لماذا شهدت بغداد حوادث نهب وفرهود مروّعة حين أطيح بصدام ونظامه، ولم تحدث مثلها في طرابلس حين أطيح بالقذافي ونظاه، برغم أن كليهما طاغيتان، وكلاهما حكم أربعة عقود؟.
السبب الأول، هو أن التدخل الأجنبي في ليبيا ساعد على إسقاط نظام القذافي وأبقى على الدولة، فيما كان هذا التدخل هو الذي أسقط نظام صدام وأسقط الدولة أيضا. وأن الثوار في ليبيا هم الذين اقتحموا طرابلس بأسلحتهم وبدبابات النظام وهم الذين حطموا تمثال القذافي، فيما الأمريكان هم الذين دخلوا بغداد بدباباتهم الأمريكية بعد أن أحرقوا الدبابات العراقية وهم الذين لفّوا رأس تمثال صدام بعلم أمريكا وأطاحوا به أرضا في ساحة الفردوس بقلب بغداد.
وبين هذا وذاك فرق سيكولوجي كبير هو أن الوطن حين يغزى من أجنبي ويطيح بالدولة، وليس بالنظام فقط، فإن الناس المحرومة تعطي لنفسها المبرر والحق بنهب وطنها الذي يرون أنه سينهب من قبل أجنبي، جبار، قوي، فيما الناس في الوطن الذي يقوم الثوار أنفسهم بإسقاط الطاغية ونظامه، لا تجرؤ.... خجلا أو خوفا من حساب آني أو مستقبلي، بالتجاوز على ممتلكات الدولة والناس، باستثناء المجرمين ومحترفي السرقة، وحتى هذه لم تحصل في طرابلس، لسبب آخر، هو أن قوى المعارضة السياسية حين تتوحد، وتقوم هي بفعل الثورة، فإنها تخشى أن تفقد هويتها الوطنية وصفتها الأخلاقية وهيبتها الاعتبارية حين تقوم بعض فصائلها أو تسمح أو لا تستطيع أن تسيطر على محاولات نهب المال العام والخاص، بعكس ما حصل في بغداد، لأن قوى المعارضة السياسية ما كانت صاحبة قرار، ولأن الأمريكان (المحررين الغزاة) حموا المؤسسات العراقية التي تخص مصالحهم (القصر الجمهوري ووزارة النفط تحديدا) وتركوا حتى مصارف الدولة للنهب والسرقة العلنية، لتثبت أمريكا للعالم بأدلة مادية عبر القنوات الفضائية بأن النظام في العراق انهار، وأن إسقاطه مشروع لأنه قبيح احتكر الثروة لنفسه وترك الناس في ثالث أغنى بلد نفطي، فقراء ينهبون حتى المهملات التي لا قيمة لها.
وسبب سيكولوجي آخر هو أن بغداد تعرضت في تاريخها إلى أكثر من عشرين مرّة لنهب وفرهود وإحراق مؤسسات، أكثرها بشاعة في نيسان 2003"*" وآذار 1991، نجم عنهما اقتران شرطي بين النهب وإسقاط النظام، جرى تشفيره في العقل الجمعي للعراقيين، فيما لم يحصل مثل هذا في طرابلس أثناء حكم القذافي، ولم يحصل في طرابلس بثورة الفاتح ما حصل في بغداد بثورة 14 تموز وقبلها في ثورة عام 41. ولم تتعرض طرابلس ما تعرضت له بغداد من حصار دام ثلاثة عشر عاما أكل فيها الناس خبز النخالة فيما حكّامها كانوا يأكلون لحم الغزلان. نعم، قد تكون حصلت في طرابلس عمليات نهب لم يغطها الإعلام كما غطاها في بغداد لأغراض خبيثة ،أحدها التشهير بالعراقيين، لكنها ما كانت قطعا بحجم ما حصل في بغداد.
على أن العامل السيكولوجي المشترك هو أن الانتماء للوطن لدى الشعوب العربية، أضعفه حكّامها، لا سيما صدام الذي ساوى شخصه بالعراق والقذافي الذي عدّ نفسه ملك الملوك وخليفة عبد الناصر وغيفارا، فحصل حين أطيح بهؤلاء الحكّام انهيار الانتماء القسري لهم، فنهب الناس ما حرموا منه أو ما عدّوه حقا لهم سلّبه منهم حكّام أنفقوه في ترف سفيه، ولا يدركون أنهم ينهبون الوطن لأن انتماؤهم له كان معدوما، ولأن الوطن الذي لا يحترم فيه المواطن ولا تتحقق فيه عدالة توزيع ثرواته على أبنائه، فإنه إما أن يهجره إلى مكان يشعر فيه بآدميته، أو ينهبه حين يطاح بطغاته.
لقد التقط الأجنبي العبرة وتفادى في ليبيا كارثة ما وقع في العراق. فهل يلتقطها أهل الوطن أنفسهم؟.
الجواب. نعم... شرط أن تعود ثروات الوطن لأهله، وأن يتولّى أمر شعوبنا من هو كفء ونزيه، فوالله لقد نهب الحكّام الجدد في العراق ملايين الأضعاف ما نهبه المحرومون واللصوص في بغداد وطرابلس!.
نقلا عن الشبكة العربية للعلوم النفسية
_____________________________________
"*": للإطلاع على أسباب ما حصل في العراق، نرجو مراجعة الدراسة الموسومة: (ظاهرة النهب والسلب في مدينة بغداد بعد سقوط نظام الحكم في العراق) المنشورة في كتابنا (بانوراما نفسية- منشورات دار دجلة- عمان).. فيما الغرض من هذه المقالة الصغيرة هو الإجابة عن التساؤل الذي طرحته في مقدمتها.
ويتبع>>>>>>> : سيكولوجيا النهب من منظور علمي
واقرأ أيضاً: