بعد الخروج من ميدان التحرير دخلت الطاقة الثورية الرائعة إلى متاهات تدويخ وإرباك، وتعالت أصوات كثيرة متنافرة وعالية تسحب الزخم الثوري بعيدا عن مسار استكمال تحقيق أهداف الثورة إلى مسارات تتسم بالرعونة، أو بنوع من الطفولة الثورية الطامحة إلى استثمار الفرصة لأغراض تبدو لأصحابها مهمة، دون النظر إلى أهداف الثورة الأصلية الواضحة، ودون النظر إلى ما يسمونه فقه المصالح والمفاسد، وفقه الأولويات.
وتحاول القوى القديمة التقليدية بذل كل ما لديها من طاقة للحفاظ على صدارتها للمشهد السياسي والإعلامي، يساعدها في ذلك إعلام الاستسهال، والإثارة، وانحطاط المستوى المهني، وأحيانا أبسط آداب مهنة البحث عن الحقيقة، فإذا بالإخوان المسلمين، وآباء الكنيسة الأرثوذكسية، ووجوه النخب الأكاديمية والرأسمالية، هم الزبائن في لقاءات تعيد وتزيد، وتطرح أسئلة تقودنا بعيدا عن أهداف ثورتنا، وتغرقنا في قضايا فرعية، واستقطابات وحسابات وخطابات تافهة ومحدودة، وأحيانا قديمة وبالية، نفس اللعب على الأوتار القديمة، وإثارة النعرات والعداوات المزمنة، بدلا من تجاوزها، أو العمل على علاجها، ليغرق العنفوان الثوري في اللغو والترهات، واضطراب الأولويات والتعبيرات، ومناخ الشائعات والتخوينات، وعنف الكلمات والملاسنات؛
ويتلقى الجمهور هذا الضخ الآسن على الفضاء الاليكتروني ليعيد إنتاج الشتائم والسخائم، وإفرازات الضغط النفسي، والبؤس الذهني، ثم نستغرب تأخر الثورة في بلوغ أهدافها، أو انحرافها عن مسارها، ويشعر شبابها بالإحباط فتتفرق بهم السبل في البحث عن ثورتهم إما في مطالبة الكبار بتحقيق أهداف الشباب!!! أو في صراخ الغرف والقاعات اعتراضا على ما يجري.
ونظرة هادئة متأملة إلى الخلافات التي تستقطب اهتمامات الناس تكشف سريعا أنها محض مصائد يتبدد فيها رأس المال الثوري، فما هو الفارق الجوهري بين إجراء الانتخابات أو تأجيلها لفترة محدودة؟؟ وما هو الفارق الجوهري بين دستور تصوغه جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب، أو آخر تصوغه لجنة منتخبة من مجلس الشعب؟؟ ومن قال أن بناء الأحزاب والتنافس فيما بينها هو الجانب الأهم في بناء ديمقراطية زمن التحولات؟؟ ومن قال أن هذه الصراعات والاستقطابات من مثل ديني/مدني هي السبل الأنفع في تعبئة الجهود المجتمعية وحشدها لاستكمال أهداف وخطوات الثورة؟؟ ومن قال أن حكومة مؤقتة، وحتى المنتخبة فيما بعد ستكون بحجم تحقيق أهداف ثورة؟؟ وأداة التنفيذ فيها هي نفس الجهاز الحكومي البيروقراطي الفاسد الذي كسرته الثورة، ولم تستكمل قواها تطهيره، فضلا عن بناء غيره!!! ومن سيبني القواعد والكيانات الشعبية المنظمة المطلوبة حتما لمباشرة استكمال تحقيق أهداف الثورة في مرحلة التحول؟؟
وأرى أنه يلزم أن تتحرك جهود الطامحين لانتصار الثورة، واستكمال الإنجاز والتغيير ببناء الجهود والأطر الفاعلة في المساحات التالية:
أولا: الأولوية هي لبناء الذات الثورية، والمجتمع الثوري، والأدوات الثورية، حيث لا يمكن استمرار ثورة دون ثوريين، ولا دون مجتمع يعيش القيم الثورية، ويشارك مباشرة قطاع كبير منه -على الأقل- في هدم وبناء الأجهزة والمؤسسات، ولذلك فإن تجديد وتنمية وتطوير وتأطير الإرادة الشعبية، والمشاركة المجتمعية يبدو ضرورة لابد منها.
ثانيا: مراقبة ودعم وتطوير الأداء الإعلامي من حيث الالتزام بالموضوعية والتدقيق، ومعايير الاحترافية، والمصداقية، ويلزم لهذا تعاون بين الأكاديميين والنشطاء والمتطوعين، وهناك مقترحات كثيرة في هذا الصدد يمكن البناء عليها.
ثالثا: مراقبة ودعم وتطوير الأداء السياسي للأطراف المختلفة، وهي لن تضبط أداءها من تلقاء نفسها، ولكن يلزم جهد أهلي شعبي مدني يقوم على الرصد والتحليل، والمراجعة، والحوار والنقد البناء في مناخ التنافس المحموم، والخوف، والجهل الفاضح، والمبالغات، والرعب والبلبلة
رابعا: بلورة وإنضاج وتثبيت وتجذير واستلهام مرجعية الثورة بوصفها حدثا فارقا، ومشهدا مغايرا للتصورات والقيم والاستقطابات والانسدادات البائسة السابقة عليه، والبناء على عافية الشباب الثوري، واستكشاف ملامحه ومعالم لحظة الإشعاع الرائعة التي كشفت عن أنبل وأفضل ما فينا، لكفالة استمرار مواجهة أسوأ ما فينا.
