Carl Gustav Jung
كارل غوستاف يونغ Carl Gustav Jung من أكبر علماء حركة التحليل النفسي، ويعتبر هو وآدلر وفرويد الأعمدة الثلاثة الرئيسة في هذه الحركة، وكان فرويد يريده خليفة له على تلك الحركة، وساعده على أن يرأسها لدى تكوين الاتحاد الدولي للتحليل النفسي سنة 1910، إلا أن يونغ Jung، كان من العلماء الأصلاء لا التابعين، رفض أن يشايع فرويد على نظريته التي يطبعها القول بالجنسية، ومن ثم فقد تنافرا بسرعة (1913) كما سبق أن تجاذبا بسرعة (1906)، وخرج يونغ Jung بنظريته الخاصة التي يذهب فيها مذهباً يساير فرويد لبعض الطريق ولكنه يخالفه في معظم الأحيان.
أطلق يونغ Jung على ما يقول به اسم علم النفس التحليلي Analytical Psychology . وما كان من الممكن أن يخلص يونغ Jung لرؤيا فرويد فالاثنان مختلفان ويكاد كل منهما أن يكون نقيض الآخر. فيونغ Jung سويسري مسيحي معتز بمسيحيته ومعروف بتقواه، ومنحدر من أسرة متدينة، فأبوه كان قسيساً، وكانت أمه شديدة التزمت بالورع. وبيت يونغ Jung بيت ثقافة، وفيه تعلم Jung اللغات القديمة وتعشقها وأغرم بدراستها، وخاصة اللغات القديمة، واللغة كما نعرف وعاء الحضارة، ومن ثم كان احتكاك يونغ Jung بالحضارات القديمة، وقد مال إليها بشدة حتى أنه انخرط في دراسة أساطيرها وعادات شعوبها والحفريات الموجودة عنها، ولم يكن فرويد من ذلك في شيء. ولم يكن يونغ مع ذلك بالإنسان الذي يعيش ما في الكتب القديمة، ولكنه كان ابن عصره في نفس الوقت، فاتجه إلى دراسة الطب.
تخصص Jung في مجال العقل والنفس وأحوالهما. وبعد تخرجه عيّن في إحدى المصحات العقلية، ودرس على يدي بلويلر وبيير جانيه، ثم استقال ليتفرغ للقراءة والبحث والسفر، وافتتح معهداً في زيورخ يعلم فيه علم النفس على طريقته ويحمل اسمه، وأغنى مكتبة علم النفس بعدد من الكتب ترجم منها إلى الإنكليزية:
(سيكولوجية العتاه الباكر Psychology of Dementia Praecox) (1907)، و(الصراعات النفسية في الطفل Psychic Conflicts in a Child) (1910)، و(نظرية التحليل النفسي Theory of Psychoanalysis) (1913)، و(بناء وديناميات النفس The Structure and Dynamics of the Psyche) (1916)، و(سيكولوجية اللا شعور The Psychology of the Unconsciou) (1917)، و(الأنماط السيكولوجية Psychological Types) (1921)، و(الإنسان الحديث في البحث عن روح Modern Man in Search of a Soul) (1922)، و(علم النفس التحليلي والتربية Analytical Psychology and Education) (1926)، و(العلاقات بين الأنا واللا شعور The Relations between the Ego and the Unconscious) (1928)، و(علم النفس والدين Psychology and Religion) (1938)، و(سيكولوجية النمط الطفولي The Psychology of the Child Archetype) (1940)، و(الطفل الموهوب The Gifted Child) (1943)، و(سيكولوجية التحويل Psychology of the Transference) (1946)، و(الفصام Schizophrenia) (1958)، و(الضمير من وجهة نظر نفسية A Psychological View of Conscience) (1958) الخ.....
