بصائر نفسية إسلامية (2)
الخلافة في الأرض أصل كل القيم
قال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ" (الروم:20)، بشر تقفون على وجه الأرض كائنات خلقت على صورة الرحمن، تفكر وتدبر، وتشعر وتحس، وتقسو وترحم، وتعفو وتنتقم، وتعدل وتظلم، وتعلم وتجهل، وتعطي وتمنع، وتتبع الحق أو تستكبر عليه… إنهم خلفاء في الأرض شاءوا أم أبوا، إذ هم الذين تتحقق فيهم صفات الخالق سبحانه وتعالى ضمن حدود ضعفهم البشري، والصالح منهم من رضي بمكانة الخليفة لله في أرضه، يطيعه ويُسلم له ويعبده ولا يستكبر عن عبادته، ويرى أغلى ما في حياته وأهمه وأعظمه قيمة أن يحقق صفات الخالق في نفسه إلا ما حرم عليه من صفات الكبر والعظمة والتعالي. فتكون معاني صفات الله تعالى المباحة للإنسان المستخلف في الأرض هي القيم التي يعيش لها وتكون معياراً لسلوكه، وعندها يكون العدل قيمة لذات العدل، وتكون الرحمة قيمة لذات الرحمة، وتكون القوة قيمة لذات القوة، ويكون الصبر قيمة لذات الصبر، ويكون الشكر قيمة لذات الشكر، ويكون العلم قيمة لذات العلم،… الخ من قيم الاستخلاف في الأرض، وتكون الخلافة في الأرض في جوهرها تحقيق هذه الصفات وهذه القيم في واقع البشر فيكونون تلك المخلوقات التي خلقها الله من تراب، ثم إذا هي كائنات على صورته تحقق في نفسها صفاته وأخلاقه وتحاكي بعض أفعاله ضمن بشريتها الضعيفة، وتكون سيدة في الكون من بعده، لا نداً له ولا منافساً وبذلك تكون خليفة له في أرضه.
لكن من البشر من تستهويه في صفات الخالق تلك الصفات التي حرمها عليهم من الكبر والعلو والعظمة، فيستكبرون على الخلق، ويستكبرون على الخالق، ويمنعهم كبرهم من الطاعة والاستسلام لرب العالمين، فيتمردون ويفسقون، حتى أنهم أحياناً يرفضون حتى الإقرار بوجوده سبحانه وتعالى، ولا يرون في الكون سيداً غير أنفسهم؛
إنه التأله في الأرض بدل الخلافة، وإنها المنافسة للخالق بدل الطاعة والاتباع، وإنه العلو في الأرض والاستكبار والتجبر فيها، بدل العدل والرحمة والإسلام فيها لمالكها وخالقها، وعند هؤلاء لا قيمة لشيء إلا للعلو في الأرض والكبرياء والعظمة والتجبر، وتكون هذه المعاني هي القيمة التي يعيشون من أجل تحقيقها، وتصبح القيم الأخرى النابعة من حقيقة أنهم خلقوا على صورة الرحمن وخلقوا للخلافة في الأرض، تصبح خادمة للقيمة الكبرى التي يعيشون لها، فالعلم قيمة لديهم لا لذاته، بل لأنه وسيلتهم للعلو في الأرض، والشعور بهذا العلو ، والقوة قيمة لديهم لذاتها، بل لأنها وسيلة إلى العلو في الأرض، والشعور بهذا العلو، والرحمة قيمة لديهم لا لذاتها، بل لأنهم يشعرون من خلالها بعظمتهم الموهومة لأنهم قادرون على الرحمة مثلما هم قادرون على الانتقام، ثم هي مرغوبة لديهم لأنها تأتيهم بالسمعة والثناء والحمد من الناس وتكون أيضاً وسيلة لهم إلى العلو في الأرض، وكذلك حال باقي القيم الكريمة، إنها محمودة لديهم ومرغوبة ما دامت توصلهم إلى العلو في الأرض وإلى المزيد من الشعور بالعظمة والكبرياء؛
ومع أنهم رفضوا التبعية والخلافة عن الله في الأرض، وأرادوا أن لا يكون مكانة في الأرض إلا للإنسان، وابتدعوا لاستكبارهم على خالقهم أسماء جذابة مثل وصفهم لأنفسهم ولأفكارهم بأنها "إنسانية"، رغم كل مكرهم فإنهم لم يتعدوا قدرهم، خلفاء في الأرض رغماً عنهم، يحققون غاية خلقهم، كائنات ترابية على صورة الرحمن تتمثل فيها صفات الخالق، لكنهم اختاروا الصفات التي تحرمهم الجنة "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (القصص:83)، وقوله تعالى ولا فساداً إشارة إلى صنف آخر من الذين رفضوا دور الخلافة في الأرض، وفي الوقت ذاته لم يروا لأنفسهم قدراً ولا قيمة، لذا لم يستهوهم السعي إلى العلو والكبرياء في الأرض، فكان سعيهم إلى المتعة والمجون والبهيمية والخروج عن كل قيد أخلاقي أو ديني، بل متعتهم هي في إتيان المحرم وارتكاب الممنوع، نذروا أنفسهم للفساد في الأرض فحرم الله عليهم الجنة وجعلهم مع المستكبرين العالين.
وإذا تساءلنا عن القيم لدى هؤلاء الفاسدين وجدنا أن القيمة لديهم هي للتحرر من كل قيد ولفعل ما يريدون بلا ضوابط، لا من حلال ولا من حرام، ولا من ثناء الناس ولا من استنكارهم، إنما هي البهيمية وما يرافقها من شعور بحرية وهمية إذ هم مع حريتهم هذه عبيد لغرائزهم، لكنهم رغماً عنهم يحققون صفة من صفات الخالق وهي الحرية وأنه فعال لما يريد، لكنهم يحققونها بطريقة طفولية فيها منتهى الضعف، ضعف مع تمرد على الخالق ورفض لتكليفه لنا بعبادته والخلافة عنه في أرضه.
ويتبع >>>>>: بصائر نفسية إسلامية (4)
اقرأ أيضاً :
التربية: دعوة إلى الله ! / حتى نعْدل إن عاقبنا / مفهوم اللغة في حياة الطفل