تعقيب على سيكولوجيا الفرهود بين بغداد وطرابلس
في بادئ الأمر أتوجه بالشكر للأستاذ قاسم حسين صالح على مقالته الشيقة حول سيكولوجيا الفرهود بين بغداد وطرابلس: الفقرتان الخمسة والسادسة من المقال توضح بصورة ذكية ودافئة الارتباط المضطرب للفرد العربي بوطنه نتيجة الكبت، غياب حرية التعبير، وانعدام الفرصة لتطور اجتماعي عادل ومستمر. ولكن هناك بعض الفقرات في المقال تستحق النقاش.
ارتبــاط الفــرد بالوطــن
إن ارتباط الفرد بوطنه أو بأرضه يمكن أن يبدأ الحديث عنه من خلال دراسة رواية الدكتور زيفاكو لباسترناك. عندما تم نشر هذه الرواية في الغرب انهمك الإعلام والناس بالحديث عن انتهاك حقوق الإنسان من قبل الشيوعية والكرملين وغضوا النظر عن هدف الرواية الذي يتمثل في ارتباط بطل الرواية بوطنه ومدينته موسكو مفضلاً البقاء فيها بعيداً عن عائلته وعشيقته. صور المخرج ديفيد دين هذا الارتباط في مطلع الفيلم ونهايته ولكن الإعلام انتبه للجانب السياسي للقصة فقط.
لا شك أن هذا الحب للأرض نادر في عالمنا هذا. خضع مفهوم الوطنية والارتباط بالأرض لعدة تطورات على مدى القرون الثلاث الماضية، ويمكن التعمق فيه من خلال دراسة تاريخ أوربا الحديث من منتصف الألفية الثانية وإلى يومنا هذا. ترى تعبير الوطنية يتراوح من مثالية مطلقة إلى حد وصفه من سمات الأوغاد.
إن ارتباط الفرد العربي بأرضه لا يختلف تماماً عن ارتباط أي فرد في أنحاء المعمورة، ولا بأس أن يكون نواة لدراسة علمية توضح هذا الجانب من سيكولوجية الفرد العربي. إن مفهوم الوطنية القومية في العالم العربي في صراع دائم مع البعد الديني الإسلامي الذي يؤكد دوما على الارتباط الروحي ثم الفكري بين الأفراد تحت مفهوم الإيمان.
سلــوك النهــب (الفرهــود) اجتماعيــا
يرتبط تعبير "الفرهود" بنهب ممتلكات أهل بغداد العراقيين يهود في الأربعينات كانوا يشكلون يوماً ما 25 % من سكان بغداد اعتمادا على وثائق حكومية عثمانية. كان هذا العمل الإجرامي وصمة عار في جبين المجتمع العراقي ولا أذكر عراقياً تكلم عنه إلا وصاحب كلامه الخجل والغضب من مرتكبي هذا الفعل الذي تم بتحريض من حلفاء المحور العسكريين أيامها. لا يزال لهذا الحدث تاريخه وتطرقت إليه صحيفة الجروسيلم بوست هذا العام بصورة علمية تحليلية.
إن عملية السلب والنهب لا تقتصر على المجتمع العراقي أيام الغزو الأمريكي عام 2003. لم تخلو شاشات الإعلام الغربي والعربي من عرض صور نهب بعد سقوط باب العزيزية. كذلك الأمر في مصر أثناء ثورة 2011 بعد غياب أجهزة الأمن من شوارع القاهرة حتى اضطر الجيش المصري لحماية ممتلكات المتحف المصري، ورغم ذلك لم يسلم من اللصوص.
بعيداً عن الثورات فإن عمليات النهب شائعة أيام الكوارث الطبيعية والبشرية في مختلف أنحاء العالم وحدثت في أمريكا الشمالية، أمريكا اللاتينية والجنوبية، وآسيا، وأفريقيا.
كذلك الأمر في غياب الكوارث والثورات فإن أعمال النهب قد تحدث أثناء أي اضطراب اجتماعي وكان ذلك في غاية الوضوح في فرنسا قبل عدة أعوام وفي سائر المدن البريطانية في آب هذا العام جراء اتهام عصابة بقتل أحد أعضائها ظلماً مما أشعل فتيلة الجريمة ليقوم بها أفراد لا شأن لهم ولا علم بما حدث.
خصوصيـــة المجتمــع العراقــي
إن التركيبة الاجتماعية للمجتمع العراقي وتاريخه السياسي يختلف تماماً عن بقية الدول العربية من زاوية التعددية الدينية، الاستقطاب المذهبي الإسلامي، والتعددية العرقية. أدرك المنتدب البريطاني هذا التعقيد السكاني، وحاول إدارة العراق بالتركيز على الانتساب القبلي والعشائري والذي بدوره يتعارض مع المفاهيم الحضارية الحديثة التي شاعت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
بعد عام 1958 حاول عبد الكريم قاسم، عفوياً أو غير عفوياً، جمع المجتمع العراقي والتركيز على انتسابهم للعراق تاركاً جانباً الانتساب القبلي والعشائري. ساعد قاسم في ذلك بأن والده كان عربياً سنياً ووالدته كردية شيعية، غير أنه كان يفتقد إلى قاعدة فكرية واضحة وكان ارتباطه بالحزب الشيوعي وأفكاره مضطرب وغير واضح.