يتبادر إلى الذهن تساؤل وهو هل كانت نظرية يونغ Jung خروجاً كاملاً على التحليل النفسي؟ الجواب بالنفي، وهكذا الحال مع كل حواريي فرويد، فهم قد يتحدثون حديثاً يُناقض فرويد، إلا أن ما يقولون به يظل مستمداً من فرويد وبوحي منه. ونظرية يونغ Jung هي إسهامه في النظرية الكبرى للتحليل النفسي، وهي نظرية تؤكد كأغلب نظريات التحليل النفسي على اللا شعور، إلا أن منظار يونغ Jung فيها أكبر وأعرض من منظور فرويد.
فإذا ذهب فرويد إلى إبراز دور الماضي في الطفولة على السلوك الحاضر وما يعتور هذا السلوك من اضطرابات، فإن يونغ Jung يجعل مفهوم هذا الماضي أوسع حتى ليشمل طفولة الفرد وطفولة الجماعة التي ينتمي إليها، والإنسانية كلها، وإذن يكون لدينا نوعان من الماضي، أحدهما ماضٍ خصوصي ويلحق به لا شعور فردي أو خصوصي هو مخزن هذا الماضي في الطفولة، والثاني ماضٍ جماعي هو تاريخ الشعب أو حتى التاريخ البشري كله، ويلحق به لا شعور جمعي فيه كل ميراث السلف.
وإذا قال فرويد إن هذا الماضي في الطفولة هو الذي يوجه السلوك، وهو إذن سبب وعلة كل اضطراب، فإن يونغ Jung لا يقتصر على تأكيد هذه السببية التي ذكرها فرويد، ولكنه يذهب إلى أبعد من ذلك فيؤكد أن السلوك الحاضر يصنعه الماضي كواقع، وأيضاً يصنعه المستقبل كإمكان، فنحن جميعاً لنات طلعات ونستشرف المستقبل، ونسعى لتحقيق أهداف وطموحات، وإذن فالغائية مقولة ضرورية مثلما العلية مقولة واقعية، وفي ذلك يقول يونغ Jung قولته الشهيرة (إن الإنسان تحركه الأهداف مثلما تحركه الأسباب)، وإذا كان فرويد لا يرى إلا أننا، بحكم ما لدينا من غرائز تسيطر على سلوكنا وتوجهه، نكرر ما سبق أن فعلناه، ونأتي من السلوك أموراً وكأنما نحن مجبرون عليها، وهكذا تتوالى أيامنا ويتكرر معنا التاريخ حتى يغلبنا الموت، فإن يونغ يقول بالنماء الذي لا يتوقف لقدرات الإنسان، وأنه، أي الإنسان، دائماً يسعى إلى الكمال، ويبحث عن الكل، ويشتاق أن يولد من جديد باستمرار.
والنفس الإنسانية عند فرويد بسيطة، والجهاز النفسي لذلك بسيط، من الأنا والأنا الأعلى واللا شعور. وهذه النفس عند يونغ Jung معقدة غاية التعقيد، وتتكون من عدد من النظم أو الأنساق. ويتحدث يونغ في مجال النفس عن الأنا، واللا شعور الذي يقسمه إلى لا شخصي ولا شعور جمعي، ويلحق باللا شعور الشخصي عدداً من العقد، كما يلحق باللا شعور الجمعي ما يسميه بالأنماط الأولية، ويجعل من هذه الأنماط ما يُطلق عليه أسماء الأنيما Anima والأنيموس Animus والقناع والظل. ويقول يونغ Jung بالذات وينسب للشخصية اتجاهات، ويتحدث عن وظائف سيكولوجية رئيسة.