خامسا: إدارة حوار مجتمعي قاعدي شامل يستكشف التربة المصرية عميقا، ويصل ما بين أصحاب المزاج الثوري، والوعي النسبي، والروح العالية، وبين أولئك الذين ما زال في قلوبهم وعقولهم شكوك وترددات وشبهات، وما زالوا يحتاجون إلى تفعيل وجودهم وتنظيم جهودهم من ملايين المواطنين، وبخاصة الشباب.. العاطلين عن الفعل الاجتماعي، والمشاركة والتنمية حتى لذواتهم.
سادسا: فحص ورصد وتوثيق وإدارة ملفات العدالة الانتقالية الهادفة إلى تطهير البلاد من القيادات والسياسات الفاسدة، وملاحقة ومتابعة جهود المحاسبة والمراقبة، ومن ثم استعادة الأمن بمعادلة التعاون بين الشعب الواعي الإيجابي والشرطة العصرية القائدة.
سابعا: التأسيس الفكري والنظري والخبراتي، المساهم في طرح الأسئلة الأهم، وبلورة مرجعية الثورة في توليد صيغ فكرية ومقترحات حركية مبدعة لمواجهة التحديات الحالية، والمستقبلية.
ثامنا: مراقبة ودعم وتطوير الأداء الحكومي القائم على أجهزة ورثناها غارقة في الفساد والترهل والتخلف الإداري، ولن يتطور الجهاز الحكومي من تلقاء نفسه، بل يحتاج دعما شعبيا هائلا، وتواصلا وحوارا، ونقدا، ومراجعة، وضخ أفكار وخبرات جديدة محلية أو مستوردة للنهوض به.
تاسعا: توليد مقتضيات الثورة وتجلياتها في الميادين المختلفة: لابد من مفاهيم جديدة وثورة تعليمية، واجتماعية، وتنموية، ودينية، وأخلاقية، وأسرية، وشبابية.. لابد من استلهام الروح الجديدة، وقفزة الخيال المصرية في صياغة رؤى جديدة تتناسب مع عالم جديد نشكله، ومرحلة جديدة نبدأها.
عاشرا: إنشاء وتمتين وتعميق صلات تفكير وحوار، ودعم ومشورة، وتبادل خبرات مع الثورات العربية، والأطراف المدنية الدولية المتعاطفة، في دوائر الأكاديميا والإعلام والنشطاء.
حادي عشر: اكتشاف وتجميع وتشبيك الجهود العاملة في هذه المجالات، وبخاصة جهود الشباب، والإعلام عنها، والسعي بجدية لتطويرها وإنضاجها.
إن أية ثورة لا يمكن أن تستكمل انتصارها إلا إذا تطرقت إلى حياة الناس اليومية في تفاصيل العيش، والثقافة والمزاج والممارسات والقيم، والعلاقات بالأديان، والعالم، وبالناس بعضهم بعضا، وبدون مشاركة شعبية موسعة، ودائمة، ويومية، ستظل الثورة مهددة كالكرة تتقاذفها أقدام النخب، وحالة الذهول القومي، والانتظار والارتباك الفردي والجماعي لا يمكن تجاوزها إلا بالفعل الثوري اليومي المنظم الذي يستكمل هدم القديم الفاسد، وبناء الجديد الصالح في كل نواحي الحياة.
إن المجلس العسكري، والحكومة القائمة، والنخب القديمة ليست هي الأدوات التي ستحقق أهداف الثورة لأسباب أغلبها واضح ومفروغ منه، بل إن ترك الثورة للطامحين في قطف ثمارها، أو المتضررين منها، أو الناقمين عليها لن يصل بها إلى خير، ولابد من بناء الأطر الثورية الفاعلة لإنجاز المطلوب.
وبعد فأنا أكتب في هذا الاتجاه منذ التنحي، وأملي ما يزال منعقدا على أن ينصت المصريون لصوت الحلم الذي أخرجهم، وصوت الدم النبيل القاني لشهدائنا الأبرار، وأرواحهم الطاهرة المعلقة بعرش الرحمن، والتي أزعم أنها تراقبنا لتنظر هل نكمل ما بدأوه معنا، أم ننحرف عن المسار؟؟؟؟؟
واقرأ أيضاً:
هم من الاستفتاء، وأخطر من ثورة مضادة/ هنا والآن.. الثورة تكون إزاي؟؟/ كشف الطيش.. في مسألة الجيش/ أهم من الاستفتاء، وأخطر من ثورة مضادة
التعليق: مقال متميز كالعادة د.أحمد، لكنني لم أستطع تخيل الآليات الني يمكننا بها تحقيق المطالب الثورية العاجلة التي تطرحها لإنقاذ الثورة
الدور الشعبي والدخول المتعمق في حياة الناس الحقيقية كيف يمكن بلورته وتأطيره والوصول إلى درجة عالية من الوعي سواءا الشعبي أو الإعلامي؟