم بحاجة لمن يفهم عليهم، ويداوي آلامهم، فكان خيارهم الوحيد –بعد أن لم يجدوا بغيتهم في الاختصاص النفسي الوافد- كان خيارهم أن يذهبوا إلى أقرب من يعتقدون فيه الحكمة والخبرة، ويثقون به ممن يطابق أفكارهم...، فمن يستهويه الدجل أو ينطلي عليه، يذهب للدجالين..، ومن يحكم العقل والعلم يذهب للعلماء والمشايخ، وهؤلاء الآخِرون لهم أثر طيب في إزالة معاناة النفوس، إلا أنهم لا يمكن أن ينجحوا في إزالة المعاناة في الحالات الشديدة التي لها ارتباط بخلل عضوي يحتاج إلى علاج يناسبه سوى المساندة النفسية وإسداء النصح، ويبقى صاحب أمثال هذه الأمراض، يعاني ويعاني ولا راحم له إلا الله تعالى...
ولا يلجأ الناس للطبيب –غالبًا- إلا في الحالات المستعصية التي يئسوا فيها من المريض، وظهرت عليه علامات الجنون والمرض التي لا يختلف عليها اثنان.
غير أن هناك حقيقة مهمة تغيب عن أذهان الناس، سبب غيابها في تعميق نظرتهم السلبية للاختصاص النفسي، وعدم الموضوعية في الحكم عليه، وهي: أن العلوم النفسية نوع من العلوم التي اعتنت بها الأمم، شرقية كانت أم غربية، مؤمنة كانت أم كافرة...
فالاختصاص النفسي ليس عبارة عن نظرية ضالة، أو منحرفة، وإنما هو عبارة عن علم يهتم بالنفس الإنسانية تناولته الأمم المختلفة بالدراسة، وكان لكل منها منهجه الخاص، وفلسفته المعينة، وتجاربه المختلفة، المتوافقة مع عقائدها ونظرتها للإنسان، مثله مثل الطب، وعلم الفلك، والتاريخ، وغير ذلك....، وكما أن هناك علم نفس غربي، كذلك هناك علم نفس عربي وإسلامي، ولكنه دفن مع سائر العلوم التي لقيت حتفها لما ضعفت أمتنا وتخلفت في سائر المجالات العلمية والعملية...
فما ينبغي أن نشمئز من علم يسمى (علم نفس، طب نفسي)، ولا أن ننكره من أصله، بل ينبغي لنا أن نعود فننفض الغبار عن نظرياتنا وعلاجاتنا الخاصة بنا، ثم نقوم فنمحص ما سبقَنَا به غيرُنا وما سطروه أثناء نومنا وغفوتنا الطويلة، فنضيف إلى نظرياتنا ما لا يتنافى معها من جهودهم ونعترف لهم بالفضل الذي قصرنا في تحصيله، ثم نتابع مسيرتنا مستقلين عن غيرنا ومستفيدين منهم في آن واحد...
لكن هذا أمر ليس بالهين، ويحتاج إلى كثير من الجهد والدعم المادي والمعنوي، والعمل الجماعي المنظم، وكل هذا مفقود بل محارب من كثير من أبناء المجتمع، ومن كثير من المختصين النفسانيين!
وريثما يكتب الله لهذا المشروع الحضاري بالظهور، ليس أمامنا إلا استثمار الجهود الفردية الطيبة التي يقوم بها المختصون النفسانيون -ومن معهم من غيرهم- للاستفادة من علوم النفس الحديثة بشكل يؤدي المطلوب دون أن يتعارض مع معتقداتنا وما نؤمن به.
فالنفس البشرية لها حق في العيش السعيد المنتج، وفي التخلص من آلامها، وفي معرفة مصدر هذه الآلام، وإيجاد دواء مناسب لكل ألم...، ولا يحق للمجتمع أن يعذبها ويحرمها الراحة انتصارًا لأفكار تبناها لظروف معينة، وفي وقت معين...، بل هو مسؤول عن إعطاء هذا الجانب حقه من العناية والدراسة، ويفرض ذلك على جميع المسلمين فرضًا كفائيًا –كما في سائر العلوم- فإن جاء من المسلمين من يكفي المجتمع حاجته في هذا تم الفرْض، وسقط الإثم عن الجميع، وإن قصروا فلم تحصل الكفاية، أثم الجميع إلا من حاول...
على المجتمع ألا ينسى أن المريض النفسي إنسان له مكانته بين البشر وله حقه عليهم، حتى إن فقد عقله، وفي كلام الغزالي الذي سأنقله ما يدل على قيمة الإنسان وتكريمه في الشريعة المطهرة، يقول في كتابه إحياء علوم الدين: (ونمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة وشرب الخمر وكذا الصبي، لا صيانة للبهيمة المأتية أو الخمر المشروب، بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر وتنزيهًا له من حيث إنه إنسان محترم). فرحم الله أسلافنا وعلمائنا الذين عرفوا الإنسانية وفهموها فهمًا نفتقده هذه الأيام مع العقلاء فضلًا عن المجانين!!