وعندما يذكر يونغ Jung النفس فإنه يعني بها الشخصية ككل، فأما الأنا ego فهو بمثابة العقل الشعوري عند فرويد، وتكوين الأنا يتأتى من المدركات الشعورية والذكريات والأفكار والوجدانيات، وهو المسئول عن وعينا بهويتنا وباستمرار هذا الوعي بالهوية. وأما اللا شعور الشخصي personal unconscious فيشبه ما قبل الشعور عند فرويد، فهو وإن كان من اللا شعور إلا أن ما يلجأ إليه من الخبرات هو خبراتنا الشخصية الشعورية التي نتناساها بحكم تفاهتها أو تهافت ما يتخلف منها من انطباعات، فإذا ذكرنا بها ذكرناها دون جهد.
والجديد عند يونغ Jung هو أنه يلحق بها عدداً من العقد كالعقد التي قال بها فرويد ونسبها إلى اللا شعور، ومن ذلك مثلاً أنه يتحدث عن عقدة الأم ويقول إنها أهمها وأبرزها. والعقدة عنده اجتماع من عدد من الوجدانيات والمدركات والذكريات وتعمل كالنواة وتشد إليها مختلف الخبرات المشابهة. وعقدة الأم خبرة عامة عند الإنسان بما عليه الأم وكأنها صورة مشتركة للأم، أو صورة مثالية لمقتضى الأم، وتتحلق حولها خبرات كل واحد منا عن أمه، فتقوى الصورة وتكبر العقدة، وقد يوصف الواحد منا بأنه يعاني من عقدة أم، ونعني بذلك أن لأمه دوراً بارزاً في حياته، وأنه قد شغل بها وبما تقول وتفعل وتشعر به وتفكر فيه، وأن صورتها عنده تحتل مكانة أكبر من غيرها، ومن ثم فربما تتحكم فيه هذه العقدة ويغلب تأثيرها على سلوكه.
ومن هذه العقد أيضاً عقدة القوة، وهي العقدة الغالبة على سلوك الطغاة والمستبدين والغزاة والفاتحين. والعقد بشكل عام تعمل فينا لا شعورياً أي أننا لا نعي تأثيرها، وقد نتنبه إلى بعض هذا التأثير أو قد نعرف به جميعه.
واللا شعور الجمعي collective unconscious هو المقابل للا شعور الشخصي، ويطلق يونغ Jung عليه لذلك أحياناً اسم اللا شعور اللا شخصي، ومفهومه عند يونغ Jung يجعله من أكثر ما قال به من مفاهيم تعرف الجدال والخلاف، ووصفه له بالجمعي لأنه مخزن الذكريات والأفكار الجمعية أي التي كانت لنا بصفتنا الشخصية مثل اللا شعور الشخصي، ولكن بصفتنا كجنس إنساني، بل وبالصفة العامة جداً كجنس حيواني في الحقبة التي يعتقد بأن الإنسان كان فيها أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، وخبراته أو الانطباعات التي تخلفت فيه تراكمت بتكرار حدوثها عبر الأجيال وكانت مشاعاً بين كل البشر؛
ويعتقد يونغ Jung بأن لدينا كلنا هذا اللا شعور الجمعي وإن تفاوت ما لدينا منه من شخص إلى آخر، وليس تشابهنا فيه إلا لأن العقل فينا متشابه وتطوره عندنا كان تطوراً مشتركاً. وهذا اللا شعور الجمعي بمثابة استعدادات نتهيأ بها للتجاوب مع العالم ومواقفه، ويعطي مثالاً على ذلك أننا نلاحظ أن الناس جميعاً لديهم الاستعداد للخوف من الظلام، وهذا الاستعداد الكامن قد يظهر ويتدعم نتيجة لخبرات حالية، غير أننا ورثنا هذا الاستعداد عن الأسلاف لأن الإنسان عبر العصور الأولى كان يخاف الظلام المحفوف بالأخطار، وكان أخشى ما يخشاه قدوم الليل، فمعه يكون المخبوء من الأعداء والحيوان ويكون الموت.
