هل يمكن فهم ما يجري في العالم، بما في ذلك تسوناميات الربيع العربية دون الإحاطة بكل المخاطر المحيطة بالعالم أجمع، هذه الأيام خاصة، ومنذ بضعة عقود؟
في بداية كتاب "خدعة التكنولوجيا"، ينبه المؤلف "جاك إيلول" إلى أن "لعبة الحقيقة تنطوي على مخاطر، كما أن لعبة الديمقراطية تنطوي على مخاطر وكذلك لعبة الثورة، كما أن تأدية هذه الألعاب مجتمعة تنطوي على مخاطر".
إن ما يتعرض له الوعي البشري كله خاصة في الثلاث عقود الأخيرة من خلال الإعلام خاصة أصبح لعبة من أخطر ما تعرضت لها البشرية عبر تاريخها. وأخطر آليات التمادي في ذلك هو أن تملك القوة المسئولة عن هذا الخطر كل أسلحة الانقراض الشامل، تبثها، وتروج لها، وتستعملها لأغراضها الخاصة، وهي لا تدرك مخاطرها التدهورية على مستوى العالم دون استثناء من يستعملها.
المسألة تتعلق بخطأ تطوري جارٍ يهدد الجنس البشري برمته، وقد استطاع بعضنا بفضل ما تميزنا (وامتُحنّا) به من "وعي" أن ندرك طبيعة وحجم وسرعة هذا الخطر، ونحاول تجنبه، لكن المصيبة أن نفس هذا الوعي الذي يمكن أن ينقذنا من خطر الانقراض هو ما يتعرض الآن للبرمجة المغرضة، والتشويه المنظم بألعاب الإعلام، وتفاهة التربية، وسوء التديّن، وتسويق ديمقراطية مغشوشة، وحقوق إنسان مضروبة.
الوعي هو غير العقل، واللعب في الوعي أخطر من غسيل المخ، الوعي هو غير التفكير وغير الذكاء وغير الإدراك وإن شملها جميعها. الوعي البشري، بما صار إليه، وما تمكن منه، هو الذي جعل أغلب ما كان يتم عند أسلافنا الحيوانات بطريقة آلية لحفظ البقاء، يجري عند الإنسان وهو خاضع للمراجعة والتخطيط والتعديل، أغلب الناس يفضلون الحديث عن عقل الإنسان وإنجازاته كأهم علامات ما وصل إليه من تطور، حتى أنهم اختزلوا الإنسان إلى ما يسمى "الحيوان العاقل"...، إن من أهم ما يميز الإنسان، بعد رحلته الرائعة حتى الآن، هو أن وعيه قد تطور حتى صار منظما بهيراركية بالغة الدقة متشعبة الإحاطة، حين تصورنا أن نشاط العقل الظاهر هو العامل الأرقى جدا في تنظيم حياة الإنسان كان الأمر قاصرا على التركيز على النشاطات المعرفية والمنهجية في مجالات بذاتها، لكن العقل حين تحالف مع إنجازات التكنولوجيا والعلم ليصبح أداة قصدية للإسهام في تشكيل وعي الجنس كله عبر العالم، أصبحت الحسبة أعقد من المنطق الظاهر، وأدعى للنظر والمراجعة، وأصبحت كلمة العقل محدودة المضمون بشكل أو بآخر.
كان الخطر قائما طول الوقت عبر التاريخ المعروف لما هو إنسان، إلا أن التباعد الجغرافي، والاختلافات العرقية والإثنية والدينية والثقافية بين مجاميع الناس، كانت تحول دون أن يمتد الخطر التدهوري الذي يظهر في بقعة جغرافية ما، أو في حقبة تاريخية بذاتها، إلى الجنس البشري كله بسرعة غير ملحوقة، كانت مثل هذه المخاطر محدودة بمحدودية إمكانات الانتشار (وأيضا بالحروب والإبادة وصراعات البقاء بين المجموعات المختلفة المتباعدة). الأمر اختلف الآن خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في أحرج وقت عرفته البشرية عبر تطورها. الخطر يتزايد جدا حين يترك الأمر في يد سلطة واحدة تحاول التحكم في العالم تحت اسم العولمة ضد كل تاريخ الحياة ، وضد الإنسان بما وصل إليه وما تميز به.
