كثيرا ما يوجه إلى سؤال عن رأي "علم النفس" في موضوع أو آخر؛ وغالبا ما أنبه السائل إلى أن ما سأقوله هو رأيي كمتخصص في علم النفس الذي تتباين آراء علمائه شأن غيرهم من العلماء، وفي كثير من الأحيان يبدو تحفظي تزيدا لا مبرر له فيسقطه السائل من إجابتي المنشورة، وفي حقيقة الأمر أن حرصي على ذلك التحفظ يعود إلى بداية تخصصي في علم النفس منذ ما يزيد عن نصف القرن.
في منتصف الخمسينيات، حين التحقت بالجامعة كان غبار أحداث ما عرف بأزمة مارس لم يهدأ بعد، وقبلها كانت أحداث كفر الدوار. كانت كلمات الديموقراطية، والإقطاع، والاحتلال البريطاني، والثورة، والإخوان، واليسار، تتردد مختلطة بأسماء قائمة طويلة لنجوم تلك المرحلة. وفي مثل هذا المناخ تزدهر عادة التساؤلات الكبرى عن حركة التاريخ وتوجهات المستقبل. وكانت تلك التساؤلات تشغل آنذاك غالبية أساتذة الجامعة وطلابها على حد سواء، مما كان يدفع بالعديد منهم إلى الانشغال بالسياسة إلى جانب العمل الأكاديمي.
ولقد عايشت عبر تاريخي الشخصي الأكاديمي تلك العلاقة المتبادلة بين التخصص الأكاديمي في علم النفس، وممارسة العمل السياسي المباشر. ولم أشعر قط بحاجتي لطي الثوب الجامعي خلال ممارستي السياسية، ولا أحسست أبدًا بضرورة إنكار انتمائي السياسي أو التنكر له خلال ممارستي لتخصصي الأكاديمي في علم النفس؛ غير أنني كنت في بداية تخصصي في علم النفس أتصور أن كافة علماء النفس الأمريكيين، وهم أصحاب الثقل الأكبر فيما كنا ندرسه في علم النفس، يضعون معرفتهم بالإنسان في خدمة أهداف الامبريالية الأمريكية.
وفى خضم ذلك التصور كنت ذات يوم في بداية السبعينات أتصفح مجلة شهرية تصدرها "الرابطة السيكولوجية الأمريكية" واستوقف انتباهى عنوان لمقال نشره عالم نفسي أمريكي في صيف عام 1969 هو شسترو. فبورشتاين وكان العنوان "اسم المريض: الولايات المتحدة. المرض: فيتنام". ولم تورد المجلة تلخيصا لذلك المقال مكتفية بالإشارة إلى عنوانه. وخطر لي آنذاك أن المقال قد يكون جزءا من تلك اللعبة القديمة المستهلكة التي استخدمها -وما زال يستخدمها- بعض علماء النفس الأمريكيين وغيرهم بمحاولة تمييع كافة قضايا الصراع الاجتماعي والدولي وعلى رأسها قضية الحرب بإرجاعها إلى أسباب سيكولوجية خالصة وبذلك يتحول "المعتدون" إلى مرضى ينبغي معالجتهم بدلا من محاربتهم.
وحاولت -دون توقع لجديد- أن اختبر صحة ما انتهيت إلىه فأرسلت إلى كاتب المقال أطلب نسخة من مقاله، ولم يمض وقت طويل حتى تلقيت المقال مصحوبا بخطاب رقيق يطلب منى فيه أن أرسل له برأيي فيما كتب. وتحفزت وبدأت القراءة فإذا بالمقال يبدأ هكذا:
"يكفى أن يتحدث المرء إلى مناضل زنجي من أبناء الجيتو، أو إلى طالب ثائر، أو إلى أحد المترددين على هيئات المعونات الخيرية، أو إلى أحد الرافضين لأداء الخدمة العسكرية، لكي تتضح له ضآلة ما قدمه علم النفس لتلك القطاعات الكبيرة من أبناء أمتنا. ترى أين كانت جهود علم النفس والعنصرية تتفشى لعشرات من السنين قبل صدور قرارات المحكمة العلىا بشأن التفرقة العنصرية؟ ترى ما طبيعة الدور الذي لعبه علم النفس من أجل محاربة الفقر، والعنصرية، والعسكرية، ومن أجل إعادة ما اختل من تدريج للمصالح القومية حسب أهميتها؟ ترى ماذا في مقررات علم النفس التي نضعها ونقوم بتدريسها قد أدى إلى مثل ذلك العجز عن التمكن من التأثير الفعال على المشكلات الاجتماعية المعاصرة الكبرى ليست تلك سوى نماذج قليلة من تساؤلات عديدة تواجه علم النفس المعاصر".
وقبل أن أمضى في قراءة المقال أحسست أنني حيال لغة جديدة غريبة تماما عما أعرفه عن علم النفس الأمريكي. لغة تدعو علماء النفس الأمريكيين إلى ضرورة اتخاذ موقف ثوري حيال قضايا المجتمع. وكان مقال فيورشتاين تعبيرا عن اتجاه منظم وعن حركة اجتماعية واضحة الخطوط محددة الأهداف. حركة لها تنظيماتها الراديكالية، ومنها على سبيل المثال "منظمة علماء النفس الأمريكيين من أجل النضال الاجتماعي".
واستمرت متابعتي لذلك التيار المتميز من تيارات علم النفس لأكتشف أن علم النفس لا يمثل موقفًا فكريًا موحدًا متسقًا من القضايا ذات الطابع السياسي كالعنف والحرب والدين والجنس إلى آخره. بل إن علماء النفس بعامة يتباينون من حيث توجهاتهم الفكرية ومصالحهم الاقتصادية ومن ثم من حيث توظيفهم لعلمهم. إن من بين أولئك المتخصصين من كرسوا أنفسهم لخدمة قوي الشر والتعصب والعدوان موظفين علمهم في خدمة النازية، أو المكارثية، أو الستالينية، أو الصهيونية إلى آخره، ومنهم أيضًا من دفعوا من أرزاقهم، ومن حريتهم، بل ومن قدموا حياتهم استشهادًا في سبيل قوي الخير والعدل والحرية، موظفين علمهم في خدمة حركات التحرر أينما كان موقعها. وإذا كان أبناء الفريق الأول قد وجدوا لأنفسهم مكانًا في العديد من التنظيمات الحكومية الرسمية، فإن أبناء الفريق الثاني قد أقاموا لأنفسهم عشرات التجمعات غير الحكومية التي تعبر عن أهدافهم.
خلاصـــــة القـــول: أن أحدا مهما علت مكانته العلمية لا يملك أن يتحدث باسم أبناء تخصصه جميعا كما لو كان يمتلك الحديث باسم "علم النفس" أو غيره من العلوم.
نقلاً عن: الأهرام، 4 سبتمبر 2008
واقرأ أيضاً:
مصر يناير 2041 / ثورة 25 يناير ومكامن الخطر / دروس الانتصار / ثورة 25 يناير وعرس الاستفتاء