ويعتقد بأن هذا الاستعداد الكامن فينا للخوف من الظلام يجعلنا مرهفين لكل خبرة تتعلق بالظلام، ويعتبره استعداد كامن لأنه محفور في العقل، وإنكار وراثته إنكار لتطور العقل ووراثته. وكذلك يعتبر يونغ Jung اللا شعور الجمعي بوصفه الأساس العنصري الموروث يقوم عليه البناء النفسي كله، وهو خبرات الأجيال وحكمة القرون، ويستقى منه الأنا ويصدر عنه، فإذا حدث أن انقطع ما بينهما اضطرب الأنا واضطربت بالتالي كل العمليات الشعورية فتكون الهذاءات والهواجس.
بقي أن أقول هنا أن يونغ Jung يطلق على هذه الاستعدادات الكامنة فينا اسم الأنماط الأولية archetypes، وهي أنماط سلوك بدائية تكون فينا أساساً للسلوك في المواقف التي تكون مشابهة لمواقف الإنسان الأولى، ومن ذلك أننا نسلك سلوكاً متشابهاً حيال الأم، كما أن للأم صورة أولية كانت في الماضي وما تزال حتى الآن، وهذه الصورة هي محصلة خبرات الأجيال، وعلى ذلك كلما تطابقت الأم الفعلية مع الأم الصورة كان التوافق في حياة الطفل والبالغ من بعد، فإذا حدث أن كانت الأم مسيطرة أو نابذة اضطربت حياة الطفل والبالغ من بعد.
وأيضاً فإننا من جراء رؤيتنا للشمس عبر القرون وهي تشرق وتغرب وتعطي الضوء والدفء والحياة يكون لدينا نمط أولي للشمس ويداخلنا منه إكبار لدورها وتقديس لها، وذلك كان سبب عبادتها كإله عند بعض الحضارات، وكان النمط الأولي للشمس واهبة النور والحياة هو نفسه النمط الأولي للألوهية، ويعتبر يونغ يطلق أن كل العقائد الدينية قلمت على أساس من هذا النمط، ويعتبر أن الإله فيها جميعاً هو القوى قوة مطلقة، وهو إله النور الواهب للحياة، وانبهارها بالشمس وبكل قوى الطبيعة المتفجرة بالطاقة كالرعد والبرق والأعاصير والبراكين والفيضانات، استولد فينا عبر القرون استعداداً كامناً لإدراك القوى العظمى والطاقات الهائلة، فكانت رغبتنا أن نخلق قوى مثلها ونتحكم فيها، ولعله لذلك ينبهر الطفل بالصواريخ النارية، ويتحمس الشباب للسرعة الفائقة في السيارة والطائرة، ويدأب أهل العلم على البحث في الذرة وإطلاق الطاقة الكامنة فيها.
والأنماط الأولية كثيرة في اللا شعور الجمعي بعدد خبرات الإنسان التي تتكرر معه عبر الأجيال، ونلاحظ منها بشدة أنماط الموت والسحر والبطل والطفل والمرأة والرجل والشيطان الغاوي والحكيم الشيخ والأرض الأم. والنمط نسق دينامي يعمل مستقلاً ومتفاعلاً مع الأنماط الأخرى وأنظمة الجهاز النفسي المختلفة. ولعل ما يلفت النظر من الأنماط مجموعة يفرد لها يونغ Jung الصفحات وتشغل من مذهبه مكانة عالية، وهي القناع والأنيما والأنيموس والظل، فأما القناع persona فيقول عنه يونغ Jung إنه الصورة العامة التي نحب أن نظهر بها أمام الناس، أو الدور الاجتماعي الذي يناط بنا أداؤه.
ودائماً هناك دور اجتماعي ينتظر كل إنسان ذكراً كان أم أنثى، وكان لنا هذا الدور عبر الأجيال كلها، والقناع لذلك نمط أولي، والإنسان يُحاول أن يوفق بين حاجات الأنا ومقتضيات الدور الاجتماعي، وإذا لم يستطع التوفيق بينهما فإن الشخص قد ينسى نفسه في الصورة الاجتماعية التي يبدو عليها، أو قد يفقد الدور الاجتماعي ويعيش لأناه فقط. وينشأ الاضطراب النفسي في الحالتين نتيجة اللا توافق بين الاثنين.
والتوافق مطلوب في كل مستوى، ومن ذلك المستوى الجنسي، والإنسان مزيج من الهرمونات الذكورية والأنثوية، إلا أنه قد تغلب عنده الهرمونات الذكورية فيكون ذكراً أو بالعكس، وقد تظهر الذكورة أكثر في الأنثى، أو بالعكس. وهذه الازدواجية الجنسية أكدها فرويد أيضاً، ونسب إليها الميول الجنسية المثلية عند البعض، ويعطيها يونغ Jung أسماء جديدة وأسباباً إضافية، فيقول إن الذكور والإناث قد تعايشوا عبر التاريخ، إلا أنه من طول معايشتهما انطبع الذكور ببعض جوانب الأنوثة، وانطبعت الإناث ببعض جوانب الذكورة.
ويطلق يونغ Jung على الجانب الأنثوي في الذكور اسم الأنيما anima، كما يطلق على الجانب الذكوري في الإناث اسم الأنيموس animus، وبسبب هذين الجانبين أو النمطين من أنماط السلوك يستطيع الذكور أن يفهموا الإناث وبالعكس، وأن يتعاونوا ويتشاركوا. ولنعطِ مثالاً للأنوثة في الذكور، بالرقة التي قد تكون بالبعض منا، والتي تعجب الإناث، مثلها مثل الخشونة في الطبع تكون في بعض الإناث وتستهوينا نحن الذكور. وقد يحدث أن يطغى الجانب الذكوري في الأنثى فتسلك كالذكور وتتشبه بهم، وذلك هو مرض التشبه من الاضطرابات الجنسية، أو يطغى الجانب الأنثوي في الذكر فيسلك كالإناث ويتخنث.
والظل shadow من الأنماط الأولية وفق رأي يونغ Jung، بمعنى أن هذه الحاجات الحيوانية أو الغريزية فينا التي نمت معنا منذ الأزل وتطالبنا بالإشباع، وبها تكون صحة الجسد، وبسببها قد نخرج عن الصواب ونخطئ. ومفهوم الخطيئة من مفاهيم الظل حسب اعتقاد يونغ Jung. ومعنى أن الغرائز ظل أنها تلاحقنا كالظل، ولكن الإنسان ليست حقيقته هذه الغرائز، وذلك سبب آخر من أجله أطلق يونغ Jung عليها اسم الظل.
والظل مسئول عن كافة الأفكار والرغبات والمشاعر غير المقبولة اجتماعياً والتي بها يكون تصادمنا مع العرف والتقاليد، ومهمة القناع أن يخفي هذا الجانب من جوانب الإنسان. والكثير من الأفكار التي يستولدها الظل تكبت في اللا شعور الشخصي، والكثير منها أيضاً يفلح في أن يتسلل إلى الأنا ويؤثر على السلوك. والإنسان عندما يكون ظله، يضطرب سلوكه ويجنح، وقد يسقط ظله خارجه ويسميه الشيطان والعدو. والظل هو الذي يدفعنا إلى الحركة والاشتهاء وأن نمارس حياة الجسد كاملة.
وأما الذات the self عند يونغ Jung فهي المركز الذي يجمع كل أنظمة النفس، وهي غاية الإنسان من حياته وسعيه فيها، وكأي من الأنماط الأولية تحرك السلوك وتدفعه نحو الكلية والشمول. والذات هي كمال الشخصية، وهي أعلى مراتب الوجود النفسي، ولا يبلغها الفرد إلا بعد أن تنمو كل نواحي نفسه نمواً تتكامل به الذات، وعندئذ ينتقل مركز الشخصية من الأنا إلى الذات. ولا تظهر الذات كعنصر مسيطر على السلوك والحياة النفسية إلا مع شخصيات كبيرة كالأنبياء وأصحاب الدعوات الكبرى، كالمسيح وبوذا.