أخطر الخطر الآن أن تلك السلطة التي تحكم (وتتحكم في) العالم هي:
أولا: خفية،
وثانيا: غبية.
وثالثا: أحادية.
ورابعا: ناشز
لم تعد هي سلطة الدولة ولا حتى سلطة أفراد بعينهم مثل السفاحين والطغاة الذين عرفهم التاريخ، هذه السلطة الغامضة الناشز، تحكم العالم وتتحكم في معظم أسلحة الانقراض الكامل (وليس فقط الدمار الشامل) غير مدركة - كما أشرنا - أن اللعب الجاري إذا ما تمادى حتى حقق ما ينذر به، لن يستثنيها من الفناء.
"الوعي" كما أتناوله في هذه الأطروحة هو الوظيفة الأشمل للوجود البشري بيولوجيا ومعرفيا ووجدانيا على مستويات متعددة. هذا الوعي هو الذي مكّن الإنسان من احتواء تاريخه بشكل غير مسبوق، مثلا: هو الذي احتوى غريزة الجنس حتى لم تعد مقتصرة على حفظ النوع بالتكاثر، بل امتدت لتؤكد خاصية أخرى، لا يكون الإنسان إنسانا إلا بها، ذلك أن الكائن البشري لا يكون إنسانا إلا وهو مع – في علاقة بـ-إنسان آخر-: مختلفٍ مواكبٍ متفاعلٍ مبدعْ.
الوعي الذي أتحدث عنه ليس نقيض اللاوعي (اللاشعور بلغة التحليل النفسي الفروويدي) بل هو كل منظومة بيولوجية وجودية ظاهرة أو كامنة قادرة على التشكيل والتشكّل لتحقيق هدف معلن أو خفي. نحن لا نملك الوعي في مقابل ما هو "لا وعي"، نحن نعيش بمستويات متعددة من الوعي تتبادل وتتجادل وتتشكل طول الوقت.
هذا الوعي البشري هو أعظم ما أنتجه التطور بشكل واعد بما يتخلق منه أروع مما تخلق به، وهو هو الذي يتعرض في الآونة الحالية لمأزق تطوري حرج، ذلك أن الإنسان المعاصر قد حقق إضافات علمية وتقنية رائعة هي التي يستعملها في التعامل مع الوعي البشري بكل مستوياته، فتصيغه في تشكيلات وتنويعات غير مسبوقة بسرعة لا تسمح باختبارها: هل هي لصالح تطوره أم لمزالق فنائه.
من خلال هذه الآليات أمكن للسلطات المتحكمة في هذه الآليات أن تؤثر في تشكيلات الوعي بطرق متعددة تبدأ من تعديلات وتنويعات تكاد تشبه ما علمنا إياها الحاسوب ولا تنتهي عند ما نعلم. إن هذه السلطات السياسية المالية الظاهرة والخفية (وغيرها من وسائل التعليم والإعلام) يمكنها أن تضيف للوعي، وتحذف منه، وتعيد تشكيله، وتوسع ذاكرته، وتسرع من حركته، تماما مثلما نتعامل مع تحسين أو تحديث أو تخريب أي حاسوب (شيء أشبه بإضافة سعة ذاكرة الحاسوب كذا ميجا بايت، أو إضافة قرص عتاد خارجي يحمل آلاف المعلومات اللازمة، أو إضافة مفاعل للسرعة يسهل الإنجاز ويعمقه).
أصبح من الممكن بقصد أو بغير قصد، بحسن نية أو بسوئها – أن ندخل إلى الوعي برامج مقحمة ليست بالضرورة لصالح التطور أو الوجود الأرقى أو الجمال أو الإبداع، أصبح من الممكن تخليق غرائز استهلاكية قاتلة، وإقحام غرائز أيديولوجية زائفة، وتجميد غرائز دينية راسخة، أصبح من الممكن حشر معلومات اغترابية مدمرة، تماما مثلما يفعل الساديون أو العابثون حين يقحمون فيروسا مهلكا في الكمبيوتر.
وللحديث بقية......... اللعب في الوعي وأسلحة الانقراض الكامل (2من2)
واقرأ أيضًا:
متلازمة الغطرسة... والسلطة / حركة 20 فبراير حركة شعبية...!! / سيكولوجية الديكتاتور / الأزمة السورية بين الواقع والمأمول؟