وهذا يقودنا إلى تساؤل: كيف يمكننا الاستفادة من العلوم النفسية الحديثة بما ينفعنا ويحافظ على عقائدنا وشخصيتنا؟
لاشك أن ما يتبناه الاختصاص النفسي من نظريات أو علاجات قائمة على فلسفات إلحادية وغير مقبولة لدى المؤمنين في فهم الإنسان والكون، لا يقبل ولا يؤخذ به بحال من الأحوال، لأن ما بني على باطل فهو باطل.
ولكن علينا ألا ننسى أن هذا الاختصاص لا ينحصر في تلك الفلسفات، وإنما له جانب آخر يطبق فيه منهج العلم التجريبي للوصول إلى الحقائق المتعلقة بالنفس البشرية، وهذا النوع من الحقائق لا يتصور فيه وجود التعارض مع الدين والعقيدة، فهو كسائر العلوم التجريبية الأخرى التي نأخذ بها ونستفيد منها...
وقد توصل الاختصاص النفسي بواسطة هذا المنهج إلى كثير من النتائج الطيبة التي يمكننا الأخذ بها والاستفادة منها...
فعلى سبيل المثال: مبادئ وقوانين التعلم إنما وصل إليها العلماء عن طريق دراسة تجريبية لعملية التعلم، واستطاعوا من خلالها تنظيم عملية تربية وتعليم الأطفال...
كذلك هناك تجارب ومقاييس وضعت لمعرفة الذكاء والقدرات العقلية، أو لقياس قوة التحمل، أو سرعة التعب، الخ...، كل هذا يمكن الاستفادة منه وتطبيقه على أمور حياتية كثيرة دون نكير...
إضافة إلى الدراسات النفسية التجريبية البارزة تلك التي أجريت في المجال الطبي النفسي والصيدلاني، والتطور الكبير في العلاج الدوائي لكثير من الأمراض النفسية منذ خمسينيات القرن الماضي إلى اليوم...، والذي جعل ما يقال عن الأدوية النفسية، من أنها عبارة عن مهدئات ومخدرات تخدر الحس، أو تسبب الإدمان، الخ...، أو ما يقال من أن العلاج النفسي مجرد كلام أو تشجيع يستطيعه أي شخص قريب من المريض...، جعل من كل هذه الأقاويل شبهات غير سائغة وغير مقبولة...
فكل هذه الأمور التجريبية ينبغي الاستفادة منها، وعدم إغفالها، فنتائجها موضوعية لا تختلف بين البشر، ومن السذاجة بمكان أن نرفضها بحجة أنه من مفرزات أمم لا تحرم ولا تحلل، ولا معرفة لها بنفوس البشر، لأننا بذلك نكون كمن يرفض سائر العلوم الطبية أو الكيمائية، أو الفلكية التي توصل إليها الغرب بالتجربة والملاحظة...
يبقى الآن: كيف نوضح هذا لأبناء مجتمعنا؟
إن العبء الأكبر يقع في هذا على طرفين:
الأول: الأطباء والمعالجين النفسانيين: الذين ينبغي أن يحسنوا عرض صالح ما لديهم على عامة الناس. وبقدر ما يكون هؤلاء قريبين من أفراد المجتمع، وعلى معرفة واسعة قوية بثقافتهم، وبقدر احترامهم لما لدى الأفراد من خير وأفكار صحيحة، بقدر ما يستطيعون إزالة الشبهات وإقناع الناس، بطريقة عملية أثناء وجودهم بينهم في حياتهم اليومية، وأثناء علاجهم للمرضى، دون أن يحتاجوا لكثير كلام وشرح...
والثاني: علماء الدين: الذين يثق الناس بهم، ويتعلمون منهم أحكام الحلال والحرام، وأحكام ما استجد من مسائل. فهؤلاء يجب على فئة منهم أن تلم بأصول العلوم النفسية، وأن تتفرغ لدراستها من الوجهة الشرعية، لتوجيه الناس إلى ما ينفعهم منها، وتعديل نظرة المجتمع وفقًا لما يقره الدين من غير إفراط ولا تفريط...
ولا يستطيع الطرفان القيام بمهمتهما إلا بالتعاون الجاد بينهما، واحترام بعضهم لبعض، مع إلزام النفس بالخضوع للحقيقة، وتحري الإخلاص، وجعل الهدف الأول من العمل: إرضاء الله تعالى بخدمة الناس وإزالة آلامهم، وتحقيق الكفاية في هذا المجال في المجتمع، مع الحذر الشديد من أن يدخل إلى نفوسهم شائبة الرغبة في إحراز السبق وإظهار الذات والتفوق على الطرف الآخر وعلى سائر الناس...
أسأل الله تعالى أن يعيننا على ذلك، وأن يرزقنا حسن العمل مع الإخلاص والقبول، فهذا كنز عظيم قل من يحظى به، وفيه يكمن سر البركة في العمل وانتشاره بين الناس، واستفادتهم منه...
واقرأ أيضًا:
وصمة المرض النفسي : ليست من عندنا! / المسلسلات النفسية ووصمة المرض النفسي / اعتذار إلى أساتذتي المرضى الطيبين / الطب النفسي الكيميائي