لم يكن اكتشاف يونغ Jung لمفهوم الذات إلا من خلال دراساته في أديان الشرق وأساطيره وفلسفاته ومعتقداته، وعنده أن الذات تبلغ كمالها بالخبرة الدينية كاليوغا. ويونغ Jung إذ يقابل بين الأنا والذات فإنه إنما يطبق جدله السيكولوجي على كل مقولاته النفسية، وهو جدل يقوم على المتقابلات، بين اللا شعور والشعور، والأنيما والأنيموس، والظل والقناع، وعنده أن الأنا يتجه إلى الشيء نفسه بينما الذات توجهها نحو العالم، ومن ثم يقول باتجاهين يسمي أحدهما الاتجاه الانطوائي introversion ، ويطلق على الآخر الاتجاه الانبساطي extraversion .
هذان الاتجاهان معاً يوجدان في كل شخص، إلا أن احدهما قد يغلب على السلوك فيكون اتجاهاً شعورياً في الشخص، وعندئذ يكون الاتجاه المقابل هو الاتجاه اللا شعوري فيه، وبالمثل فإن الوظائف النفسية الرئيسة هي التفكير والوجدان والإحساس والحدس، فلو أن شخصاً أشرف على منظر طبيعي فإنه لو كان الوجدان عنده هو المسيطر فإنه سينبهر بجمال المنظر، ولو كان الإحساس المسيطر فسينظر إليه بدون انفعال وكما هو، أو كما لو كان ينظر في صورة فوتوغرافية، ولو كان من النمط المفكر فإنه سيحاول أن يمعن النظر في تفاصيله، ومما يتكون ولماذا هو على هذا الحال، فإذا كان نمطه هو النمط الحدسي فإنه قد ينبهر به باعتباره من نعم الله، وفيه تتجلى قدرته وعظمته.
ورغم غلبة وظيفة على سائر الوظائف فإن هذه الوظائف نفسها تتكامل وتتناغم، فالحواس تقرر لنا معطيات الواقع، والتفكير يدلنا على معانيها، والوجدان يهدينا إلى قيمتها، والحدس يشير علينا بما يمكن أن تتطور إليه في المستقبل. ولا تعني غلبة وظيفة انحسار الوظائف الأخرى وإنما هي تتفاضل بحيث قد تكون إحداها هي الأعلى فتكون هناك في المقابل الوظيفة الأدنى.
ولا يعني أنها أدنى أنها معطلة بل هي تعمل عملها وإنما يكون هذا العمل من داخل اللا شعور، فإذا غلب التفكير مثلاً فلربما يكون الحدس هو الأدنى، ويعمل التفكير شعورياً بينما يمارس الحدس نشاطه لا شعورياً. وذلك شأن النظم والاتجاهات عند يونغ Jung ، فمعنى ظهور أحدها أن الآخر لا شعوري، وقوة نظام أو اتجاه أو وظيفة عند يونغ Jung تعني أنه يعوض عن ضعف نظام أو اتجاه أو وظيفة أخرى، فمثلاً في حالة الاتجاهات لو كان الانبساط هو الغالب على الأنا الشعوري فإن اللا شعور سيعوض ذلك بأن ينمي اتجاه الانطواء المكبوت. والأحلام هي الأخرى تعويضية بحيث أن الشخص الذي تغلب عليه الانبساطية تجيء أحلامه بطابع انطوائي.
أما مبدأ التعويض الذي يؤكد عليه يونغ Jung يتيح التوازن بين قوى النفس بحيث تأتي الشخصية على قدر من الاستقرار، ويمنع التضارب فلا يكون التداعي بالأعراض العصابية. والجدل السيكولوجي الذي يذهب إليه يونغ Jung يقوم على التعارض بين قوى النفس أساساً.