بعد عام 1963 كان التوجه عربياً حتى منتصف السبعينات حين أدرك رجال السلطة بأن توحيد العراق تحت الراية العربية غير ممكن، وظهر التوجه نحو التركيز على الهوية العراقية التاريخية من أجل جمع الصف العراقي. لم تكن هذه الجهود فاشلة، وساعد نجاحها النهضة الاقتصادية والنفطية للعراق.
مع حلول الثمانينات دخل العراق حروب الخليج وبدأت عملية التدمير الاقتصادي، الاجتماعي، والأشد من ذلك النفسي المعروفة لجميع السكان في أنحاء العالم. عاد صدام حسين بعد المقاطعة الاقتصادية إلى اللجوء إلى اللعبة القبلية والعشائرية للسيطرة على البلاد ونجح إلى حد كبير في المسك بزمام الأمور لأكثر من عقد من الزمان وبالتالي لم يكن هناك مفر من غزو العراق من قبل أقوى جيش في العالم للتخلص منه.
إن الهوية القبلية العشائرية، والتي تتميز بتمسكها بمفاهيم بدوية تحبذ العنف، ربما تفسر كثرة أعمال النهب الجماعي خلال تاريخ العراق الأكثر دموية من غيره في بلدان الشرق الأوسط. إن هذه القيم البدوية ذاتها تفسر دموية المذابح والغزوات الوهابية لعدة مناطق عربية وعلى رأسها العراق في القرن التاسع عشر، وكذلك الأمر في تاريخ الخوارج في قديم الزمان.
التفسيــر العلمـي للنهـب
إن السلب والنهب هو سلوك مضاد للمجتمع في إطاره، ونسبته ثابتة إلى حد ما في جميع المجتمعات البشرية، ولكن محتوى هذا السلوك والتعبير عنه شديد الاختلاف بين مجتمع وآخر اعتمادا على النظام الاجتماعي، الرفاهية الاقتصادية، والثقافة التعليمية.
يمكن دراسة هذا الموضوع من استعمال نموذج تشريحي فسيولوجي للدماغ البشري. في أي وقت من حياة الإنسان هنالك فعاليتان في تفاعل مستمر:
1- التنظيم العاطفي والذي يتم في الجهاز الحوفي.
2- التنظيم الإداري والذي يتم في القشرة المخية، وبالذات ذلك الفص الأمامي من المخ والذي تقدر مساحته بثلث القشرة المخية.
إن الفعاليات الإدارية وتنظيمها لأي إنسان تعتمد على عتبة إزالة التثبيط والتي تختلف من إنسان وآخر كما يختلف البشر في اختلاف الوزن والطول وضغط الدم. رغم أن هذه العتبة يتم وراثتها عن طريق الوالدين غير أنها تخضع لعوامل بيئية متعددة منذ لحظة ولادة الإنسان مثل التغذية، التربية العائلية والصحة البدنية. متى كانت هذه العتبة عالية يكون الفرد أكثر توازناً، أكثر تركيزاً، أقل تهوراً، وأكثر إبداعاً. أما إذا كانت هذه العتبة واطئة فإن سلوك الإنسان يكون على العكس تماما.
إن عتبة إزالة التثبيط تخضع كذلك لتأثيرات التنظيم العاطفي جزئياً وليس كلياً بالمرة. بلا شك أن العواطف السلبية تؤدي إلى هبوط عتبة إزالة التثبيط على عكس العواطف الإيجابية التي تؤدي في أغلب الأحيان إلى ارتفاع العتبة.
على ضوء ذلك يمكن الجزم بأن الذين يرتكبون أعمال النهب في بادئ الأمر هم أفراد يتميزون بعتبة إزالة التثبيط الواطئة وبالتالي يمارسون سلوك مضاد للمجتمع وإجرامي. اعتمادا على الظروف المتاحة لهم، تراهم يمارسون الفرهود والنهب العلني أيام الاضطرابات الاجتماعية، سرقة الناس أيام السلم، وينهمكون بأعمال عنف عائلية، وغير ذلك من التصرفات الغير إنسانية.
استنتاجــات عامــة
1- إن أعمال النهب هي جزء من السلوك المضاد للمجتمع في أي مكان وزمان.
2- إن السلوك المضاد للمجتمع يخضع إلى درجة عتبة إزالة التثبيط. إن درجة هذه العتبة، رغم كونه وراثياً، ولكنه يتأثر بعوامل بيئية متعددة وفي مختلف مراحل الحياة
3- من العوامل البيئية التي يتميز بها المجتمع العراقي خضوعه لنظام قبلي وعشائري في غاية التعقيد شجعه المنتدب البريطاني في بداية القرن العشرين وعاد إليه صدام حسين في نهايته. الغاية كانت واحدة وهي المسك بزمام الأمور.
4- إن الانتساب العشائري القبلي يتعارض مع القيم الحضارية الحديثة، ويحمل في طياته نواة عدائية مضادة للبشر الذين ينتسبون لقبيلة أخرى إلى درجة إباحة ممتلكاتهم.
5- يتعارض الانتساب القبلي مع القيم الديمقراطية ويشكل عائقا في قيام حضارة مدنية في العصر الحديث.
نقلا عن: الشبكة العربية للعلوم النفسية