والصراع واقع نعيشه مع أنفسنا ومن خارجنا، والصراع هو الذي يولد الطاقة التي يكون بها استمرارنا في الحياة، والصراع والتعارض رغم أنهما عاملا تنافر إلا أنهما يرتبان للتآلف وما يسميه يونغ Jung وحدة الأضداد، وهذه الوحدة تتم من خلال ما يطلق عليه اسم الوظيفة المتعالية transcendental function بحيث تجتمع كل النظم والوظائف والاتجاهات المتعارضة وتصطلح على التعايش رغم تعارضها، ويقوم على تعايشها توازن ضروري للشخصية هو توازن داخلي، يقابله توازن خارجي يقوم بين الذات والعالم الخارجي أو الذات والذوات الأخرى، ومن ثم تكون كل ذات منفتحة على الذوات الأخرى والعالم الموضوعي. وهذه الدينامية التي يقول بها يونغ Jung تعني أن كل ذات لا يمكن أن تنغلق على نفسها ولا أن تحقق حالة من الاستقرار الكامل، وهي في حاجة إلى طاقة مادية وطاقة نفسية لتمارس نشاطها. وتنشأ الطاقة النفسية بالطريقة التي تنشأ بها الطاقة المادية من عمليات الهدم والبناء.
يطلق يونغ Jung على طاقة الحياة اسم الليبدو libido سواء كانت مادية أو نفسية، وبينما يستنفد النشاط المادي الطاقة المادية فإن النشاط النفسي من إرادة ورغبة وانفعال تلزمه الطاقة النفسية. وتتوزع الطاقة النفسية على هذه المظاهر وأمثالها بقدر ما نعطيها من قيمة، وكلما كان للنشاط قيمة نفسية عالية كلما تطلب طاقة نفسية أكبر. وعلى ذلك تترتب النشاطات بحسب قيمتها للشخص باعتبار ما يبذل فيها من طاقة، فلو كنا نقضي في القراءة وقتاً أكبر مما نقضيه في الألعاب الرياضية فإن معنى ذلك أن للقراءة قيمة عندنا أكبر.
والقيم اللا شعورية مثلها مثل القيم الشعورية، وبمقدار ما نستطيع قياس القيمة النفسية لأي نشاط شعوري فإننا في الوسع أن نقيس القيمة النفسية النسبية للأنشطة اللا شعورية. فلو أن شخصاً تتحكم فيه عقدة الأم فإننا سنلاحظ أن هذا الشخص سيقحم أمه في كل نقاش بمناسبة أو بدون مناسبة، وإذا كان عليه أن يشاهد السينما فسيختار فيلماً يتعلق بالأمهات. وقد يتمادى هذا الشخص فتكون له آراء وأفكار ورغبات أمه، وقد يؤثر من النساء من يشبهها.
وقد نلحظ تأثير العقدة في فلتات اللسان عند هذا الشخص فقد يحكي قصة عن زوجته فينسى ويقول أمي ويقصد زوجته. ويستخدم يونغ Jung الألفاظ لاختبار وجود العقد اللا شعورية وقوتها، ويتكون اختباره من قائمة مقننة من مئة كلمة بحيث يمكن أن تستثير أية عقدة لو كانت موجودة، ويطلب من الشخص المراد اختباره أن يجيب بأسرع ما يمكن بما يعن من استجابات بأن يذكر كلمة واحدة كرد فعل للكلمة المثير، فإذا تأخر عن الاستجابة أكثر من اللازم، أو إذا لم يحر جواباً أو إذا أظهر انفعالاً ما فإن معنى ذلك أنه يعاني من عقدة تتعلق بموضوع هذه الكلمة. ونعرف شدة العقدة من المظاهر الانفعالية، كأن يدق قلبه وتتلاحق أنفاسه أو يمتقع لونه أو يعرق، ويطلق يونغ Jung على اختباره اسم طريقة التداعي بالألفاظ association method.
أما الطاقة النفسية عند يونغ Jung مثلها مثل الطاقة في الديناميكا الحرارية تسري عليها قوانين الانتقال والتعادل، بمعنى أن النظام النفسي الذي يشحن بطاقة نفسية أكبر على حساب نظام نفسي آخر فإن الملاحظ أن الطاقة تتجه إلى التدفق من النظام الأكبر طاقة إلى النظام الأقل طاقة. وكذلك في الاتجاهات فإن طاقة الاتجاه الأضعف سواء كان انبساطياً أو انطواء. وهذا الانتقال يستمر بهدف أن تتعادل كل الطاقات بكل أنظمة النفس واتجاهاتها. وتقوم سيكولوجية يونغ على أن نمو كل الجوانب النفسية مطلب مثالي متعذر التحقيق ولكنه مأمول، وأن نمو أي جانب على بقية الجوانب النفسية التوتر والصراع، وأن النمو المتعادل لكل مقومات النفس يؤدي إلى الانسجام ويرفع التوتر ويستحدث الرضا.
واستخدام الطاقة النفسية يتوجه في النهاية إلى هدفين، الأول هدف فطري غريزي تنفق فيه الطاقة في الأعمال التي من شأنها المحافظة على الحياة ولتكاثر النوع، ويخضع استخدام الطاقة للقوانين البيولوجية الطبيعية نفسها، والهدف الثاني يتجاوز الجوع والجنس، وتستخدم فيه الطاقة التي تزيد عن حد إشباع الجوع والجنس في النشاطات الثقافية والروحية، وهي نشاطات أرقى وأسمى. وبقدر ما يكون الإنسان أكفأ من حيث إشباع حاجاته البيولوجية بقدر ما يتبقى له من طاقة يلاحق بها اهتماماته الثقافية.
ويقوم منهج يونغ Jung في العلاج النفسي على دراسة الحالة عن طريق الأحلام الجميلة وليس تفسير الحلم الواحد. فالملاحظ أن بعض الأحلام تكوّن من بعضها البعض سلسلة ذات موضوع واحد قد يتغاير تناوله أو يتصل فتنفتح معانيها بالتدريج وكأننا إزاء عدة نصوص لسياق واحد. وقد يطلب يونغ من المفحوص أن يركز انتباهه على صورة من صور الحلم يراها مؤثرة ولكنها غامضة، وأن يرسم هذه الصورة كما يتخيلها ويسمي ذلك طريقة التخيل الإيجابي. وللرمز في الحلم وظيفتان فهو من ناحية يمثل محاولة إشباع غريزية قد أُحبطت، ومن ناحية أخرى هو تجسيد لمادة نمطية أولية. واستعان يونغ Jung على دراسة الرموز بالأساطير والكيمياء القديمة، وهو يجد تماثلاً بين الرمزية في الأحلام والرمزية الكيميائية القديمة.
يمكنني القول بعد هذا الشرح الوجيز أن سيكولوجية يونغ Jung يبدو أنها لم تترك أثراً كبيراً على علم النفس والطب النفسي برغم أن البعض ما يزالون يستخدمون طريقته في العلاج بعد تطويرها، وأما خارج هذين المجالين فتأثيره ملحوظ وخاصة على العلوم الكشفية والغيبيات والدين. وكان يونغ Jung يقول إن الله حقيقة نفسية وغير فيزيائية واضحة، أي أنه حقيقة يمكن إقامتها نفسياً وليس مادياً، وذلك فيما يبدو ما نفّر منه علماء النفس التجريبيين خصوصاً.
٠ نشرت في الشبكة العربية للعلوم النفسية (المصدر: المركز الرقمي للعلوم النفسية www.DCpsy.com).